قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 34 – 35]. صدق الله العظيم.
مرَّت علينا في الخامس من شهر شعبان ذكرى الولادة المباركة للإمام عليّ بن الحسين (ع) زين العابدين وسيِّد السَّاجدين.
هذا الإمام الَّذي تربَّى في كنف أبيه، الإمام الحسين (ع)، وانطبعت فيه معالم شخصيَّته، أخذ منه علمه وحلمه وتواضعه وكرمه وشجاعته وعبادته لربِّه وإباءه للضَّيم، وشاركه في ثورته، كان حاضراً في كلِّ مراحلها، وما منعه من القتال في كربلاء هو المرض المفاجئ الَّذي حصل له في اليوم العاشر من المحرَّم.
وبعد استشهاد أبيه، الإمام الحسين (ع)، تابع الإمام زين العابدين الأهداف التي لأجلها انطلق الحسين (ع) بثورته، وهي تتلخَّص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعمل على إبقاء جذوة الثَّورة في النفوس على الواقع الفاسد والظَّالم، من خلال استحضاره الدَّائم لما جرى في كربلاء، والشِّعارات التي أطلقت فيها، والأهداف الَّتي لأجلها كانت كلّ التّضحيات، والقيام بتعزيز الوعي لدى المجتمع، من خلال نشر الثقافة الإسلاميَّة الأصيلة في مواجهة الانحراف الفكريّ والعقديّ والعمليّ الّذي عمل بنو أميَّة على تسويقه، والتي عبَّر عنها في أحاديثه ومواعظه وتوجّهاته وأدعيته وفي رسالة الحقوق.
ونحن اليوم سنستفيد من هذه المناسبة الكريمة، لنتوقَّف عند أبرز مواقفه، والتي جاءت تعبيراً عن الآية التي ابتدأنا بها حديثنا:
كاظمُ الغيظِ
أوّل هذه المواقف، موقفه من أحد أقربائه الّذي كان يحسده (ع) لما كان يرى من موقعه في نفوس الناس ومحبَّتهم له، وقد دفعه حسده إلى أن يتهجَّم على الإمام (ع) ويصفه بنعوتٍ لا تليق به. جرى ذلك على مرأى من أصحابه، فلمَّا انصرف، قال لأصحابه: "لقد سمعتم ما قال هذا الرّجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه!". فذهبوا معه، وهم لا يشكّون أنّ ردَّ الإمام (ع) سيكون قاسياً. ولكن في الطّريق، سمعوه يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، فعرفوا أنَّ الإمام (ع) لا يريد ما كانوا يتمنّون. فلمّا وصل الإمام إلى بيت ذلك الرَّجل، خرج متوثّباً للشّرّ، لكنَّ الإمام هدَّأ من روعه وقال له: "يا أخي، إنَّك كنت قد وقفت عليَّ آنفاً، فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ، فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ، فغفر الله لك".
كلمات قليلة كانت كافية لتهزَّ أعماق هذا الرَّجل، ولتجعله يعيد النظر في موقفه من الإمام (ع)، وليقول له: "بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحقّ به". أنا المخطئ وأنا الجاني، أرجو أن تعفو عني، وأن تدعو ربَّك أن يغفر لي. وصار هذا الرَّجل من بعدها من أخلص الناس للإمام.
وهنا نسأل: ماذا لو بادل الإمام هذا الرّجل بمثل فعلته، أو بأقسى من ذلك، كما يحصل عادةً منّا؛ أكان حقَّق ما تحقَّق له بأسلوبه؟!
