قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ
وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
}[البقرة: 245].
حرص الإسلام على تعزيز روح البذل والعطاء لدى الإنسان المسلم حتى الإيثار، لذا حمّل
كلَّ فرد في المجتمع المسؤوليّة في مدِّه يد العون إلى من يحتاج إليه، ولم ير ذلك
خياراً بل واجباً، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "
إنَّ الله لم ينعم على
عبد نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله، فمن منَّ الله عليه فجعله قوياً،
فحجّته عليه القيام بما كلَّفه، واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه، ومن منَّ الله
عليه فجعله موسعاً عليه، فحجّته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله، ومن منَّ
الله عليه فجعله شريفاً في بيته، جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن يحمد الله تعالى
على ذلك، وأن لا يتطاول على غيره، فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله
".
الحثُّ على العطاءِ
وقد اعتبر الإخلال بذلك خروجاً عن الدين، وتجاوزاً لمبادئه، كما ورد في قوله سبحانه
وتعالى: {
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ
الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ
* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
}[سورة الماعون].
أما الأحاديث الشريفة، فقد بيّنت ما قد تؤدّي إليه مساعدة الناس وقضاء حوائجهم من
نتائج، إن على صعيد الدنيا أو الآخرة، فقد ورد في الحديث: "
الخلق كلهم عيال الله،
وأحبّ الخلق إليه أنفعهم لعياله، وأدخل على أهل بيت سروراً
".
وفي الحديث: "مَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه".
وقد ورد في الحديث أنّ الإنسان: "
إذا بلغ الغاية في العبادة، صار مشّاءً في حوائج
الناس
".
وفي الحديث: "الماشي في حاجة أخيه، كالساعي بين الصفا والمروة".
وفي الحديث: "
إنّ لله عباداً من خلقه يفزع العباد إليهم في حوائجهم، أولئك هم
الآمنون يوم القيامة
".
فيما حذّر من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فردّه عنها وهو قادر على قضائها.
فقد ورد في الحديث: "
أيّما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة وهو يقدر على قضائها
فمنعه إيّاها، عيّره الله يوم القيامة تعييراً شديداً، وقال له: أتاك أخوك في حاجة
قد جعلت قضاءها في يدك، فمنعته إيّاها زهداً منك في ثوابها، وعزتي لا أنظر إليك
اليوم في حاجة
".
ومن هنا، المؤمن مدعوّ إلى أن يبادر لقضاء حوائج الناس، وأن يعتبر أنّ ما يقوم به
خدمة لنفسه قبل أن يكون خدمة لمن يقضي حوائجهم، لأنه بذلك يبلغ المواقع العليا عند
الله عزّ وجلّ وفي قلوب الناس، لذا، فإنّ عليه أن يشكر من دعاه إلى الإحسان إليه
ومساعدته.
تلبيةُ حاجةِ المقترِض
ونحن اليوم سنتوقّف عند واحدة من الحوائج التي لا بدّ من المبادرة إلى قضائها، وأن
لا يقف أمامها أيّ عائق، وهي الحاجة إلى القرض. فالكثيرون عندما يحتاجون المال، لا
يريدون من يتفضَّل عليهم بصدقاتهم أو بالخمس أو الزكاة أو أيّ من الواجبات المالية،
بل إلى من يقرضهم، لأنهم قادرون على ردّ المال في الوقت المحدَّد.. هؤلاء ممن دعا
الله سبحانه، كما الأحاديث الشريفة، إلى سدّ حاجتهم، وعدم تركهم يعانون عندما
يحتاجون إلى القرض لتأمين غذاء أو دواء، أو ما يساعدهم في تأمين معيشتهم أو أيّ
حاجة من الحاجات، حتى لا يقعوا في قبضة من يستغلون حاجتهم من المرابين، أو من
يبذلون ماء وجوههم أمامهم لأجل الحصول عليها، فالذين يقرِضون، يكونون في موقع تقدير
الله سبحانه، لأنهم عندما يفعلون ذلك، فإنهم يقرضون الله سبحانه وتعالى.. وهذا ما
أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً
حَسَناً}، وقد وعد من يقوم بذلك بأنه سيضاعفه أضعافاً كثيرة في الدنيا، فقال:
{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}، وفي الآخرة عندما قال: {
وَمَا
تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً
وَأَعْظَمَ أَجْراً
}[المزمل: 20].
