اليوم: الخميس6 ربيع الأول 1445هـ الموافق: 21 سبتمبر 2023

جثث "تتجوَّل" بين القبور في طرابلس!

تحقيق..

جثث تتجوّل بين القبور! نعم، لا يتعجبنّ أحد؛ في بعض مقابر طرابلس بات كلّ شيء معقولاً، لم يعد الميت يرقد بسلام، إذ باتت حرمته معرّضةً للانتهاك والانتشال من تحت التراب. القصّة تخطّت حدود الخيال، وبدأ عصر التجارة بالأموات، ومن هجر مدفن عائلته، قد يأتي يوم ويفقده، كما حصل مع آل المنلا الّذين خسروا أربعة قبور قبل شهور، ليستعيدوا اثنين منها منذ نحو أسبوع. أمّا القضيّة التي فجّرت غضب الناس، وأثارت بلبلةً في عاصمة الشمال، فكانت نقل جثّة امرأة قبل أيّام في وضح النّهار، لكن هذه المرّة كانت الكاميرا بالمرصاد، ووثّقت الانتهاك. الأمر لم يعد يحتمل، خصوصاً حين يصل إلى العبث بجثث الأشخاص!

ماذا يجري في جبانة باب الرّمل؟ وكيف يتنقل الأموات من قبر إلى آخر في وضح النّهار؟ عن ذلك، أجاب مختار المنطقة، ربيع مراد، في حديثٍ إلى "النّهار"،  قائلاً: "إنّ بعض المقابر "بات أشبه بدكاكين مفتوحة، وعلى حساب بعض العاملين في أوقاف طرابلس، مدافن تباع من دون علم أصحابها وأخرى وهميّة، وقد وثّقنا نقل جثّة امرأة قبل أيّام بعد دفنها بأرض ليست لعائلتها". وأضاف: "علم أصحاب المدفن بالأمر، وبعد تقديمهم شكوى، أخرجت الجثّة منه ونقلت إلى مدفن آخر. القضيّة لا تتوقّف عند هذا الحدّ، فتجّار القبور لا يخجلون ولا يراعون حرمة الأموات. فالمؤتمنون على الأموات فوق المساءلة، ولا سيّما المشرف على المدافن، فهم يزيلون الشّواهد ويضعون أسماء وهميّة عليها تمهيداً لبيعها، وقد يصل سعر القبر إلى 5 آلاف دولار". وختم: "كلّ ما نطلبه هو حماية الأموات وإدارة مقابر فاعلة ومنتجة".

قبل أسابيع، تلقّت عائلة المنلا اتّصالاً علمت من خلاله أنّ أربعة قبور تعود إليها تمّ تغيير شواهدها، وبيعت لآل كبّارة ! وقال عبد السّلام المنلا لـ"النّهار": "لم يكن يوجد شواهد على المدافن، لنتفاجأ بوضع شواهد عليها لآل كبّارة، فرفعنا دعوى واستعدنا اثنين منها قبل نحو أسبوع". ولفت إلى أنّه "بحسب ما أخبرنا حارس المقبرة، دفنت جثّة في أحد القبور، أمّا البقيّة فكانت وهميّة".

يعلم اللّبنانيّون أنّ الفساد يلاحقهم فوق الأرض، لكن أن يصل الأمر إلى ما تحتها، فهو أمر يثير الدّهشة، لا بل السخرية من الحال الذي وصلنا إليه، فكيف يعلّق المشرف على الجبّانة الشيخ وليد اليوسف على الاتهامات الموجَّهة إليه؟. "لم يحصل شيء، كلّ ما في الأمر أنّ هناك مدفناً لآل المرعبي، كانت مجاري للصّرف الصحي تمرّ فوقه، وعلى الرّغم من أنّ البلدية أصلحته، إلا أنّ جانباً منه بقي، ولما فتحنا القبر انبعثت الرّوائح الكريهة، عندها طلبت العائلة أن نوجد مكاناً آخر لنقل رفاة أربع جثث كانت مدفونة فيه منذ سنوات، فكان لها ما أرادت، لكن تبيّن فيما بعد أنّ أصحاب القبر اعترضوا على الأمر، كون الأرض ملكاً لهم، فراجعنا دائرة الأوقاف التي أكّدت الأمر، واعتذرنا منهم، ثمّ عاودنا فتحه وإخراج الجثث، حيث نقلناها إلى مكان آخر بموافقة أهلهم طبعاً". وتساءل: "إذا لم يكن للقبر شاهد، كيف لنا أن نعرف أنّ له أصحاباً؟! لذلك في حال تحطّم الشّاهد، على الأهل المسارعة ووضع بديلٍ منه كي لا نستخدمه"؟ ولفت إلى أنّ "من يقومون بثورةٍ علينا اليوم ويهاجموننا، هم المتضرّرون من تطبيق القوانين، وذلك بعد أن أصبح دفن الميت يكلّف 300 ألف ليرة بدلاً من ألف دولار".