العفوُ عن المسيئين
وموقف آخر مع هشام بن إسماعيل، وكان هشام والياً على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان، وكان من أركان بني أميَّة، ومعروفاً بعدائه للإمام زين العابدين (ع) ولأهل البيت (ع). وتذكر السّيرة أنَّه بعد موت عبد الملك، تولّى ولده الوليد الخلافة، فعزل الوليد هشاماً بسبب خلاف شخصيّ معه، وقرَّر أن يوقفه للنَّاس ليقتصّوا منه ويفعلوا به ما يشاؤون، وكان هشام يقول حينها: أنا لا أخشى أحداً سوى زين العابدين، لكثرة ما ارتكب بحقّه. ولكنَّ الإمام لم يقل حينها ما نقول من أنَّه حان وقت الاقتصاص والثَّأر، بل طلب من أصحابه أن لا يتعرَّضوا له بالسّوء، ولما وصل إليه، قال له: "انظر إلى ما أعجزك من مالٍ تؤخَذ به، فعندنا ما يسعك. فطب نفساً منَّا، ومن كلِّ من يطيعنا". فنادى هشام، وهو يستمع إلى هذا المنطق، بأعلى صوته: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
وقد صوَّر هذا المشهد أحد الشّعراء، حين قال:
ملكْنا فكانَ العفوُ منا سجيّةً فلمَّا ملكْتُم سالَ بالدّمِ أبطحُ
فحسبُكُم هذا التَّفاوتُ بينَنا وكلُّ إناءٍ بالّذي فيه ينضحُ
مبادلةُ الإساءةِ بالإحسانِ
وموقف آخر يمثّل القمّة في التّجاوز ومبادلة الإساءة بالإحسان، وهو الّذي جرى مع مروان بن الحكم. ومروان هذا كان معروفاً بعدائه الشَّديد لأهل البيت (ع) وغلظته عليهم، فهو من أوائل من خرجوا لحرب الجمل، وبعدها في صفّين، وكان من المحرِّضين على قتال عليّ (ع)، وهو من قال لوالي المدينة: "إن لم يبايع الحسين يزيد، فاضرب عنقه". مروان هذا حين ثارت المدينة على بني أميَّة، وقرَّر أهلها إخراج بني أميَّة منها، وكان هو على رأسهم، فتّش حينها عمَّن يدع عنده عائلته، وحاول لدى الكثيرين، ولم يقبل أحد بذلك، حتى الَّذين كانوا من خواصّه والمقرّبين منه. الكلّ تنصَّل خوفاً من أن يتلبَّس بالقرب من مروان بن الحكم، ولا سيَّما أنَّ عائلته كبيرة. لم يجد حينها سوى الإمام زين العابدين (ع) من يقبل ذلك، وقال (ع) له: "عائلتك مع عائلتي، وحرمك مع حرمي"، ثم غادر مروان.
تقول إحدى بنات مروان عن تلك الفترة من إقامتهم عند الإمام زين العابدين (ع): "ما وجدنا من الرّعاية عند أبينا ما وجدناه عند عليّ بن الحسين".
منطقُ الرِّساليّين
أيُّها الأحبَّة: لقد كان الإمام زين العابدين (ع) في كلِّ هذه المواقف قادراً على أن يردَّ على الإساءة بمثلها، وأن ينفِّس بذلك عن غيظه ويلبِّي رغبته بالانتقام، وهو من كان يملك القدرة على ذلك في كلِّ هذه المواقف، لكنَّه لم يفعل، لأنَّه ما كان في مواقفه يتحرَّك بأسلوب الانفعاليّين الذين همّهم أن ينفّسوا عن غيظهم، أو بردود فعل على تصرّفات الآخرين، بل بمنطق الرّساليّين الذين يريدون أن يكسبوا الآخرين لصفوف دعوتهم، وأن يطفئوا الباطل والانحراف من نفوسهم ويحيوا الحقّ فيها.
وهذا ما نحتاج إليه في الواقع الَّذي نعيشه، حيث يسود التوتّر على كلّ المستويات العائليّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وفي الإطار الدّيني والمذهبيّ، الَّذي به نئد بذلك الفتن في مهدها، ونبلغ قلوب الآخرين، وهو اعتماد المنطق نفسه الَّذي دعانا الله سبحانه وتعالى إليه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
والَّذي به نبلغ الموقع المميَّز الَّذي نرجوه عند الله، عزّ وجلّ، عندما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 133 – 134].
