في الخطبة التي استقبل بها رسول الله (ص) شهر رمضان في آخر جمعة من شهر شعبان - كما روي عنه - ركّز على عدة جوانب في هذا الشَّهر، مما أراد للمسلمين أن يحصلوا عليه من مكاسب روحية واجتماعية وأخلاقية، بحيث يشعر كلّ مؤمن ومؤمنة بأنّه عندما يدخل هذا الشّهر، فإنما يدخله من أجل أن يخرج منه وقد حقَّق كلَّ هذه الأهداف، بحيث يراقب نفسه في كلِّ يوم من أيَّام هذا الشَّهر، ويسألها هل إنه كان في اليوم التالي أفضل منه في اليوم الأوَّل ليحقّق هذا الهدف أو ذاك، حتى ينتهي شهر رمضان وقد استطاع أن يحصل على المكاسب التي تنمي شخصيَّته وتجدّدهايستهدف التشريع بالصَّوم جانبين:
الجانب الأوَّل هو الجانب الروحي الذي يذكّر الإنسان بالآخرة، ونحن نعرف أنّ الإنسان كلما استغرق في ذكر الآخرة أكثر، انضبط في ما يقبل عليه من النَّتائج في أعماله بين يدي الله تعالى أكثر، لأنَّ الغالب منا أننا نغفل عن ذكر الآخرة، ولذلك فإنَّنا نستعجل أرباح الدنيا، ونتفادى خسائرها، ونعطيها كل اهتماماتنا العقلية والشعورية والعملية، أما مكاسب الآخرة وخسائرها، فإننا نواجهها باللامبالاة.
ولذلك، فإنَّ الغالب منا أمام غفلاتنا، هو أنه إذا دار الأمر بين أن يخسر أحدنا شيئاً في الآخرة، أو يخسر شيئاً في الدنيا، فإنه يغلّب خسارة الآخرة على خسارة الدنيا، أو إذا دار الأمر بين أن يربح شيئاً في الآخرة وشيئاً في الدنيا، فإنه يقدّم ربح الدنيا على ربح الآخرة. ولذلك، نجد أنَّ الله تعالى اهتمَّ في القرآن الكريم بالحديث عن الآخرة وأهوالها وحساباتها، حتى يظلّ الإنسان واعياً للآخرة، لأنه كلّما ازداد وعي الآخرة في مشاعره أكثر، انضبط في الدنيا بما يريد الله تعالى له أن ينضبط أكثر.
والجانب الآخر هو الجانب الاجتماعي الذي يتصل بعلاقة الإنسان بالفئات المحرومة.
في الجانب الأوَّل، نقرأ في الخطبة المروية عن النبي (ص) في آخر جمعة من "شعبان": "اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه"، وكأنه ينبغي للإنسان أن لا يتملّى من الطعام والشراب كثيراً، بل أن يتناول في سحوره ما يتحسَّس به بعض الجوع والعطش، حتى إذا أحسّ بالجوع والعطش، ذكر الموقف يوم القيامة، "يوم يقوم الناس لربّ العالمين"، "يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله"، وفي الآخرة، لا يوجد مطاعم أو سبيل ماء، ليس هناك إلَّا رحمة الله عزّ وجلّ.. ويوم القيامة قد يطول الحساب وقد يقصر، ولذلك فالذين عملوا السيئات ولم يتوبوا، فإن حسابهم سوف يطول، وبذلك سوف يطول جوعهم وعطشهم، أما الذين تابوا إلى الله تعالى توبة نصوحاً، وعملوا الصالحات في موقع الإيمان، فإنَّ موقفهم لن يكون طويلاً.
وفي الحديث: "فإن قال: فلم أُمروا بالصوم؟ قيل: لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش، فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً بما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب، مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات – لأن الإنسان قد يقبل على الشهوات أكثر وهو شبع، أما عندما يجوع، فإنه يخف ضغط الشهوة عليه. من هنا يُطلب من الشباب الذين لا يجدون فرصة للزواج أن يصوموا، باعتبار أنّ الصَّوم يكسر حدّة الشهوة في الجسد – وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورائداً على أداء ما كلَّفهم، ودليلاً في الآجل، وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا – لأن كثيراً من الناس لا يشعرون بجوع الجائعين وعطش العطاشى، لأنهم يملكون إمكانات مالية – فيؤدوا إليهم ما افترض الله تعالى لهم في أموالهم" .
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع): "أما العلة في الصيام، ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأنه لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله عزّ وجلّ أن يسوّي بين خلقه، وأن يذيق الغنيَّ مسّ الجوع والألم، ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع" . وورد في النتائج التي يحصل عليها الإنسان بالصيام، سواء كان واجباً أو مستحباً: "عليك بالصَّوم فإنه جُنّة من النار - والجُنّة هي الدّرع التي تقي الإنسان في ساحة الحرب – وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع فافعل". وفي الحديث عن رسول الله (ص): "لكلِّ شيء زكاة، وزكاة الأبدان الصيام".
أما ما يعطي الله تعالى الصائم من ألطاف وبركات وضيافات، فقد ورد في الحديث: "نوم الصَّائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف، إنَّ للصَّائم عند إفطاره دعوة لا تُردّ". فعلى الإنسان أن يبدأ فطوره بما أهمّه من أمر، فإنَّ الله تعالى بكرمه ولطفه يستجيب دعاءه. وفي الحديث عن رسول الله (ص): "الصَّائم في عبادة وإن كان نائماً على فراشه، ما لم يغتب مسلماً" . أمّا الصَّائم الذي يترك طعامه وشرابه، ولكنه يقضي يومه في المعصية في كلامه ومعاملاته، فقد ورد في الحديث: "ربَّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش، وربّ قائم حظه من قيامه السهر"، لأن جوهر الصوم هو التقوى، فمن لم يتقِ الله فكأنه لم يصم، وجوهر الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر، فمن لم ينتهِ عن الفحشاء والمنكر فكأنه لم يصلِّ...
هذا هو سرّ الصَّوم، وقد بدأناه، فعلينا أن نعمل على أن نصوم لله بعقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وكلّ حياتنا، أن نصوم عن كلّ ما يحدث الفتنة والفساد بين الناس، أن نصوم عن الظّلم، ولا سيّما ظلم الضعيف.
تعالوا لنتطهّر في هذا الشهر الذي سمّاه الإمام زين العابدين (ع) "شهر الطهور"، تعالوا لنغتسل من كلّ ذنوبنا وعيوبنا وأحقادنا وعداواتنا، تعالوا ونحن في ضيافة الله لنعيش مع الله، وعندما نعيش مع الله، فإننا نعيش مع الإنسان كلّه والمسؤوليّة كلها.
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 5 رمضان 1421 هـ/ الموافق: 1 كانون الأوّل 2000م..
* من خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ 26 شعبان 1426 هـ/ الموافق: 30 أيلول 2005م.