قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا
بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ
اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ}. صدق الله العظيم.
التّحذير من تبديد الأعمال!
تشير هذه الآية القرآنيّة إلى امرأةٍ عاشَتٍ في قريش زمن الجاهليّة، كانت هي
وعاملاتها يعملن من الصّباح حتى منتصف النّهار في غزل ما عندهنّ من الصّوف، وبعد أن
ينتهين من عملهنّ، تأمرهنّ، وبدون أيّ سبب، بنقض ما غزلن.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أنَّ عمل هذه المرأة الذي يبدو غريباً، يمارسه الكثير
من النّاس، رغم انتقادهم ونعتهم له بالعمل الأحمق وغير العاقل.
نراه في الدّنيا في الّذين يتعبون ويشقون من أجل الوصول إلى المال، ولكنّهم يبدّدون
ما حصلوا عليه بتبذيرهم أو بسوء تصرّفهم وتدبيرهم، أو في الذين يخسرون كلّ ما بلغوه
من موقع في قلوب الناس، بسبب انفعال أو بسبب كلمة لم يدرسوها جيّداً أو بسبب تصرّف
غير لائق، ونراه في الآخرة في الذين يقومون بواجباتهم ويؤدّون ما دعاهم إليه ربهم،
فيصلّون ويصومون ويحجّون ويزكّون ويخمّسون، ويقومون اللّيل ويعملون الخير، ولكن
تراهم يفرّطون بكلّ ذلك بارتكابهم المعاصي والموبقات، أو بسوء الخلق، أو بظلمهم
النّاس قولاً أو فعلاً. لذا نراهم عندما يقفون بين يدي الله ليحظوا بما عنده،
يتفاجأون بأنّ ما عملوه ذهب هباءً منثوراً، وحيث لا مكان للتّعويض.
وهذا ما حذَّر منه الله سبحانه وتعالى عندما قال:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ{.
وقد بيّن رسول الله (ص)، وفي أكثر من حديث، نماذج من هؤلاء، عندما قال: "لَأَعْلَمَنَّ
أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ
جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا".
فقيل له: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ
جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ
أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا".
وفي حديث آخر: "أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي؟"، قَالُوا: "الْمُفْلِسُ
فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ"، فَقَالَ رَسُولُ
اللهُ (ص): "الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ
مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْتَصُّ لِهَذَا مِنْ
حَسَنَاتِهِ، وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ
يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ
فِي النَّارِ".
وفي حديث آخر: "يُؤتَى بأحدكم يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله تعالى، ويدفع إليه
كتابه، فلا يرى حسناته، فيقول: إلهي هذا كتابي، فإنّي لا أرى فيه طاعتي، فيقول له:
إنَّ ربّك لا يضلّ ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه
كتابه، فيرى فيها طاعات كثيرة، فيقول: إلهِي، ما هذا كتابي، فإنّي ما عملت هذه
الطّاعات، فيقول: إنَّ فلاناً اغتابك فدفعت حسناته إليك".
وقد حذّر رسول الله (ص) من هذا السّلوك أيضاً عندما قال: "من قال: سبحان الله، غرس
الله له بها شجرة في الجنّة، ومن قال: الحمد لله، غرس الله له بها شجرة في الجنّة،
ومن قال: لا إله إلا الله، غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر، غرس
الله له بها شجرة في الجنّة". فقال رجل من قريش: يا رسول الله، إنَّ شجرنا في
الجنّة لكثير، قال: "نعم، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك أنَّ
الله عزَّ وجلَّ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}".
امتحانُ ما بعدَ رمضانَ
أيّها الأحبّة، هي مصيبة ليس بعدها مصيبة، أن يكدح المرء في الدنيا بأنواع العبادات
والمستحبات، ثم يأتي يوم القيامة ليرى أنَّ أعماله قد ذهبت أدراج الرّياح، في وقتٍ
لا مجال للتعويض، إلا أن يشمله سبحانه وتعالى برحمته.
وهذا ما يدعونا إلى أن لا نتّكل على ما عملنا، فقد نكون ممن ضيَّعوا أعمالهم، ولذا
علينا أن نتابع أنفسنا جيّداً، أن نتابع أكثر ما يصدر عن ألسنتنا، وما تتلقَّاه
أسماعنا وأبصارنا، وتفعله جوارحنا، وما نفعله وما نقوم به، لكي نسدّ كلّ منافذ
الشّيطان، ونواجه أنفسنا الأمَّارة بالسّوء وسعاة السّوء والانحراف، كي لا نضيّع
أعمالنا وطاعاتنا. إنَّ هذا ما ينبغي أن نستحضره في كلّ وقت وزمان، وهذا ما نحتاج
إلى أن نستحضره الآن، بعد انتهاء شهر رمضان المبارك، حيث كنّا في ضيافته وقيامه
وتلاوة كتابه وإحياء لياليه وأيامه بالعبادة وقراءة القرآن، والذكر والاستغفار،
وتصدَّقنا وحفظنا فيه أنفسنا من الحرام، وحظينا فيه بالكرم الإلهيّ والزاد الوفير،
فلا نفسده بسوء أعمالنا.