الخطبة السياسية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام زين العابدين (ع)، عندما قال: "كونوا أحبَّاء الله، والأعظم عند الله، والأقرب إلى الله، والأرضى له، والأكرم عند الله، ومن ينجون من عذاب الله". وعندما قيل له: كيف ذلك يا بن رسول الله؟! قال: "أحبّكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإنَّ أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبة، وإنَّ أنجاكم من عذاب الله أشدّكم خشيةً لله، وإنَّ أقربكم من الله أوسعكم خلقاً، وإنَّ أرضاكم عند الله أسعاكم على عياله، وإنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم لله تعالى".
فلنستوصِ بوصيّة الإمام زين العابدين (ع)، لنكون أكثر وعياً لحياتنا، وأكثر قدرةً على مواجهة التحديات.
تداعياتٌ خطيرةٌ للحربِ
والبداية من الحرب الَّتي تجري على أرض أوكرانيا، والَّتي دخلت أسبوعها الثالث، من دون أن تبدو في الأفق أيّ حلول تنهي هذه الحرب وتمنع تداعياتها الخطيرة.
ونحن في هذا المجال، نجدِّد تأييدنا لأيّ جهدٍ يبذل لإيقاف نزيف الدَّم، بعدما أصبح واضحاً مدى خطورة استمرار هذه الحرب على صعيد الأمن العالميّ، أو على اقتصادات العالم والأمن الغذائيّ فيه.
وفي الوقت نفسه، نجدِّد دعوتنا للدّول والشّعوب أن تأخذ عبرةً مما يجري، وأن تكون واعيةً للعبة الكبار الَّذين أدمنوا أن لا تكون حروبهم إلَّا على أرض غيرهم، حتى لا يكتووا هم بنارها.
ونعود إلى هذا البلد الَّذي جاءت الحرب في أوكرانيا لتزيد من معاناته على الصعيد الاقتصادي والمعيشي، حيث نشهد ارتفاعاً متزايداً في أسعار المحروقات والسِّلع والموادّ الغذائيّة، والخشية من فقدان موادّ أساسيّة كانت تستورد من أوكرانيا أو روسيا، وبعد القرارات التي صدرت عن العديد من الدول بإيقاف صادراتها من الموادّ الغذائيّة في بلد يعتمد في أكثر حاجاته على الخارج.
يأتي ذلك في ظلّ غياب خطّة عمليّة لمعالجة التداعيات المعيشيّة بفعل الحرب في أوكرانيا، حيث لا وضوح لدى الحكومة لكيفيَّة تأمين البديل للموادّ التي كانت تستورد من مناطق الحرب، ولا لكيفيَّة معالجة الزيادة المستمرّة للأسعار.
مسؤوليّةُ الدَّولةِ والمواطنين
إنَّنا أمام كلّ هذا الواقع، ندعو الدَّولة إلى تحمّل مسؤوليَّتها تجاه مواطنيها الَّذين يعانون الواقع الاقتصاديّ الصَّعب ولا طاقة لهم على تحمّل المزيد، وعدم الاستمرار في إدارة الظَّهر، أو بمعالجات لا تسمن ولا تغني من جوع، أو إلى تطمينات لا تستند إلى وقائع، أو الاكتفاء بالاستعراضات الإعلاميَّة في مواجهة التجَّار والمحتكرين ممن يستغلّون الأزمات لمزيد من الكسب المادّيّ. وعلى هذا الصّعيد، ندعو إلى معاقبة هؤلاء واعتبارهم خائنين لشعبهم ووطنهم.
وفي الوقت نفسه، ندعو المواطنين إلى أن لا يساهموا في رفع الأسعار، أو في نفاد الموادّ من خلال تهافتهم على الشّراء بأيّ سعر، أو أخذ كميّات كبيرة من السِّلع تخلّ بالتوازن المطلوب فيما بينهم، خوفاً من فقدانها أو رفع أسعارها.