لا يعتقد أحد أنّ موضوع تجارة القبور جديد، فبحسب ما قاله رئيس قسم الشّؤون الدينيّة في دائرة أوقاف طرابلس، الشيخ فراس بلّوط لـ"النهار، أنّه "بالتأكيد كانت القبور تباع، لكن أنا استلمت إدراة المقابر منذ نحو سنتين، وكانت مخالفات المؤسّسات التي تعمل في إكرام الموتى لا تعدّ ولا تحصى، ووضعت لهم قانوناً ونعمل على تطبيقه، لكنّ ذلك لا يمنع من وقوع بعض الأخطاء". وأضاف أنّ "هناك متضرّرين من الإصلاحات التي تحصل على المقابر، وهؤلاء يقومون بالثّورات كالتي تحصل اليوم".

يقول بلّوط إنّ "ما يتمّ تداوله الآن عن نقل جثّةٍ من قبر إلى آخر هو أمرٌ قيد التّحقيق، ولا يمكن أن أقول إنّ الأمر صحيح أو لا، كوني لم أصل إلى نتيجة نهائيّة، فكلّ عامل في المقبرة يروي شيئاً مختلفاً عن القضيّة، وهؤلاء ليسوا موظَّفين في دائرة الأوقاف كي أستطيع محاسبتهم، كلّ ما يمكنني قوله لأحدهم إنّه لم يعد باستطاعتك أن تَدفن، لكن لا سلطة لي عليه. ومع ذلك هناك مبالغة، فالأمور مضبوطة بنسبة 70 إلى 80 في المئة، مع الإشارة إلى أنَّ بيع القبور ليس ممنوعاً شرعاً، لكن كون مقابر باب الرّمل الأربع، وهي: باب الرّمل الأساسية، والشهداء، والأيوبيّة، والبسار، تابعة للأوقاف، لا يجوز بيعها، بل يتمّ دفع تكاليف الدّفن، وهي 350 ألف ليرة، تشمل الغسيل والكفن والنّقل والحفر ضمن طرابلس، هذا إذا كان لدى العائلة قبر، أمّا القبر الجديد، فتصل كلفته إلى 500 ألف، كونه يحتاج الى أحجار "خفّان".

وتقوم دائرة الأوقاف بدراسةٍ مع البلديَّة لتسييج المقابر، "إذ ما يحصل بداخلها ويلات، ليس فقط عصابات سرقة، بل أوساخ ترمى على القبور، وهذا أخطر من بيعها، فمن يتاجر بها قد يكون فقيراً أو محتالاً، لكن من يرمي الأوساخ فما عذره؟ كما أنّ المقابر تغلق عند السّاعة الرّابعة، فماذا يحصل ليلاً؟ كيف لنا أن نعرف؟!".

وتعليق..

هذا الأمر مرفوض، فلا شريعة تقرّ بذلك ولا أخلاق، إنها جريمة أخلاقيّة وإنسانيّة كبرى، فكما للحيّ حرمته، كذلك للميت حرمته وكرامته. من هنا، على الجهات المختصّة التحرّك بشكلٍ سريع للاقتصاص من هؤلاء المجرمين والعابثين بالكرامات، ليكونوا عبرةً لغيرهم، وعلى كلّ الجهات الدينيّة والمدنيّة تحمّل المسؤوليّة كي لا تتكرّر هذه المأساة، كما أنّ هذه الجريمة تبرز عمق الأزمة الاجتماعيّة والإنسانيّة، ومستوى الانحطاط الذي يصيب الواقع، فقد وصل الأمر بالبعض إلى المتاجرة بالأموات، ولم يعد يكفي المتاجرة بالبشر على وجه الأرض.

