تحقيق..
تطالب منظّمات حقوقيّة ونسائيّة في المغرب، بضرورة القيام بإصلاحاتٍ في نظام الإرث الإسلاميّ القائم، والّذي يوزّع التركة بفوارق بين الرّجل والمرأة. ويبدو أنّ السياسيّين هناك يتحفّظون في التعامل مع هذا الموضوع الذي ينطلق من نصّ قرآنيّ.
توفّي والد أمينة .ح ( 45 عاماً)، وترك لها ولأختها ولأخيها ثروةً لابأس بها، حيث إنّه كان يمارس التجارة. وطبقاً لأحكام الإرث في الشّريعة الإسلاميّة، فقد ورث الابن الوحيد نصف الثّروة، بينما تقاسمت الأختان النّصف الباقي. لكنّ أمينة تتحسّر على نصف الثروة المتمثلة في عقارات ومحطّة وقود، والتي بذّرها "الأخ السكّير والمقامر"ـ أو استفرد بها بالتّحايل على القانون والرّشوة: "كلّها ذهبت أدراج الرّياح في الخمر واللّيالي الحمراء والهدايا القيّمة التي أنفقها على صديقاته."
وتقول أمينة في لقاءٍ مع: DW "أنا مسلمة وملتزمة دينيّاً، لكنّني أؤمن بأنّ الدّين منفتح وقابل للتّغيير، حسب متطلّبات العصر والحاجة"، في إشارةٍ إلى مساندتها للمواقف المطالبة بتغيير نظام الإرث الّذي يعبتر أنّ " للذّكر مثل حظّ الأنثيين"، وذلك من خلال تطبيق نظام "المناصفة"، كما يطالب به عدد من الجمعيّات الحقوقيّة والحداثيّين عند الحديث عن توزيع التركة بين الرجل والمرأة.
وتضيف المتحدثة أنّها وأختها استفادتا من تدبير جزءٍ من الثروة الموروثة، وأنهما أدارتا مشاريع لا بأس بها، تدرّ عليهما دخلاً محترماً. وتتساءل: "لكن أليس حراماً أن يذهب أكثر من نصف ثروة العائلة سدى؟".
أمّا فاطمة الرّويشي (52 عاماً)، فكان وضعها اسوأ عندما تركها أبوها وسط خمسة من أخوانها الذّكور، حيث تحايلوا على قسمتها، ولم تستفد من نصيبها من أرض شاسعة في إحدى القرى، إضافةً إلى عقارات في مدن مختلفة. وتلاحظ قائلةً: "الله عادل ولا يقبل الظّلم، و"للذّكر مثل حظّ الأنثيين" كانت قاعدةً ممتازةً وعادلةً لو كانت تطبَّق دائماً كما جاءت في النص القرآنيّ، ولو بقي المجتمع كما كان سابقاً، حيث يتكلّف الرّجل بكلّ واجبات النّفقة على المرأة وبيته وأسرته".
وتشير فاطمة إلى وضعها: "زوجي يشتغل في تجارة صغيرة لا تدرّ عليه دخلاً مستقرّاً ومحترما، وقد اضطررت للعمل للمساعدة على إعالة الأسرة، حيث أتحمّل أكثر من 80 في المائة من مصاريف البيت والأولاد."
وكان المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو هيئة حقوقيّة رسميّة منذ أكثر من شهرين، قد فجَّر جدلاً كبيراً بين المحافظين والحداثيّين، عندما شدّد في آخر تقرير له على ضرورة تحقيق المساواة والمناصفة بين النّساء والرجال في المجتمع المغربي، بما في ذلك المساواة في الإرث.
وأوصى تقرير المجلس بشأن "وضعيّة المساواة والمناصفة بالمغرب"، بضرورة تعديل مدوّنة الأسرة بشكل يضمن للمرأة المغربيّة حقوقاً متساوية مع الرّجل في الإرث، وفقاً للفصل 19 من الدّستور، والمادّة 16 من اتفاقيّة القضاء على كلّ أشكال التّمييز ضدّ المرأة، وطبقاً للمعايير الدولية. واعتبر التقرير أنّ "المغرب لا يمكنه ترسيخ الديمقراطيّة وتحقيق تنمية مستدامة دون تحقيق المناصفة والمساواة."
مدوّنة الأسرة الّتي أقرّها العاهل المغربي محمد السّادس قبل عشر سنوات، اعتبرت آنذاك أكثر مدوّنة في تاريخ المغرب المعاصر تطوّراً وضماناً لحقوق المرأة في مواضيع الزّواج والطّلاق والحضانة، لكن تبقى فيها ثغرات غير محقّة تجاه المرأة.