أجرُ المقرِضِ
وقد بيَّنت الأحاديث الشريفة بعض هذا الأجر الكريم، فقد ورد في الحديث: "
من أقرض
مؤمناً قرضاً ينظر به ميسوره، كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاة من الملائكة حتى
يؤدّيه إليه
".
وفي الحديث: "من أقرض ملهوفاً فأحسن طلبته استأنف العمل"، أي غُفِرَت ذنوبه.
وورد عن الإمام الصادق (ع) أن "القرض أكثر ثواباً من الصدقة"، لأنّ القرض لا يكون
إلا في يد المحتاج، أما الصّدقة، فربما وقعت في غير يد المحتاج.
ولقد جاء ذلك في وصيّة الإمام عليّ (ع) لولده الإمام الحسن (ع)، إذ قال: "
وإذا وجدت
من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة، فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه،
فاغتنمه وحمّله إيّاه، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه، فلعلّك تطلبه فلا تجده،
واغتنم من استقرضك في حال غناك، ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك
".
مخاوفُ.. ولكن
أيُّها الأحبّة: إنّنا أحوج ما نكون إلى تعزيز فرص الحصول على القرض البعيد من
الرّبا أو المنّة، بحيث يجده من يحتاج إليه في حال عسرته، فلا يقع في قبضة من
يزيدون معاناته معاناة، وذلك إما من قبل الأفراد، أو من خلال تعزيز المؤسَّسات التي
تتولى إقراض الناس بدون فوائد، بحيث يبادر من يملكون المال إلى إيداعه عند من يحتاج
إليه.
وهنا نقدّر كلّ الذين يبادرون إلى إيداع أموالهم لدى أفراد أو جهات أو مؤسّسات
ليكون قرضاً لمن يحتاج إليه، هؤلاء محظوظون عند الله وفي قلوب الناس.
هنا، قد يقول البعض من الناس، لكن من يضمن إن أقرضنا الناس أن ترجع إلينا أموالنا،
وقد جرّبنا وجرّبت مؤسَّسات تولَّت هذا الأمر وضاعت بسبب ذلك أموالهم!
هذا الأمر قد يكون صحيحاً، وفعلاً هناك تجارب غير ناجحة على هذا الصّعيد، ولكن
ينبغي أن لا يدعو ذلك إلى ترك إقراض الناس أو مساعدتهم، لما فيه خسارة على صعيد
المقترض الذي سيعاني بسبب ذلك، أو المقرض الذي سيخسر بسبب ذلك ثواباً كبيراً قد
يحصل عليه، بل هو أمر يدعو إلى التشدد في اختيار من نقرض، بأن نقرض من نثق به
ونتأكّد من صدقيّته وقدرته على الوفاء، وأن نأخذ منه كلّ الضّمانات لإعادة ما تمّ
إقراضه إيّاه.
إن بعض التجارب السلبيّة التي حصلت مع من تمَّ إقراضهم ينبغي ألّا تعمَّم، حتّى لا
يؤدّي ذلك إلى أن يتوقف هذا المعروف.
وفي الوقت عينه، نقول إنّه إذا أخلّ أحدهم بالوفاء، فلا يجب أن نتسرّع بالحكم عليه،
وأنه لا يفي بوعده، فلعلّه كان يريد الوفاء لكنّ ظروفاً طارئة وقاهرة منعته من ذلك،
وهنا يأتي قوله: {
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
}[البقرة: 280].
وقد ورد في الحديث: "من أنظر معسراً، أظلّه الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه".
