تحقيق..
بمناسبة زيارتهم إلى مشيخة الأزهر في مصر، قال أساقفة من كنيسة كانتربري في لندن، إنّ الجماعات الإرهابية تقوم بتحريف النصوص المقدّسة لدى المسلمين وتخرجها عن سياقها وتنزلها في مواضع غير مواضعها تاريخيّاً وجغرافيّاً، فآيات القرآن الكريم "تؤكّد سنّة الاختلاف، بعكس تفسيرات التنظيمات الإرهابيّة".
جاء ذلك في بيانٍ لمشيخة الأزهر عقب انتهاء حوارٍ بين علماء من الأزهر وقادة الكنيسة الأنجليكانية بعنوان "دور القادة الدينيين في مكافحة استخدام النصوص الدينية لارتكاب العنف والإرهاب باسم الدين".
وأشاد أساقفة كنيسة كانتربري في لندن بالحوار، مؤكّدين أنه "أزال سوء الفهم لآيات القرآن الكريم التي تؤكّد سنّة الاختلاف بسبب التفسيرات الخاطئة للتّنظيمات الإرهابيّة"، وفق البيان.
وحضر الحوار من الجانب المسيحي، المطران منير حنّا، أسقف الكنيسة الأسقفيّة في مصر وأفريقيا، ولنك بينز، أسقف مدينة برادفورد في بريطانيا، التي يمثّل المسلمون فيها أكبر الجاليات، والقسّ مارك مساعد رئيس أساقفة كانتربري لشؤون الحوار.
وقال إبراهيم الهدهد، نائب رئيس جامعة الأزهر خلال اللّقاء، "إن هناك ضوابط لفهم القرآن، إذ يجب أن تفسر آياته في إطار النصّ القرآني كلّه، والذي لا يفهم بعيداً عن سياق الأحداث التي نزلت فيه والأحداث المشابهة له في كلّ زمان، ومن خلال تفسير الحديث الشّريف للنصوص القرآنية".
وقد برزت إشكالات عديدة لدى دوائر المعرفة الدينيّة في العالم الغربي حول النص القرآنيّ والنبويّ الذي يحوي دعوات للقتال، الأمر الّذي تطلّب بحوثاً ومشاورات مع ثقات من العلماء المسلمين للاطّلاع على التفسيرات الحقيقيّة، والتي تتمثل أساساً في أنّ تلك النصوص قد نزلت في سياقٍ مكاني وتاريخي خاصّ، ولا تنسحب على كلّ العصور والأمكنة.
وأضاف الهدهد أنّ "جماعات العنف انتزعت النصوص من سياقها، وفسّرت آيات القتال تفسيرات خاطئة لتستبيح على أساسها قتل المخالفين، رغم أنّ الإسلام لم يشرّع القتال إلا لصدّ المعتدين والدّفاع عن الوطن، وحرَّم الاعتداء على ضيوف المجتمعات الإسلاميّة الذين دخلوا إليها بموجب تأشيرات دخولٍ تعتبر بمثابة عهد أمانٍ لهم".
وقال محيي الدّين عفيفي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلاميّة، خلال الحوار مع الضّيوف من الكنيسة البريطانيّة، "إنّ الإسلام له نظرة إلى المواطنة تختلف عن باقي الفلسفات حول العالم، فهو لم يعتمد على البعد الجغرافي لتحديد المواطنة، ولم يميّز بين النّاس على أساس دينهم أو وطنهم أو قوميتهم، بل احترم إنسانية الإنسان أينما كان، وساوى بين المسلمين وغير المسلمين، وكفل لكلّ مواطن كافة الحقوق المدنية والسياسيّة والاجتماعية والثقافية".
وأوضح عفيفي أنّ الإسلام ينظر إلى الاختلاف على أنّه سنّة كونيّة لا يجب أن تكون سبباً للعداء بين أبناء الديانات والحضارات المختلفة، بل هي سبب للتّكامل والتعاون، ولذلك كان غير المسلمين لهم دور في ازدهار الحضارة الإسلاميّة، كما استفادت هذه الحضارة من الحضارتين الرومانية واليونانية، مضيفاً أن وحدة الأصل الإنساني ووحدة الكرامة الإنسانيّة هي من أهمّ الأسس التي بني عليها التعايش في الإسلام.
من جهةٍ أخرى، وفي سياق توافد القيادات الدينيّة على مصر، التقى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، البابا تواضروس الثّاني، بطريرك الكرازة المرقسية للأقباط الأرثوذكس في المقرّ البابوي الأنبا رويس بالقاهرة، وكان الهدف من الزيارة تعزيز التّواصل بين المسيحيّين في الشرق العربي بمختلف طوائفهم وتعايشهم مع الأديان الأخرى وفق مبدأ الوطنيّة وليس الانتماء الديني.