والأمر الثاني الذي يجب الانتباه إليه، هو كيف نواجه الامتحان وفق ما أشار إليه
الله سبحانه وتعالى، عندما قال في سورة العنكبوت؛ هذه السورة التي تلوناها في ليالي
القدر: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا
يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
حيث بيَّن فيها بكلّ وضوح، أنّ كل إنسان سيخضع لامتحان بعد شهر رمضان، ليتبيّن مدى
صدقيّتنا وجدّيتنا في ما قمنا فيه من طاعات، فلا يكتفي الله من الإنسان بأن يقول
صُمت حتى يكتبه عنده من الصّائمين ويحصل على ما وُعِد به الصّائمون، بل لا بدَّ أن
يخضع لامتحان يظهر فيه مدى استفادته من هذا الصيام، والأمر نفسه في الصلاة والحجّ
وأي عبادة، فكلّ إنسان له امتحانه، فهناك من يمتحن بعاطفته، وآخر بموقفه، وآخر
بشهواته وأهوائه.
فلنحرص، أيّها الأحبَّة، على أن نكون من النّاجحين والفائزين، وأيّ فوزٍ أفضل من أن
نكتب من الّذين أعتقت رقابهم من النَّار، واستحقّوا الفوز برضوانه، وليكن دعاؤنا: "اللَّهُمَّ
ثَبِّتْنا عَلى دِينِكَ ما أَحْيَيْتَنِا، وَلا تُزِغْ قَلوبنا وأبصارنا وأسماعنا
وجميع جوارحنا... واجعلنا من المرحومين، ولا تجعلنا من المحرومين، يا أرحم الراحمين".
الخطبة السياسية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله الّتي جعلها الله سبحانه وتعالى هدف شهر
رمضان، وبدون بلوغها، لا يتحقّق الهدف المرجوّ منه، وهو الذي قال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فلنحمل من شهر رمضان إلى كلّ السنة ما تزودناه منها في هذا الشهر المبارك، هذه
التقوى التي تجعلنا نراقب الله في كلّ أمر نقدم عليه ونحسب حسابه فيه، فلا نقدِّم
رجلاً ولا نؤخّر أخرى أو نطلق كلمة أو نتّخذ موقفاً، حتى نعلم أنّ فيه رضا لله،
ومتى فعلنا ذلك، سنكون أقوى وأقدر على مواجهة التحدّيات.
في انتظار الكارثة!
والبداية من لبنان الذي بدأ يتجه نحو الكارثة التي سوف تنتج من رفع الدعم عن
الدّواء والسّلع الضروريّة والغذاء والمحروقات، وهو إن لم يعلن عنه رسميّاً، لكن
بدأت تشهد بذلك طوابير السيارات التي تقف لساعات أمام محطات البنزين لتعبئة
المحروقات، وقد لا تجدها، أو في عدم توفر الكثير من أصناف الأدوية في الصيدليات، ما
دفع ذلك البعض منها إلى الإقفال، أو في ارتفاع أسعار اللّحوم بشكل غير مسبوق، لعدم
وجود المدعوم منه، وصولاً إلى العتمة الحتمية التي يُبشّر بها الناس، لعدم توفر
الفيول لمعامل الكهرباء، يضاف إلى ذلك كلّ ما يعانيه اللبنانيون على الصعيد المعيشي
والحياتي.
في هذا الوقت، لا يزال المسؤولون يشيعون أجواء من التفاؤل غير واقعيّة للتخفيف من
وقع الكارثة التي تسببوا بها، بالحديث عن بطاقة تمويلية لم يتوفّر لها المال اللازم
لتمويلها حتى الآن، ولا يبدو أنه سيتوفّر، أو بالحديث عن إعادة أموال المودعين الذي
بدأ من أواخر الشّهر الماضي، فيما الكلّ يعرف أنّ وضع الخزينة والمصارف لا يسمحان
بإمكانيّة ذلك، أو أنّ هناك حلولاً على مستوى المنطقة ستنعكس على لبنان الذي يعرف
فيه القاصي والداني أن لا حلول سريعة في هذا المجال، وهي إن حصلت، لن يكون لبنان
ضمن أولوياتها.