جعلنا الله من أولئك الذين تهفو قلوبهم إلى الخير، ولا يردّون باب طالب حاجة، ولو
بكلمة طيّبة أو دعوة صادقة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة السياسية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأخذ العبرة من هذه القصّة، حيث ورد أنّ ملكاً شيَّد
قصراً، ودعا الناس إلى زيارته ليروا جميل ما بنى، وقال لجنوده: من عاب منه شيئاً
فبادروا إلى إصلاحه، فأخذ الناس يطوفون بهذا القصر وينظرون مبهورين إلى حدائقه
وشرفاته وغرفه، فلم يجدوا فيه عيباً، إلى أن جاء رجل تبدو عليه سمات الوقار، فطاف
بالقصر، فلمّا همَّ بالخروج، سأله الجنود: أأعجبك القصر؟ قال: أعجبني لولا أن رأيت
فيه عيباً، وهو أنَّ صاحبه سيموت ولن يبقى له. فبكى الملك، ثم قال: دلّوني على قصر
لا يفنى ولا يموت صاحبه، قالوا لا يوجد، قال صدقتم.
أيُّها الأحبّة: إنّنا أحوج ما نكون إلى أخذ هذه القصّة لتكون عبرةً لمن لا يزال
يفكّر أنه سيشارك في مناسبات الموت، وأنّ أحداً لن يشارك في مناسبة موته.
وبذلك نصبح أكثر وعياً ومسؤوليّةً وقدرةً على مواجهات التحدّيات.
البلدُ متروكٌ لمصيرِهِ!
والبداية من هذا البلد الَّذي تزداد الأزمات فيه وتتفاقم يوماً بعد يوم على كلّ
الصّعد، من دون أن تلوح في الأفق أيّ بارقة أمل أو بصيص نور يطمئنّ معه اللبنانيون
إلى مصيرهم، حيث تستمرّ معاناتهم على الصعيدين المعيشي والحياتي، حتى باتوا غير
قادرين على تأمين أبسط مقوّمات حياتهم على صعد الغذاء والكهرباء والدّواء
والاستشفاء وسبل التّدفئة، بفعل تداعي قيمة العملة الوطنيّة وارتفاع الأسعار الّتي
لم تعرف حدوداً لها.
فيما الحكومة الّتي من المطلوب منها أن تعالج كلّ هذه الأزمات، وأن تنقذ إنسان
البلد من معاناته، لا تجتمع بفعل الخلافات السياسيّة فيما بين أركانها حول معالجة
العديد من الملفّات، وآخرها ملفّ المرفأ.
أمّا القوى السياسيّة التي يتعيَّن عليها في هذه المرحلة أن توحِّد جهودها، وأن
تتعاون في ما بينها لإنقاذ بلد يتداعى، وبات إنسانه يهيم في بلاد الله الواسعة
بحثاً عن أيّ بلد يأويه، ولو كلَّفه ذلك أن يموت غرقاً أو برداً... فقد بدأت
جولاتها وصولاتها لكسب الأصوات وتوسيع النفوذ أو تثبيته، وسلاحها في ذلك الخطاب
العالي السّقف والنبرة لشدّ العصب الطائفي أو المذهبي، من دون أن تأخذ في الاعتبار
تداعيات خطابها أو مواقفها على صعيد ما قد يحدثه ذلك من تصدّع وشرخ داخلي وتأزّم
اقتصادي، فيما العالم الخارجي الذي ينتظر مساعدته الكثيرون ويراهنون عليه، لم يعد
يكترث كثيراً لتصاعد الأزمات في لبنان، ويكتفي ببعض العواطف وإبداء القلق، ولن يمدّ
يده للمساعدة التي ينتظرها اللبنانيون في هذه المرحلة، إمّا لأنه مشغول بملفّاته
الخاصّة، أو بملفّات أخرى يرى لها الأولويّة، أو أنه يريد لهذا البلد أن يكون على
الصورة التي رسمها له، وهو إن ساعد، لن يساعد إلّا بالنزر اليسير الذي لا يسمن ولا
يغني من جوع اللّبنانيين في ظلّ الواقع القائم.
مَنْ يعالجُ الأزماتِ؟!
