الآيــات
{واذكر أخا عادٍ إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلتِ النذُر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم* قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتِنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين* قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلتُ به ولكنّي أراكم قوماً تجهلون* فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليم* تدمّر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يُرى إلا مسhكنُهُم كذلك نجزي القوم المجرمين* ولقد مكنّاهم فيما إن مكنّاكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون* ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرّفنا الآيات لعلّهم يرجعون* فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلّوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} (21ـ28).
* * *
معاني المفردات
{النُّذُرُ}: جمع نذير، والمراد به الرسول.
{لِتَأْفِكَنَا}: لتصرفنا افتراءً.
{عَارِضاً}: العارض هو السحاب.
{تُدَمّرُ}: بمعنى تهلك.
{مَّكَّنَّاهُمْ}: أعطيناهم القدرة والاستطاعة على التصرف.
{وَحَاقَ}: حلّ.
{قُرْبَاناً}: ما يتقرب به إلى الله تعالى.
{إِفْكُهُمْ}: كذبهم.
* * *
العذاب ينزل على قوم هود
وهذا نموذجٌ إنساني من التاريخ القديم، يتمثل بهود الذي بعثه الله بالدعوة إلى عاد، ليدعوهم إلى توحيد الله في العقيدة والعبادة والسلوك، فلا يتطلعون إلى غيره، ولا يرتبطون بأحدٍ سواه، وكانوا يملكون القوّة والشدّة التي تدفعهم إلى اتخاذ موقف الاستكبار على الحق وعلى دعاته، فكذَّبوه وواجهوه بالجحود، فعجّل الله لهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة، جزاءً بما كانوا يستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كانوا يفسقون.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} وهو النبي هود (عليه السلام) الذي كان من هؤلاء القوم في نسبه، {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ} وهي المنطقة التي كان يسكنها قومه في جنوب الجزيرة العربية، {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} فقد جاء على فترة من الرسل، فلم يكن زمانه قريباً من زمانهم، ولم يكن في زمانه أحدٌ منهم، وكان أساس دعوته التوحيد الذي يختصر منهج العقيدة الفكري، ومنهج الممارسة العملي.
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} وقد نلاحظ أن الدعوة إلى توحيد الله في العبادة، تحمل إيحاءً عميقاً بأن العقيدة ليست حالةً تجريديةً في الفكر، بل هي حالةٌ حركيةٌ في العقل وفي الحياة، {إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أعدّه الله للجاحدين به، والمشركين بعبادته، في الدنيا والآخرة، لأنكم لا تملكون حجة على عبادتكم لهذه الأصنام التي اتخذتموها آلهة تعبدونها من دون الله جهلاً.
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا كذباً وافتراءً، بحديثك عن الله الواحد الذي لا ربَّ غيره، ولا عبادة لغيره، كما تتخيل وتتوهم، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} لأننا لا نرى في كلامك إلا التهويل الذي تسعى من خلاله إلى التأثير علينا بالضغط النفسي، دون أن يكون هناك أيّ أساسٍ لما تتوعد به، لأنك لا تملك قوةً ذاتية، ولا نرى لك أية قوّةٍ غيبيّةٍ. {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ} فلا أملك تفاصيل علم الغيب الذي أحدثكم عنه، لأنه ليس علماً ذاتياً أملكه، بل هو علمٌ يأتيني من ذي علمٍ، {وَأُبَلّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} من الله العليم الحكيم القادر الذي أمرني أن أبلغكم رسالة التوحيد، وأنذركم عذاب يوم عظيم، {وَلَكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} لأنكم لا تواجهون الأمور المطروحة عليكم بجدّيةٍ ومسؤوليةٍ كما يفرض العقل، فالإنسان لا بدّ من أن يفكر في أية فكرة يسمعها ويدخل في حوارٍ حولها مع من يثيرونها، لا سيّما إذا كانت متصلة بقضايا المصير، فكيف تقفون هذا الموقف المعاند دون أيِّ أساسٍ للعناد، وكيف تستهينون بالإنذار، وأنتم لا تعرفون خطورته على حياتكم؟
ونزل العذاب، {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} فقد جاء إليهم في صورة سحاب يعرض في الأفق ثم يمتد في الفضاء المطلّ عليهم، ليستقبل الوديان التي كانت تنتظر المطر الذي يملأ الينابيع ويروي الأرض، فـ{قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} فاستقبلوه باستبشار، كما يستقبل الناس العطشى المطر القادم إليهم عبر السحاب، ولكن المسألة ليست كذلك {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* تُدَمّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبّهَا} فقد استعجلتم العذاب ظنّاً منكم أنه لن يجيء، وها هو أمامكم، فكيف تواجهونه؟ وكيف تثبتون أمام التحدي؟ {فَأصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ} فقد هلك كل شيء فيها من الناس والدوابّ والأموال، {كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} الذين يحركهم في الحياة منطق الجريمة في مواجهة الرسالة، بالاستسلام لرخاء الحياة من حولهم، وللأمن في المستقبل في حركتهم، تماماً كما لو كانوا يملكون القوّة المطلقة في كل شيءٍ.
* * *
عبرة لكفّار مكة
والعبرة من هذه القصة موجهة إلى كفار مكة الذين كانوا يقفون ضد الرسول والرسالة، انطلاقاً من القوّة المالية والاجتماعية التي يستعملونها في تأكيد سيطرتهم. {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ} وأعطيناهم من القوّة البدنية {فِيما إِن مَّكنَّاكُمْ فِيهِ} أي ما لم نمكّنكم فيه، فليست لكم القوة التي كانت لديهم، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} يهتدون بها إلى حقائق الأشياء، ولكنهم عطَّلوا أسماعهم، بصمّ آذانهم عن نداء الحق، وجمَّدوا أبصارهم، بغضّها عن رؤية آيات الله في الكون وفي أنفسهم، وأغلقوا أفئدتهم عن الحق، وابتعدوا بعقولهم عن التفكير في دعوة الرسل لهم إلى عبادة الله الواحد، {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله}، وكان وجود هذه الحواس كعدمها، لأنهم لم يستعملوها في اكتشاف عظمة الله للوصول إلى الإيمان بوحدانيته، {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} من عذاب الله في الدنيا، في ما استعجلوه منه.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ الْقُرَى} التي أنذرناها ودعوناها إلى التوحيد {وَصَرَّفْنَا الاْيَاتِ} وحرَّكناها في أساليب مختلفة، في ما يفتح عقولهم على الرجاء بالله، وما يواجه مشاعرهم من الخوف من عذابه، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن الانحراف الذي يعيشون فيه، ويستقيمون في خط الحق الذي يربطهم بالله.
{فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ} هؤلاء الأوثان التي كانوا يعبدونها، أو أولئك الأشخاص الذين كانوا يتبعونهم في كفرهم وعنادهم، فهل نصرهم هؤلاء وأولئك ومنعوا عنهم العذاب، إذا كانوا في مستوى الآلهة أو بديلاً عن الله؟ إنهم لم ينصروهم لأنهم لا يملكون شيئاً من القدرة على ذلك، ولا يمثِّلون أيّ ثقل في ميزان القوة، {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} وابتعدوا، وانقطعت الرابطة التي تصلهم بهم، وبطلت مزاعمهم، {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} وكذبهم في ما يزعمونه من عقائد وأفكار، {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ويضلّلون به المستضعفين في قضايا العقيدة والحياة.