ورغم كلّ هذه الصورة القاتمة عن واقع البلد وإنسانه، لا يزال من يتصدرون المواقع
السياسية على حالهم في إدارة الظهر لكلّ ما يجري، ويتصرفون أمام كل هذه الأزمات
التي تقضّ مضاجع اللبنانيين وتهدد لقمة عيشهم واستقرارهم، على قاعدة أن البلد بألف
خير، فالحكومة المطلوب منهم تشكيلها بأسرع وقت، لا تزال أسيرة التعطيل بفعل تضارب
المصالح وسعي كلّ فريق للإمساك بقرارها، تحصيناً لموقعه السياسي في هذا البلد أو
داخل طائفته، أو انتظاراً للآتي، فيما ليس بالوارد تفعيل حكومة تصريف الأعمال التي
من مسؤوليّتها أن تدير شؤون البلد إلى حين تأليف الحكومة، وأن لا تبقيه في مرحلة
الانتظار ومرحلة المسكّنات...
لقد أصبح واضحاً أنّ هذا البلد أصبح متروك لمصيره، بعدما ملّ من في الداخل والخارج
من القيام بأيّ مبادرة للحلّ، ويئسوا ممن يديرونه، وما على اللبنانيين إلا أن
يتدبروا أمرهم ويتعاونوا فيما بينهم ليقلعوا أشواكهم التي باتت تنهشهم على كلّ
الصعد.
إننا أمام كلّ ما يجري، نحذر من هم في مواقع المسؤوليّة من البقاء على إدارة الظهر
لما يعانيه اللّبنانيون، وأن يتّقوا سطوة هذا الشّعب الّذي لن يصفح عمّن كانوا
سبباً في إيصاله إلى ما وصل إليه.
فلسطين تواجهُ المحتلَّ
وبالانتقال إلى فلسطين، حيث يقف الشعب الفلسطيني بكلّ اقتدار وعنفوان واستعداد
للتضحية بالغالي والنفيس في تصدّيه لممارسات العدو الصهيوني في القدس، أو في وجه
سياسة التدمير الممنهج للحجر والبشر في غزّة، والتي أدَّت إلى سقوط العشرات من
الشّهداء والمئات من الجرحى، فضلاً عن تدميره لعشرات المباني والوحدات السكنية
والمرافق الحيوية، أو عبر ممارسات مستوطنيه تجاه هذا الشعب داخل أراضي 48.
ومع الأسف، يجري كلّ ذلك من دون أن يتحرّك العالم للوقوف مع هذا الشّعب في مواجهته
للآلة الصهيونية، ويكتفي ببيانات الإدانة والشّجب والاستنكار.
إننا في الوقت الذي نحيّي هذا الشعب على بسالة مقاومته وصموده الأبي والحيّ، نجدد
دعوتنا لكلّ الشعوب العربية والإسلامية أن يعلو صوتها ويكون هادراً، وأن تكون
بمستوى هذا التحدي الذي يمسّ مقدّساتها ويهدّد استقرارها وأمنها.
ذكرى النّكبة و 17 أيّار
وفي هذا الإطار، تمرّ علينا الذّكرى الثالثة والسبعون للنّكبة، والّتي هي مناسبة
لشحن الذاكرة بالمآسي التي قام بها العدوّ في العام 1948 في تدميره القرى، وارتكابه
المجازر، وتشريده شعباً بأكمله وتهجيره من أرضه...
إننا نريد لهذه المناسبة أن لا تمرّ علينا مرور الكرام، كما اعتدنا، بقدر ما نريدها
أن تساهم في زيادة الوعي لأهمية القضيّة، بعد أن صرنا نسمع مقولات من نوع: "ما لنا
ولفلسطين؟.. وما علاقتنا بها؟.. ليتحمّل شعب فلسطين المسؤوليّة عن أرضه..."، وفي
الوقوف مع الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة وكلّ المراحل.
والمناسبة الثانية، وهي ذكرى اتفاق السابع عشر من أيّار، الذي يذكّرنا بالموقف الذي
انطلق من بئر العبد، ومن مسجد الإمام الرّضا (ع)، الرّافض لهذا الاتفاق الذّليل،
وأشعل الشّرارة التي أدَّت إلى إلغاء هذا الاتفاق ومفاعيله، ومنع العدوّ الصّهيوني
من الاستثمار في احتلاله 1982.
إنّ هذه الذّكرى تعيد التأكيد للشّعوب بأنّها قادرة على الوقوف في وجه أيّ مؤامرات
تستهدفها في أرضها أو ثرواتها، ولو كانت مدعومةً بأساطيل العالم، إذا امتلكت الوعي
الصَّحيح، والإيمان العميق، والحكمة، والإرادة الصّلبة، والاستعداد للتضحية.