ينشط العلامة السيّد علي فضل الله في أكثر من موقع ومجال من أجل مواجهة مختلف التحدّيات في الساحة اللّبنانيّة عامّة، والإسلاميّة خاصّة، وهو أطلق مبادرات حواريّة عدّة، ومنها "ملتقى الأديان والثقافات للتّنمية والحوار"، و"المنسّقيّة العامة لشبكة الأمان للسِّلم الأهلي"، و"اللقاء التشاوري العام". وتحوّل مقرّه في حارة حريك إلى مساحة حوار وتواصل مع العديد من الشخصيات السياسية والدبلوماسية العربية والأجنبيّة، وآخرها السفير المصري والسفير الألماني. كما أنّ "جمعية المبرات" و"مركز التآخي الطبّي" ومؤسَّسة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، من المؤسّسات التي يرعاها من أجل مواجهة مختلف التحدّيات الاجتماعية والمعيشية والصحية والتربوية.
في لقاء خاصّ مع "أساس"، دعا فضل الله إلى العمل من أجل إطلاق مبادرات متنوّعة، تصدّياً لخطاب التقسيم والعنف، وما يواجهه الإسلام في العالم من تحدّيات، مؤكّداً مسؤوليّة اللّبنانيّين في الوصول إلى حلول للأزمة الراهنة وعدم انتظار المبادرات الخارجيّة.
وهنا نصّ الحوار معه:
هل يقسَّم لبنان؟!
ـ كيف تنظرون إلى الواقع اللّبنانيّ اليوم في ظلّ أجواء المخاوف المتبادلة من كلّ الأطراف اللّبنانيّين والدّعوات إلى التقسيم أو الفيدراليّة أو تغيير النظام؟
ـ لم تمضِ مرحلة على الكيان اللّبناني منذ نشوئه، إلا وكانت فيها الطوائف أو القوى الممثّلة لها، تعيش المخاوف والهواجس بعضها من بعض، وهذا يعود إلى تركيبة النظام منذ تأسيسه على أساس طائفيّ.. الجديد هو وصول هذه المخاوف في هذه الفترة إلى الدّرجات القصوى، كأنّ ثمّة إحساساً عند العديد من الطوائف، أنها مهدَّدة في وجودها وحريتها، وأنّ المنطقة على عتبة رسم خريطة جديدة تعيد تأسيس الكيانات والدول على أسس مختلفة.
البعض يرى الإنقاذ في التقسيم أو الفيدراليّة، والبعض الآخر في إعادة تكوين السلطة لتعزيز موقعه الطائفي, فيما يكمن الحلّ الوحيد للبلد في قيام دولة المواطنة، وهذا ما يحتاج إلى نضال طويل تتبلور عبره كتلة شعبيّة عابرة للطوائف، ويلتفّ حولها اللّبنانيّون الذين لم يحصدوا من هذا النظام الطّائفي إلا الآلام والمعاناة، وكلّ ألوان الحروب والانقسامات.
السَّبيل لمواجهة الأزمة!
ـ يعيش لبنان أزمة اقتصاديّة وماليّة قاسية، ولا سيّما بعد انفجار المرفأ. ما الطريق الأفضل لمواجهة هذه الأزمة؟ وكيف تقوّمون المبادرة الفرنسيّة؟
ـ لا مستقبل للبلد إن لم يكن اقتصاده قائماً على الاقتصاد الإنتاجيّ، وليس كما في بلدنا القائم على النظام الرّيعي. وفي لبنان، هناك من القدرات الشبابيّة التي تمتلك طاقات علميّة ما يمكن أن يكون لها دور أساس في تطوير الاقتصاد، ولا سيّما في مجال اقتصاد المعرفة، إضافةً إلى القطاعات الإنتاجيّة الأخرى. ثمّة حاجة إلى رؤية اقتصادية بديلة.. والحلّ المطروح لا يكون عبر الانصياع لشروط صندوق النقد الدّولي، بل لا بدّ من التعامل معه وفق أسس متوازنة، فلا يكون النّاس ضحيّة الإصلاح المقترح، وإلا فسوف نكون أمام ثورة شعبيّة واسعة تطيح ما تبقّى من هذا البلد.
أما المبادرة الفرنسية، فثمّة الكثير من بنودها يمثّل أساساً للحلّ، وتبقى بنود أخرى قابلة للنقاش والحوار. وإذا خلصت النيّات، فبالإمكان أن تشكّل هذه المبادرة مخرجاً، ولو محدوداً، للواقع البائس الذي نعيشه.
تشرذمٌ في السّاحة!
ـ تعاني الساحة الإسلاميّة من حال من التّشرذم بعد التطوّرات التي مرّ بها لبنان والمنطقة، فما السبيل، في رأيكم، لمواجهة ذلك؟
ـ لعلّ ما تعانيه الساحة الإسلاميّة من تشرذم وانقسامات، ينطبق على غيرها من السّاحات، بالنظر إلى انعكاس الأزمة الماليّة والاقتصاديّة، وواقع اللا استقرار السياسيّ لدى جميع المكوّنات اللّبنانيّة، ومنها المكوّن الإسلاميّ.