 وفي سياقٍ متّصل بنبش القبور وموارد جوازها، يقول سماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض):

"لا يجوز نبش القبر إلاَّ عند وجود ضرورة تستدعي ذلك، ولها موارد متعدّدة نذكر بعضها كما يلي:

الأوّل: إذا دفن الميت في المكان المغصوب عدواناً أو جهلاً أو نسياناً، ولم يرض المالك ببقائه، فإنّه يجب إخراجه منه، لأنَّ الدّفن الحاصل غير شرعيّ، فلا اعتبار به، ولتخليص المال المحترم ـ وهو أرض المالك ـ من العدوان عليه بالغصب، ويلحق بهذا الفرع، ما إذا كان الكفن مغصوباً، أو دفن معه مال مغصوب، أو ماله المنتقل إلى الوارث بعد موته.

الثّاني: إذا كان مدفوناً بلا غسل ولا كفن، أو تبيّن بطلان غسله، أو كان كفنه على غير الوجه الشّرعي، كما إذا كان من حرير أو من جلد غير المأكول، فيجوز نبشه لتصحيح وضعه الشّرعي، لأنَّ الدّفن ـ بالصّورة المذكورة ـ ليس شرعيّاً، فلا حرمة له، ولكن يختصّ ذلك بصورة ما إذا لم يؤدّ النّبش إلى هتك حرمته والإساءة إلى كرامته، فإنَّ المفسدة النّاشئة من هتك حرمة المؤمن، أهمّ وأجدر بالمراعاة من المفسدة في فقدان الشّروط الشرعيّة لتجهيزه، فتتقدّم عليها.

ويلحق بذلك صورة ما إذا وضع على غير القبلة، ولو جهلاً أو نسياناً، أمَّا في صورة غسله بالماء القراح بعد تعذّر السّدر والكافور، فوجد بعد ذلك، أو كان الدّفن بعد التيمّم للميت لفقد الماء، فوجد الماء بعد دفنه، فلا يجوز النّبش في تلك الحال، لصحّة التيمّم في الصّورة الثانية والغسل في الصّورة الأولى، فلا مخالفة للواجب ليكون النّبش لتصحيح الوضع الشّرعي.

وهكذا لو دفن قبل الصّلاة عليه، أو تبيّن بطلان الصّلاة، فلا يجوز النّبش لأجلها، بل يصلّى على قبره.

الثالث: إذا توقّف على رؤية جسده إثبات حقّ من الحقوق، أو دفعُ مفسدة كبيرة، أو تحقيق مصلحةٍ راجحة على ذلك، ولو كان ذلك من أجل معرفة الجريمة الواقعة على الميت، لتأكيد شخصيّته، أو لفحص موقع الجريمة، أو نحو ذلك مما له علاقة بإثبات الحقّ أو الدّعوى لترتيب الآثار الشرعيّة عليه.

الرّابع: إذا كان النّبش لمصلحة الميت، كما إذا كان مدفوناً في موضعٍ يوجب مهانةً له، كمزبلة أو بالوعة ونحوهما، أو في موضعٍ يتخوّف فيه على بدنه من سيلٍ أو سبعٍ أو عدوّ، أو كان معرَّضاً للإهانة في المستقبل، بتحويل المكان الّذي دفن فيه أو المكان القريب منه إلى عنوان يستوجب الإضرار بحرمته والإساءة إلى كرامته.

الخامس: نقله إلى المكان الّذي أوصى بدفنه فيه أو أذن الوليّ فيه، إذا كان الدفن في المكان الحالي على خلاف الوصيّة أو بدون إذن الوليّ.

وبالجملة، فإنّه يجوز النّبش في كلّ مورد كانت المصلحة فيه أقوى من المفسدة، سواء كان ذلك بالنّسبة إلى الميت، أو بالنّسبة إلى القضايا العامّة، أو المصالح المتّصلة بأشخاص محدّدين.