وقال البابا تواضروس في كلمة الترحيب: "هنا نعيش بكلّ محبة مسيحيين ومسلمين، رغم كلّ الصعوبات والظروف، ولا سيّما تلك التي عشناها في الأعوام القليلة الماضية، بحيث مررنا بظروف قاسية وصعبة، ولكن تلك الظروف كانت مناسبة لنمتحن تضامننا أكثر فأكثر. ونحن كمصريين مسيحيين ومسلمين نحبّ الدّين كثيراً، لكنّنا لا نقبل بأيّ حكم باسم الدّين".
وتعليق..
لم يكن الإسلام بعيداً عن الدعوة إلى مدّ جسور التواصل والحوار، ورفض الإرهاب والتطرّف باسم الدّين. واليوم، لا بدَّ أمام ما تتعرَّض له الأديان من تشويه، أن يقف الجميع في وجه الإرهاب، وأن تنشط المواقف والمبادرات لحماية الواقع من كلّ المخاطر التي تتهدّده.
وفي سياقٍ متّصل، وحول نظرة الإسلام إلى تنوّع الأديان، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"إنّ الله تعالى خلق الإنسان متنوّعاً على أساس الوحدة في التنوّع، وجعل العلاقة بين الإنسان والإنسان الآخر في مناقشة التنوّعات هي الحوار والتفكير المشترك بصوت مسموع، والحوار يعني الاعتراف بالآخر، فلا يعتبر أحد أنّه يملك الحقيقة المطلقة، بل يملك وجهة نظر في فهم هذه الحقيقة، وإذا كان من حقّ البعض أن يختلف مع الآخر، فلماذا لا نعطي الآخر الحقّ في أن يختلف معه... لذلك كنّا نقول دائماً، وبالصَّوت العالي، أن لا مقدَّسات في الحوار، بشرط أن نملك أدوات الحوار...".
وقال: "عندما نقف أمام مسألة تنوّع الأديان، فإنّ الإسلام طرح مواقع اللّقاء كمرحلةٍ أولى للعيش مع الآخر، ودعا أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ للوقوف على أرض مشتركة، وهي توحيد الله ووحدة الإنسانيّة، فإذا وقفنا على هذه الأرض المشتركة، تمكّنّا من الحوار في ما نختلف فيه بروحيّة الاشتراك المسبق بيننا والمناخ الواحد... والإسلام أراد أن ينطلق الحوار بأفضل الوسائل التي تحترم إنسانيّة الآخر في قلبه وعقله وحياته، دون أن تسيء إليه، فلا عنف في أسلوب الحوار والعيش المشترك، ولا سيَّما أنَّ العقيدة الإسلاميّة تلتقي مع العقيدة المسيحيَّة في رموزها، على الرّغم من الاختلاف في شخصيَّة السيّد المسيح(ع)، وبعض تفاصيل اللاهوت الّتي لا بدَّ من أن ينطلق فيها الحوار بشكلٍ علميّ، لا الحوار في الشّارع الّذي ينـزل بالفكرة إلى الطّريقة الغوغائيّة...".
وأضاف: "لقد عاش الإسلام مع اليهود والنّصارى خلال أربعة عشر قرناً دون أن يسيء إليهم، بل كان اليهود هم من يسيطرون على مقدّرات الاقتصاد في كلّ بلد إسلاميّ يعيشون فيه، وكان الغرب يضطهد اليهود، ولا أدري لماذا يحمّلنا الغرب مسؤوليّة اضطهاده لليهود ويعاقبوننا على هذا الأساس؟... ولذلك، فإنّنا ننصح الشّباب أن لا يخضعوا للإعلام إلا بعد أن يدرسوه دراسةً دقيقةً على مستوى أديانهم وإنسانيّتهم، ونحب أن نؤكّد أن لا مشكلة لدينا مع الغرب، فقد استفدنا كثيراً من العلم الّذي يختزنه كما استفاد الغرب منّا سابقاً، لأنّنا نعتقد أنّ الحضارات تتفاعل، ونحن لا نحمل عقدة ضدّ الغرب، بل إنّ مشكلتنا هي مع الإدارات التي تقود الشّعوب، تماماً كما تعارض هذه الشّعوب بعض إداراتها في الخطوط السياسيّة والاقتصاديّة..."[أرشيف السيِّد/ مكتب سماحة المرجع آية الله العظمى السيِّد محمد حسين فضل الله. بيروت: 4 صفر 1425 هـ/25 آذار 2004م].
[مصدر التَّحقيق: جريدة العرب اللّندنيَّة، بتصرّف وتعليق من موقع بيِّنات].