ولكن ثمّة أسباب أخرى ساهمت في هذا التّشرذم الذي تعيشه الساحة الإسلاميّة في لبنان، ومنها تعدّد المحاور العربيّة والإسلاميّة المؤثّرة في هذه الساحة، وشعور الكثير من الأطراف الداخليّين بالحاجة إلى حماية أنفسهم ومواقعهم ومواقفهم بالاستناد إلى من يقف إلى جانبهم في الإقليم، وإذا كان ثمة من يتحدّث عن وجود محاور منذ عقود، إلا أنها لم تكن بهذه الحدّة، ولم تكن الخيارات المطروحة كما هي الآن، فقد باتت التحدّيات أكبر بكثير من تلك التي كانت تتركّز على أساس واحد تقريباً يتّصل بالصراع مع الكيان الصهيوني، ويتمحور حول القضيّة الفلسطينيّة، وإن كان ذلك الصراع يحتلّ مركز الأولويّة.
قد تكون الانقسامات والتّشرذمات ناشئة أيضاً من شعور الأحزاب والحركات والمكوّنات الشعبيّة والدينيّة والسياسيّة بأنها مهدَّدة على مستوى الوجود. وإنّ ما حدث منذ "الربيع العربي" إلى الآن، لا تزال تردّداته تتواصل على مستوى الأنظمة والدّول، فكيف بالأحرى فيما يتصل بالمكوّنات الأخرى، وخصوصاً في ساحة متنوّعة كالساحة اللّبنانيّة التي تتغذّى من كلّ مشاكل المنطقة. وقد جاءت سياسات التطبيع لتفاقم من هذه الانقسامات...
وأنا لا أرى سبيلاً للخروج من حال الخوف والانكماش الداخليّ إلا بإعطاء الأولوية لإنقاذ البلد من الانهيار، وذلك بتوسيع نطاق الحوار الصّريح والواضح، والّذي من شأنه أن ينتزع الهواجس الكثيرة المزروعة في اللاوعي عند هذا الفريق أو ذاك. وعندما يقطع الحوار مسافة في مسألة انتزاع الخوف من هنا وهناك، نكون قد مهَّدنا الطريق نحو التقارب الذي من شأنه أن يعيد الأفق نحو ترميم السّاحة وحفظ البلد من الانهيار.
مخاوف غربيّة
ـ التقيتم خلال الأسبوع الماضي بعدد من سفراء الدول الأوروبيّة والعربيّة. ما هي خلاصة هذه اللّقاءات؟ وهل هناك إمكانيّة لدور أوروبي ــ عربي لإنقاذ لبنان مما يعانيه؟
ـ ربما كانت النقطة الأساسية المشتركة التي تركّزت عليها هذه اللّقاءات، والتي أبرزت مدى اهتمام السفراء الأجانب والعرب وخوفهم، تتمثّل في التشاؤم حيال ما قد يصل إليه لبنان في حال استمرّت الخلافات السياسيّة وتأخّرت ولادة الحكومة، حيث يُجمع هؤلاء على أنَّ لبنان مقبل على أوضاع خطيرة جداً، وخصوصاً إذا رُفع الدّعم عن المحروقات والخبز والدّواء، وأنه قد يشهد اضطرابات وفوضى داخليّة وموجات جوع قد تؤدّي بالبلاد إلى المجهول.
كما لاحظت أنّ الطبقة السياسيّة تحاول تبرئة نفسها أمام السِّلك الدّبلوماسي العربي أو الأوروبي، فيما تُلقي باللائمة على غيرها. وكلّ واحد يحاول أن يوحي بأنّه بريء من الفساد والمحاصصات والاختلاسات..
أمّا الحديث عن دور أوروبي عربي، فأنا أميل إلى مقولة أنَّ على اللّبنانيّين مساعدة أنفسهم قبل أن يفكّروا في العناصر الخارجيّة المساعدة. فنحن نرى أنّ المسؤولين اللّبنانيّين لم يؤدّوا دورهم المطلوب، بل تركوا الأمور تتفاقم. ولذلك، فإنّ عدم تحمّلهم المسؤوليّة سوف يكون عنصراً سلبياً دافعاً لكي لا يتحرّك أحد لإنقاذ هذا البلد الذي يبدو أنّه سيموت موتاً بطيئاً، وهو يتحوّل إلى دولة فاشلة إذا استمرت الأمور على هذا النحو.
نحن بحاجة إلى ديناميّة حقيقيّة تدفع بالآخرين إلى الاهتمام بلبنان، وخصوصاً بعدما فقد البلد الكثير من عناصر الإغراء الاقتصادي والسياسي التي مثّلت أسباباً راجحة في اهتمام الآخرين به، وإن كنت أرى أنَّ الأمور باتت أسهل لدخول البلد في مسار المعالجة، بعدما باتت المصيبة على الأبواب من جهة، وبعد انفكاك أكثر من عقدة تتّصل بالمحاور الخارجيّة وشعورها بضرورة إعطاء لبنان الأوكسجين، لا ليتعافى، ولكن ليستمرّ إلى حين انقشاع المشهد كاملاً من حوله.