إذا دفن الميت في الأرض المملوكة بإذن أصحابها، أو قبل انتقالها إلى ملكيّة الغير، ثُمَّ تعارض وجود القبر مع مصلحة المالك الرّاغب في البناء بها ونحوه، لم يجز نبش القبر ونقل رفات الميت إلى مكانٍ آخر من الأرض، أو إلى مقبرة البلدة، من أجل بيع الأرض أو البناء عليها للاستفادة الماليّة أو الانتفاعيّة، ولكن يجوز ذلك إذا خيف على الجثّة المدفونة من التعرّض للإهانة في المستقبل، أو كان في وجودها في مقبرة المسلمين مصلحة للميت، من خلال كثرة المترحّمين عليه والزّائرين له والدّاعين له من قبل النّاس المتردّدين على المقبرة العامّة". [كتاب فقه الشَّريعة، ج 1، ص 214-216].

[مصدر التَّحقيق: جريدة النّهار اللّبنانيّة، والتّعليق من موقع بيِّنات].

تعليقات القرّاء

ملاحظة: التعليقات المنشورة لا تعبّر عن رأي الموقع وإنّما تعبر عن رأي أصحابها

أكتب تعليقك

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو الأشخاص أو المقدسات. الإبتعاد عن التحريض الطائفي و المذهبي.

  • تحويل هجري / ميلادي
  • المواقيت الشرعية
  • إتجاه القبلة
  • مناسبات
  • إتجاه القبلة
تويتر يحذف حساب عهد التميمي تويتر يحذف حساب عهد التميمي الاحتلال يعتقل 3 فتية من الخليل الشيخ عكرمة صبري: من يفرط في القدس يفرط في مكة والمدينة شيخ الأزهر يؤكد أهمية تدريس القضية الفلسطينية في مقرر دراسي حماس تدين جريمة كنيسة مارمينا في القاهرة الهيئة الإسلامية المسيحية: الاعتداء على كنيسة حلوان إرهاب يجب اجتثاثه الحكم على محمد مرسي بالحبس 3 سنوات بتهمة إهانة القضاء الحكم على محمد مرسي بالحبس 3 سنوات بتهمة إهانة القضاء منظمات أممية تدعو لوقف الحرب في اليمن داعش تتبنى هجوم الأربعاء على متجر بسان بطرسبورغ الميادين: مسيرات حاشدة في مدن إيرانية رفضاً للتدخل الخارجي بالبلاد بنغلاديش تستعد لترحيل 100 ألف لاجئ من الروهينغا إلى ميانمار فى يناير/ كانون الثاني وزير ألماني محلي يدعو للسماح للمدرسات المسلمات بارتداء الحجاب صحيفة أمريكية: الولايات المتحدة تفكر فى قطع مساعدات مالية عن باكستان مقتل 3 عمال في إطلاق نار في ولاية تكساس الأميركية بوتين يوقع قانوناً لإنشاء مختبر وطني لمكافحة المنشطات مسلح يقتل عمدة مدينة بيتاتلان المكسيكية علماء يبتكرون لقاحاً ضد الإدمان على المخدرات منظمة الصحة العالمية: السكري سابع مسببات الوفاة في 2030 دراسة: تلوث الهواء يقتل 4.6 مليون شخص كل عام المشي 3 كيلومترات يومياً يحد من تدهور دماغ كبار السن ضعف العلاقات بين المهاجرين ندوة في بعلبكّ: دور الحوار في بناء المواطنة الفاعلة شهرُ رجبَ شهرُ الرَّحمةِ وذكرِ الله لمقاربةٍ لبنانيَّةٍ وحوارٍ داخليٍّ قبل انتظار مساعدة الآخرين السَّبت أوَّل شهر رجب 1442هـ مناقشة رسالة ماجستير حول ديوان شعريّ للمرجع فضل الله (رض) الحجاب واجبٌ وليس تقليدًا اجتماعيًّا في عصر الإعلام والتّأثير.. مسؤوليَّة تقصّي الحقيقة قصّة النبيّ يونس (ع) المليئة بالعبر المرض بلاءٌ وعذاب أم خيرٌ وثواب؟! فضل الله في درس التفسير الأسبوعي
يسمح إستخدام المواضيع من الموقع شرط ذكر المصدر