هل تضيعُ أموالُ المودِعين؟!
ونبقى على هذا الصَّعيد، لنشير إلى الحديث الَّذي بات يمرّ مرور الكرام عن ضياع أموال المودعين، والَّذي سمعناه سابقاً من صندوق النقد الدّوليّ، وما صدر أخيراً عن أحد أركان الحكومة الحاليَّة، وما نسمعه من العارفين بواقع الأزمة الماليَّة التي يعانيها البلد، وقد يعانيها لسنوات طوال.
إنَّنا نحذِّر من التَّسليم بذلك، أو التعامل مع هذا الأمر كحقيقة واقعة، وندعو إلى رفع الصَّوت في مواجهته، فلا ينبغي أن يُحمَّل المودعون تبعات الأزمة الماليَّة، فمن يتحمَّلها هم الذين أفسدوا وأهدروا هذه الأموال وبدَّدوها في لعبة المحاصصات والمصالح الخاصّة.
استحقاقُ الانتخاباتِ
ونبقى على صعيد الانتخابات، فإنَّنا على هذا الصَّعيد، نجدِّد دعوتنا إلى إزالة العوائق أمام حصولها، في وقتٍ لا يزال هناك من يشكِّك من إمكان حصولها في مواعيدها، أو يدعو إلى التَّأجيل في السرّ والعلن، ونؤكِّد ضرورة إجراء هذا الاستحقاق، ليعبِّر من خلاله اللّبنانيّون عن آرائهم فيمن تولّوا هذه المسؤوليّة، ومن سيتقدّمون لتولّيها، ونأمل أن يكون اللّبنانيّون على مستوى هذا القرار المصيري في هذه المرحلة الصّعبة.
ذكرى المجزرةِ
وفي هذه الأيَّام، نستعيد ذكرى أليمة، وهي ذكرى مجزرة بئر العبد الَّتي مرّت علينا في الثامن من هذا الشّهر، هذه المجزرة الَّتي سقط فيها المئات من الشّهداء والجرحى، والتي كانت تهدف إلى اغتيال الوعي والموقف الصَّلب تجاه العدوّ ومن وراءه، الَّذي تمثّل في السيّد (رض)، وقد كانت مشيئة الله سبحانه أن يحمي السيّد (رض)، لتستمرّ معه مسيرة الوعي التي أطلقها ولتتجذّر وتنمو، ولتتعزّز إرادة التحدّي للعدوّ، وليقدّم الصورة النموذجيّة للإسلام الحركيّ والمنفتح على العصر وعلى الحياة كلّها.
لحمايةِ حقوقِ المرأةِ
وفي مناسبة يوم المرأة العالمي، نتوجَّه بالتَّقدير إلى كلّ امرأة امتلكت الوعي، وخرجت لتشارك مع الرّجل في بناء الحياة في الميادين الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، ولم تنسَ دورها في بناء جيلٍ واعٍ.. وندعو في هذه المناسبة إلى تعزيز دورها وحمايتها، من خلال تمكينها من كلّ القدرات الّتي تساعدها على أداء هذا الدّور، وإعادة النظر بكلّ القوانين المجحفة بحقِّ المرأة، وعدم اعتماد سياسة التَّمييز الّتي جاء الإسلام ليلغيها.
تهنئةُ المعلِّمِ في عيدِهِ
وأخيراً، نتوجَّه بالتّهنئة إلى كلّ معلّمٍ ينوِّر العقول من الجهل والتخلّف، ويصنع بذلك المستقبل الأفضل لأمَّته، وينقِّي القلوب من الحقد والكراهية. إنَّ الأمَّة الواعية هي التي تقدِّر معلِّميها وتحرص على تعزيزهم وتكريمهم.
ويكفي في تكريمهم أنَّ الله سبحانه وصف نفسه بالعلم عندما قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[البقرة: 31]، وأنَّ رسول الله قال: "إنَّما بُعِثت مُعلِّماً".