إننا أمام كلّ هذا، نعيد دعوة القوى السياسية إلى تحمّل مسؤوليّتها، والقيام بالدور
المطلوب منها، والتفرغ لمعالجة أزمات البلد وأزمات إنسانه، بدلاً من الاستمرار في
المماحكات السياسية والصراعات الانتخابية، وأن يعوا أن اللبنانيين لن يعطوا قرارهم
إلّا لمن يرونه جاداً يعمل على أن ينتشلهم من الواقع الصّعب الذي يعانونه، ويجدونه
مستعداً لأن يضحّي من أجل وطنه، لا من يضحّي بوطنه لحساباته الخاصة أو الفئوية.
إننا نقولها لكلّ الذين يتولون الواقع السياسي، إن الوقت ليس وقت صراعات ومماحكات
ومناكفات وبيانات وبيانات مضادّة.. أجّلوا خلافاتكم وصراعاتكم، فالبلد لم يعد
يحتمل.
وفي الوقت نفسه، نعيد دعوة اللّبنانيين إلى التوحد والتعاون في هذه المرحلة،
لتجاوزها بأقلّ قدر ممكن من التبعات والخسائر، والعمل معاً للخروج مما يعانونه، وأن
لا يسمحوا للعابثين بالوحدة الداخلية أن يجدوا طريقاً لهم، وأن يعوا أنّ القرار
بأيديهم، وهم قادرون على صنع التغيير وفتح باب الحلول، وأن عليهم أن لا يستهينوا
بأصواتهم وحضورهم في هذه المرحلة.
مسارُ البطاقةِ التّمويليّةِ
أمّا على صعيد البطاقة التمويلية التي أعلن عن بدء التسجيل فيها، فإننا في الوقت
الذي ننوِّه بهذه الخطوة، رغم أنها ليست بالعلاج الشافي، فإننا نريد لها أن تأخذ
مسارها للتنفيذ، وأن تزال العقبات التي لا تزال تقف أمامها، وأن لا تخضع لأيّ
اعتبارات سياسية أو انتخابية، وأن يكون العامل الأساس في الاختيار هو العنوان الذي
لأجله كانت هذه البطاقة.
أما على صعيد التدقيق الجنائي، فإننا ندعو إلى الجدّية في التعامل مع هذا الملفّ،
وإبقائه في إطاره الرقابي، وأن لا يضيع في خضمّ الصّراع السياسي، أو أن يتحوّل إلى
أداة من أدوات الصراع بين الفرقاء السياسيّين على هذا الصعيد، بل أن يكون أداةً
لمعرفة حقيقة ما كان يجري في دوائر المصرف المركزي، وأين ذهبت أموال الناس، ومن
استغلّ موقعه السياسي أو غير السياسي لتهريب أمواله.
مفاوضاتُ فيينَّ
ونبقى على صعد المحادثات التي تجري في فيينّا بين إيران والدول خمسة زائد واحد،
فإننا نأمل أن تأتي هذه المفاوضات بنتائج إيجابيّة تساهم في تعزيز السلام في
المنطقة والعالم، وتخرج إيران من العقوبات الظالمة التي يعاني الشعب الإيراني
آثارها وتداعياتها، وأن يقتنع العالم أنه بالحوار تعالج المشاكل، لا بفرض الشروط
ولا بالعقوبات.
يومُ التّضامنِ مع فلسطين
وأمّا في فلسطين، فقد أحيينا في الأسبوع الماضي اليوم العالمي للتضامن مع الشعب
الفلسطيني، والذي يتزامن مع القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين، والذي اتخذته الجمعية
العمومية للأمم المتحدة.
إننا في هذه المناسبة، نجدِّد التزامنا بهذه القضيّة، وندعو إلى إبقائها حيّة،
لأنها قضية شعب مظلوم ومضطهد شرِّد من أرضه واغتصبت حقوقه، لأنَّ رفع المعاناة عن
الشعب الفلسطيني ستساهم في رفع المعاناة عن واقع هذه الأمّة.