عقدة فرنسيّة ضدّ الإسلام
ـ أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ملاحظات قاسية ضدَّ الإسلام والواقع الإسلاميّ، بحجّة الدور السلبي للتنظيمات الإسلاميّة. كيف تنظرون إلى هذه الملاحظات والاتهامات؟
ـ يبدو أنّ أكثر الكلام الغربي الذي يوجّه إساءات إلى الإسلام، لا يزال يتغذّى من عقدة تاريخيّة مستحكمة ضدّ الإسلام. وتزداد حدّة هذه الإساءات مع ارتكاب بعض الأفراد والجماعات لجرائم إرهابيّة تحت عنوان الإسلام، فيما الإسلام بريء من هذه الجرائم، والتي تنطلق من خلفيّات خاصّة وردود فعل ذاتيّة على إساءات حصلت لهم، أو لما يرونه من مقدّسات تعرَّضت للإهانة والاحتقار.
أمّا الأعمال التي تقوم بها بعض المنظّمات الإسلاميّة المتطرّفة، فهي تستهدف الغربيّين كما تستهدف المسلمين الذين كانوا ضحايا جرائم هذه المنظمات في أكثر من منطقة من العالم الإسلامي، وهؤلاء هم موقع إدانة الجميع.
إننا نرى أنّ مسؤوليّة المرجعيّات الإسلاميّة كبيرة في تقديم خطاب إسلاميّ يدحض كلّ مقولات التطرّف، وينزع عنها كلّ شرعيّة دينيّة...
كما نرى أنّ معالجة ما يسمّى مشكلة المسلمين في فرنسا أو في الغرب، تتمثّل في سعي الحكومات إلى طمأنة المسلمين بأنهم ليسوا مستهدفين في خصوصيّاتهم وهويّتهم، ومساعدتهم على الاندماج مع الحفاظ على هذه الخصوصيّات التي لا نظنّ أبداً أنها تهدّد فعلاً عمليّة الاندماج. وحين يشعر المسلمون بالاطمئنان لا بالقهر، فسوف نرى التطرّف ينحسر ولن يبقى له أيّ حاضنة.
وهنا أدعو مجدّداً إلى ضرورة التفريق بين حريّة التّعبير وحريّة توجيه الإساءة إلى المقدّسات الإسلاميّة، كما حدث في قضيّة الرسوم الكاريكاتوريّة التي تهاجم النبيّ محمّداً، كما أنّ الحجاب لا يجب النظر إليه من موقع أنّه شعار ديني يعيق الاندماج، بل من موقع أنّه واجب من الواجبات الدينيّة التي لا يمكن للفتاة تركها.
إنّنا بحاجة فعلاً إلى حوارٍ صادقٍ وجدّي إسلاميّ ــ غربيّ يبدي فيه الجميع انفتاحهم بعضهم على بعض، وأرى أنّ مثل هذا الحوار إذا انطلق من انفتاح حقيقيّ على المسلمين وقضاياهم ومشاكلهم، فسوف نرى أنَّ ساحة الاعتدال الفكري والسياسي ستصبح هي السّائدة في المجتمع، ما يضعف حال التطرّف التي تقتات على بعض الاختلافات الطبيعيّة بين الثقافات والأديان خدمةً لمصالح سياسية فئويّة.
إعادة تصحيح الواقع
ـ من خلال تواصلكم مع الأزهر الشّريف والمؤسّسات الإسلاميّة، هل هناك، في رأيكم، المجال لإعادة تصحيح الواقع الإسلاميّ الصّعب، في ظلّ الانقسام الكبير في المنطقة وانتشار موجات التطرّف المذهبيّة؟
ـ نتواصل مع الأزهر الشّريف ومع تطلّعاته الرامية إلى الحفاظ على الوحدة الإسلاميّة المباركة. وقد ساندنا المبادرات التي أطلقها الإمام الأكبر في مجال التقريب الإسلامي ــ الإسلامي من جهة، وتعزيز علاقات الأخوّة بين الأديان التوحيديّة، ولا سيّما في الغايات النّبيلة والعالميّة التي طرحتها وثيقة الأخوّة الإنسانيّة بين سماحته وبين قداسة بابا الفاتيكان.
ولا نزال نعمل مع المؤسّسات الإسلاميّة في لبنان والمنطقة، لدرء الأخطار التي أصابت عواصمنا بفعل الانتشار المتسارع لحركات التطرّف واستخدامها العنف لتحقيق أغراضها المشبوهة.
لقد شكّلت مناهضة الإرهاب باسم الإسلام حافزاً قويّاً، لا لإعادة تصحيح الواقع الإسلامي فحسب، بل لتصحيح العلاقات المتوتّرة بين أبناء الأمّة الواحدة.