وكان عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة المغربيّة، وزعيم حزب العدالة والتّنمية، قد واجه ردود فعل منتقدة من طرف الحداثيّين والمدافعين عن حقوق المرأة، عندما رفض في حوارٍ تلفزيونيّ توصية المجلس بخصوص المناصفة في الإرث وطالب "بالاعتذار للمغاربة".
ويرى عبدالواحد بوغريان، الناشط الحقوقي، وممثّل مؤسَّسة فريدريتش نومان في الرّباط، "أنّ الوضع في يومنا هذا قد تغيّر، فالنّساء يشتغلن. وحسب إحصائيّات رسميّة، فإنّ نسبة خمس عدد العائلات المغربيّة يتمّ إعالتها من لدن امرأة. كما أنّ هناك رجالاً عاطلين من العمل! فلماذا التشبّث بقاعدة "للذّكر مثل حظّ الأنثيين؟". ويتساءل بوغريان: "هناك نساء لم يرثن عبر التّاريخ في مناطق "الأراضي السلالية" في المغرب، ولم تتغيّر القوانين إلا في عهد العاهل محمد السّادس الّذي أعطى للمرأة الحقّ في وراثة تلك الأراضي"، منتقداً بذلك الأصوات المدافعة عن تطبيق أحكام الشّريعة الإسلاميّة في الإرث.
ويشير بوغريان إلى وجود نصوص قطعيّة في القرآن، مثل قطع يد السّارق ورجم الزانية وتحريم الرّبا، ويلاحظ: "لكنّنا استطعنا أن نتجاوز هذه النصوص القطعيّة، ووجدنا مخرجاً، بحيث لا نقطع يد السّارق ولا نرجم الزّانية ونتعامل بالرّبا مع البنوك."
ويقترح بوغريان ضرورة التّعامل مع موضوع الإرث من منظور الوصيّة، مثلاً، يوصي رجلٌ بتقسيم ثروته بين أبنائه بالشّكل الّذي يراه مناسباً، حسب احتياجات كلّ واحد منهم، أو ترك الأمر لمعادلة الإرث القرآنيّة.
من جهته، اعتبر أحمد الخمليشي، مدير مؤسّسة دار الحديث الحسنيّة، وهي مؤسّسة رسميّة، أنّ "موضوع الإرث طويل ومتشعّب، ملاحظاً أنّه " يحتاج إلى سلسلة من النّدوات والمؤتمرات لمناقشة النّصوص الشرعيّة".
أمّا الفقيه محمد الفيزازي، الّذي كان معتقلاً على خلفيّة مواقف سلفيّة متشدّدة اتهمته بها السلطات المغربيّة، قبل أن ينال عفواً ملكيّاً، فقد اعتبر "أنّ المجلس الوطني لحقوق الإنسان ليس مؤهَّلاً للحديث في موضوع الإرث"، وأنّ للدّولة مؤسّسات، "ولا بدّ من احترام تخصّصات كلّ مؤسّسة على حدة."
وتعتبر الناشطة الحقوقيّة ليلى ماجدولين، عضوة تحالف "ربيع الكرامة" المدافع عن حقوق النّساء، في تصريحات لDW ، أنّ "النّساء في عصرنا الحالي لسن مجرّد ربّات بيوت مستهلكات، بل مسؤولات يشتغلن داخل البيت وخارجه، ويدفعن الضّرائب، وهنّ مصدر للتّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ورائدات في الفكر والاقتصاد، فكيف نحرم نصف المجتمع من حقوقه؟".
وتعليق..
على المجتمع الإسلاميّ أن ينظر نظرةً شموليَّة إلى أبعاد نظام الإرث في الإسلام، ومعرفة الغاية والحكمة منه، بعيداً عن الصّخب الإعلاميّ وإثارة المواقف من هنا وهناك.كما ولا يجوز بالمنطق الإنساني والدّيني حرمان المرأة أو أيّ شخص من حقّه في الإرث الذي جعله الله له.
وحول نظام الإرث وما يتّصل به، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً}.
