ينظر الله تبارك وتعالى إلى الإنسان من خلال عمله، ويقرّبه إليه كذلك
من خلال عمله، كما يُبعده عنه من خلال عمله. فالله، ليس بينه وبين أحدٍ من خلقه
قرابة، لأنّه هو الَّذي خلقَ الخلق كلّهم، فأيّ قرابةٍ بينه وبين مخلوقاته؟!
الأنبياء وحتّى الملائكة المقرّبون، إنَّما قربوا إلى الله من خلال إخلاصهم له، ومن
خلال عملهم له. وهو سبحانه أراد للنَّاس أن يهتدوا بهداه، وأن يتّبعوا رسالاته، وأن
يعملوا بأوامره ونواهيه. ولكنَّ بعض الناس يعتبرون أنَّ إمكاناتهم المادية تقرّبهم
عند الله، وبعضهم يعتبرون أنَّ علاقتهم النسبيّة تقرّبهم إلى الله، وبعضهم يعتبرون
أنَّ مجرّد حبِّهم لمن يحبّه الله كافٍ في أنْ يسامحهم الله على كلِّ جرائمهم
الَّتي اقترفوها لحساب مَنْ يحبُّون، حتّى لو تمرَّدوا على الله في حياتهم.
كان البعض يتحدَّث ويقول: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}، هكذا يعتقد اليهود أنّهم
وحدَهُم يدخلون الجنَّة ولا يدخلها غيرُهم، وكان النَّصارى يعتبرون أنفسهم أنّهم
وحدهم أهل الجنَّة، فليس لغيرهم حصَّة فيها، الله تعالى يردُّ عليهم
{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}[البقرة: 111]، هذه
أحلامهم، وهذه أمانيهم، وما أنتم إلَّا خلْقٌ ممّن خلق الله
{فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم}[المائدة: 18]، فإذا كان غيركم لا يدخل الجنَّة، فلماذا
يعذِّبكم؟ أنتم بشرٌ كبقيَّة الناس.
وهكذا يرى بعض المسلمين أنّهم لا يدخلون النَّار، حتّى ولو كانوا من أشدِّ المفسدين
والمجرمين في الأرض. وينطلق بعض النَّاس أيضاً في الدّائرة الضيِّقة من الدائرة
الإسلاميَّة من بعض شيعة أهل البيت (ع)، ليقولوا إنَّ النَّار لا تمسّ جسدَ شيعيّ،
لأنَّ حبّ عليّ (ع) حَسَنة لا تضرُّ معها سيِّئة، يعني حبّ محمَّد (ص) ليس له دور،
وحبّ الله ليس له دور، لكنْ حبُّ عليّ: {قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران: 31].
ونقولها بالطريقة الشعبيَّة: "ليس من أحدٍ فاتحٍ على حسابه"، حتّى الأنبياء
والأئمَّة والعلماء والمجاهدون "لم يفتحوا على حسابهم"، كلّهم ينطلقون من حسابات
الله، وحسابات الله كلّها دقيقة جداً: {فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً
يَرَهُ}[الزلزلة: 7 – 8]. الإمام الباقر (ع)، يقول: "يا جابر، أيكتفي من
انتحل التشيّع أن يقول بحبِّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله
وأطاعه... أحسب الرَّجل أن يقول أحبُّ عليّاً وأتولَّاه؟! فلو قال:
إني أحبّ رسول الله، ورسول الله خيرٌ من عليّ، ثم لا يعمل بعمله ولا يتبع سنَّته،
ما نفعه حبّه إيَّاه شيئاً... ما معنا براءة من النَّار، ولا على الله لأحد من
حجَّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تنال
ولايتنا إلَّا بالورع والعمل" .
وهناك نقطة أحبُّ أن تلاحظوها - لأنَّ الناس تأخذ الجانب العاطفي – وهي أنَّ الله
تعالى لم يُنزل الرسالات ويبعث الرسل من أجل أن يحصل الرسل على محبّة النَّاس،
وإنّما أراد من الرسل أن يتحبَّبوا للنَّاس، ويدعوهم لرسالاتهم، لأنَّ ذلك يجعل
النَّاس يسيرون مع رسالاتهم، فالله أرسل كلَّ الأنبياء، وسار وراءَهم الأوصياء
والأولياء من أجل أن يبلِّغوا رسالات الله، وأن يحوِّلوا حياة النَّاس كلّها إلى أن
تكون تجسيداً لهذه الرسالات، وهذا هو المطلوب. حتّى الإيمان بالرسل، ليس شيئاً
مطلوباً بذاته، بل هو مطلوب لأنَّ الإيمان بالرسول يؤدّي إلى الإيمان بالرسالة،
والإيمان بالرسالة يؤدّي إلى اتّباع الرسول.. لذلك، ليس عندنا حبٌّ لشخص مجرّدٌ عن
التحرّك في خطِّ هذا الشخص، ليس هناك حبّ منطلقٌ من حالة ذاتيَّة، نحن نحبّ رسول
الله (ص) لأنّه رسول الله وعبده، نحن نحبّ عليّاً (ع) والأئمّة الطاهرين من أهل
بيته (ع)، لأنَّهم أولياء الله، لأنَّهم والوا الله، فكيف نكون موالين لهم، وموالين
لأعداء الله؟! ليس هناك شيء اسمه محبَّة، هناك شيء اسمه موقف، فالشّيعي معناه
التَّابع، أن تتَّبع هُدى الله {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}[الأنعام: 153].
لذلك، ليس هناك أيّ علاقة شخصيَّة بين النَّاس وبين الأنبياء والأولياء، وإنّما
علاقتنا بهم علاقة رساليَّة، علاقة عمل، وعلاقتُنا بهم من خلال الله لا من خلال
شخصيَّاتهم.
* من كتاب "للإنسان والحياة".