يقول تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاس بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ}(البقرة: 188).
وهذا تشريعٌ يضافُ إلى التشريعاتِ الإسلاميّةِ التي يُرادُ من خلالها تنظيم الواقع
الاجتماعي للمسلمين، ولكنَّه تشريع يتعلّق بالعلاقات الماليَّة بينهم، فإنَّ
الإسلام يقرّ بالملكيَّة الفرديَّة التي تقتضي اختصاص كلّ فرد بحصَّته من المال
الذي أعدَّه الله للإنسان وخلقه له، ولكنَّه نظّم له طريقة الاختصاص والتملّك بطرق
شرعيَّة خاصَّة، فأحلّ له ذلك بأسباب، وحرَّم عليه بأسباب أخرى، واعتبر كلَّ سبب لا
يقرّه الشرع باطلاً؛ لا يحقّق ملكاً، ولا يبيح تصرفاً، ونهى الإنسان عن كلّ علاقة
باطلة بكلِّ ما تستتبعه من أوضاع وتكاليف، وكنّى عن ذلك بالأكل، باعتبار أنَّ الأكل
يمثِّل أولى الحاجات الطبيعيَّة التي يُقبل عليها الإنسان في وجوده لحفظ حياته.
وربما كان التَّعبير بـ )أَمْوَالَكُمْ(، إشارة إلى أنَّ المال للجماعة، ولكنَّ
الله جعل لكلّ فرد منه حصّة خاصَّة يتصرّف فيها بما يريد، وبما لا يسيء إلى مصلحة
الآخرين، الأمر الَّذي يؤكِّد الصفة العامَّة للمال من موقع تأكيده الصّفة الخاصَّة،
على أساس أنَّ لكلٍّ منهما وظيفة ودوراً لا يتعدَّاه ولا يسيء في حركته العمليَّة
إلى الآخر.
ولا بُدَّ لنا في هذا المجال، من مواجهةِ كلِّ علاقاتنا الماليَّة، بالوعي الشَّرعي
الذي يميِّز بين الحقِّ والباطل فيها، في ما أباحه الله وفي ما حرّمه منها، وذلك في
ما يستحدثه النّاس من التشريعات الماليَّة في توزيع المال من جهة، وفي أخذه من
أصحابه من جهة أخرى، وفي ما ينحرف به السلوك في مجالات التطبيق الفردي والجماعي،
فعلى المسلم أن لا يندفع مع التيَّارات المتحركة في السَّاحة بعيداً من حكم الله،
انطلاقاً من الحالات الانفعاليَّة في الثَّورة على الظلم والظالمين، فإنَّ تحطيم
الظلم لا يمكن أن يحصل بظلم جديد آخر، بل لا بُدَّ من أن ينطلق من موقع العدل
المتمثّل بالتشريع الإسلامي.
وقد تعرّضت الآية، في حركة التطبيق العملي لهذا الخطّ، إلى ما يتعارف به بين النّاس،
من بذل الأموال لحكَّام الجور عن طريق الرشوة، من أجل أن يحكموا لهم بالباطل في ما
يتنازعون فيه من قضايا الأموال والحقوق، وفي ما يقدّمه بعضهم ضدّ بعض من دعاوى
باطلة؛ وتشجب الآية هذا السلوك، وتنبّه النَّاس إلى أن لا يقدِّموا أموالهم إلى
الحكام على سبيل الرشوة، من أجل أن يأكلوا فريقاً من أموال النّاس بالطرق غير
الشرعيَّة التي لا يكسب الإنسان منها إلَّا الإثم والعذاب عند الله، الذي يعلمونه
حقاً في ما أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله.
وفي الآية لفتة موحية إلى الحكام بطريق غير مباشر، في أن يمتنعوا عن أخذ ذلك،
باعتبار ما فيه من تزييف للحقّ بالباطل، ومن الحكم بالمال إلى غير مستحقّه، ما يؤدي
بهم إلى عذاب الله من جهة، وإلى عدم ضمان المال من جهة أخرى. وقد وردت الأحاديث
الكثيرة التي تفيد بأنّ رسول الله (ص) قال: «لعن الله الراشي والمرتشي والماشي
بينهما» بالرشوة، وفي بعضها، أنَّ الرشوة كفر بالله العظيم، وفي بعضها أنها شرك.
وقد يكون من بين الموارد التي تشملها هذه الآية - ولو بالإيحاء - ما يتعارف عليه
بعض النّاس من توكيل بعض المحامين ليدافعوا عن الدعاوى الباطلة، وليجدوا لأصحابها
مخرجاً من القانون يمكنهم من خلاله ربح الدعوى على الإنسان البريء أو المظلوم، وقد
يكون من بينها، ما يلجأ إليه بعض النَّاس من الرجوع إلى القانون الوضعي المدني،
الذي يحلِّل للنَّاس بعض ما حرّمه الله، كما في القوانين التي تساوي بين الذكر
والأنثى في الميراث، وذلك للحصول على الحصَّة التي لا يحلّها الشرَّع من المال، فإنَّ
ذلك أكل للمال بالباطل من جهة، وإدلاء بالمال إلى الحكَّام ولو بالواسطة من جهة
أخرى، في ما يتعلَّق بالمحامين الذين يحرم عليهم أخـذ الأجـرة على ذلك، كما يحرم
على الآخرين دفعهـا إليهم، لأنَّ ذلك باطل بباطل.
إنَّ كلَّ ما تقدَّم، يؤكِّد أنَّ على الإنسان المؤمن أن يصوغ حياته، حتى في
تفاصيلها الجزئيَّة، على أساس العدل، فلا يميل إلى الأقربين أو النفس، ليغلِّب جانب
الهوى والعاطفة على صوت الحقِّ والعدالة، ولا يميل عن الأبعدين أو الأعداء ليغمط
حقوقهم لمصلحة أقاربه أو نفسه، كما لا يتحرّك في كسبه للمال، أو في اكتشاف مواقع
الحقوق، بالأساليب الباطلة، والطرق المنحرفة، ليحصل على مكسب هنا، أو حظوة هناك،
فإنَّ كلَّ ذلك يصطدم بالمبدأ الأساس الذي تحرّكت الرسالات من أجل تأكيده وتركيزه
في حياة الفرد والمجتمع.
وفي كلّ ذلك، يتحرَّك الإيمان في الإنسان ليكون هو القائد لكلِّ مشاعره السلبيّة،
ولكلِّ أفكاره الأمَّارة بالسوء، ليحرّك إرادته في خطِّ العدالة، انطلاقاً من
حركيّة التقوى في نفسه، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت: 69).
* من كتاب "النَّدوة"، ج 16.