في هذه الآية إجمالٌ لما سيفصِّله القرآن في هذه السّورة من النظام الإسلاميّ للإرث؛ وقد أكّدت خطّ الإسلام في إعطاء المرأة نصيباً مفروضاً من التركة، كما هو الحال في إعطاء الرّجل نصيباً منها ـ قليلاً كان أو كثيراً ـ لأنّه لا فرق بينهما في الأساس الّذي ارتكز عليه هذا النظام، وإن افترقا في بعض التّفاصيل في ما سنفصِّله من حديث؛ وذلك على خلاف النّظام المتّبع في الجاهليّة من منع المرأة حقّها من ذلك، لكونها لا تقدّم شيئاً للمعركة مما يقدّمه الرجل في الدفاع عن العشيرة، ولا تقدٍّم شيئاً للإنتاج في ما يقدِّمه للعائلة من جهده الذاتي؛ فكان الإرث للأبناء، وربما كان للولد الأكبر بالذات، لأنه الذي يقوم مقام الأب في رعاية شؤون العائلة. في المقابل، لا تنطلق النظرة الإسلاميّة من المكاسب الّتي يحصل عليها الآخرون من خلال الوارث، ليكون ذلك هو الفارق في إعطاء هذا الحقّ؛ بل ترتكز على أساس المفهوم الإسلامي في العلاقات الإنسانيّة بين الأرحام، وفي نظريّته في توزيع الثّروة، ما يجعل دور المرأة والرّجل على حدٍّ سواء من ناحية المبدأ.
{لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ} أي حصّةٌ وسهمٌ، من دون فرقٍ بين الكبار والصّغار {مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ} من المال الّذي بقي له من مجموع ما كان عنده فتركه وارتحل، والأقربون هم القرابة الأدنون، {وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ} أي جميع النّساء ومن غير تخصيص، فلهنَّ الحقّ في الإرث كموردٍ خاصّ من التركة، لأنّ موقع المرأة في الحقوق الإنسانيّة المرتبطة بعنصر القرابة لا يختلف عن موقع الرّجل، وإذا كان للرّجل دورٌ مهمّ في الحياة الاقتصادية، فإنّ لها دوراً لا ينقص عنه في الأهميّة، فلولا رعايتها للبيت في كلّ شؤونه، وحضانتها للأولاد، وعنايتها بالزّوج والأب والولد والأمّ والأخ، لما استطاع الرّجل أن يتفرّغ لعمله الإنتاجيّ. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ للمرأة أكثر من فرصة للإنتاج في عملها اليدويّ والذّهنيّ في مختلف مجالات الواقع الاقتصادي، كما أنّ لها أكثر من دورٍ في عمليّة المواجهة للعدوّ، وتحمّل أثقال المسؤوليّات العامّة والخاصّة، في الحالات التي تتوفّر فيها الظروف المحيطة لتحقيق الشّروط اللازمة للقيام بذلك في الحرب والسِّلم، لأنّ الواقع الذي كانت تعيش فيه المرأة، أبعدها عن ساحة الحركة الفاعلة في القضايا العامّة، {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ}، أي من كلّ ما يتركه الميت من قليل المال وكثيره، لأنّ القضيّة ليست في حجم المال بل في المبدأ، {نَصِيباً مَّفْرُوضاً}، أي حظّاً لازماً في الحدود الشرعيّة الّتي فرضها الله للوارثين.
وقد يكون من المفيد ـ في هذا المجال ـ أن نقف وقفة تأمّل، لنفهم الأسس الإنسانيّة والاقتصاديّة الّتي انطلق منها الإسلام في هذا النظام الاقتصاديّ من شريعته...
إنّ المفهوم الإسلاميّ لعلاقات القرابة بين الآباء والأبناء، أو بين ذوي القربى، أو بين الأزواج، هو أنها تمثّل خليَّة حيَّة من خلايا المجتمع، تحقّق لأفراده نوعاً من الترابط الروحي والعاطفي والاقتصادي، سواء كان ذلك في نطاق الحياة الّتي يعيشون فيها معاً، فيما تفرضه عليهم العلاقات من مسؤوليّات، أو كان ذلك في نطاق الّذين تركوا الحياة تجاه الّذين لا زالوا يعيشون فيها. ففي الحالة الأولى، هناك تنظيمٌ لعلاقة الأب والأمّ بولدهما، وبالعكس، في وجوب الإنفاق؛ فيجب على الطرف القادر ماليّاً أن يعيل غير القادر، من دون اعتبارٍ لعامل السنّ؛ وكذلك الحال في علاقة الزّوجة بزوجها، ولكن من طرف الزّوج لا من جانب الزّوجة. وفي الحالة الثانية، هناك تخطيط لتوزيع التركة على الأقرباء أو الأزواج، من أجل إبقاء الامتداد العمليّ للعلاقة محفوظاً بعد الموت...".[المصدر: تفسير من وحي القرآن، ج 7، ص 91. (من أراد الاستزادة حول الموضوع، فليراجع تفسير من وحي القرآن، ج 7، ص 91 وما يليها)].
[مصدر التّحقيق: قناة دوتشه فيليه العربية، بتصرّف وتعليق من موقع بيّنات]