تحقيق..
تراوحت ثقافة بعضهم في المجتمع السّعوديّ ما بين الإيمان بالحسد، واليقين بالتأثّر به... كما تتباين هذه الثّقافة ما بين حقيقة العلاج بالطبّ النّفسي، والإيمان بالرّقية الشّرعية، ما يشكِّل تداعيات اجتماعيّة عريضة طرحت ولا تزال تطرَح كقضيّةٍ للنقاش في الإعلام المرئي والمقروء.
وتظهر دراسات أنَّ ثمة شرائح في المجتمع ترجِّح كفّةً على حساب أخرى بإيمانٍ مطلق، فيما يرى آخرون أنَّ الإيمان بهما معاً كطرفي معادلة، يخلق توازناً يرتكز على اعتبارات تحليليَّة لطبيعة حال الشّخص المرضيّة. وحقيقة الأمر أنّ الجانبين في نهاية المطاف لا يتعارضان، وإن اختلفا في بعض القناعات، فما قد يعالجه الطّبّ النفسي، ليس بالضّرورة في مقدور الرّقية الشّرعية علاجه، والعكس صحيح.
وفي إطار هذين المجالين، تبرز مجموعة من متوهّمي بعض العلل، وأمراض العين، والسِّحر، أو المسّ، تسكنهم وساوس يركنون إليها وقت الحاجة، تهرّباً من مسؤوليَّة إخفاقات دراسيّة، أو عمليّة، أو اجتماعيّة، تطمئنّ بها نفوسهم، بعد وضع اللائمة على من يسمّونهم بـ «الحاقدين، والحاسدين من الآخرين».
وفي هذا السِّياق، ذكر المستشار التربوي الأسري الدّكتور خليل الزيود، أنّه كان «في زيارة أحدهم، فراح يشتكي من رسوب ابنه في مادّة الرّياضيّات، وهو طالب في المرحلة الثانويّة، ويعاني من مسٍّ شيطانيّ من النّوع المختصّ بالتّفريق بين الإنسان والعلم، وفق ما أفادهم أحد المشايخ». وأضاف: «بعد حوارٍ وتواصلٍ مع الطّالب لمدّة أسبوعٍ كاملٍ، أعطيته ظرفاً محكم الإغلاق، وطلبت منه أن يضعه تحت رأسه كلّ ليلة لأسبوع متواصل، كعقاب مسخّر على شيطان التجهيل الذي سلط عليه».
وأردف الزيود في موقفٍ يرويه على صفحته في موقع التّواصل الاجتماعي «فايسبوك»، أنّ «الطّالب اقتنع بالأمر وطبَّق وصيّته، وانطلق يدرس، ويتعلَّم، وحقَّق إنجازاً بارزاً في امتحان مادَّة الرياضيّات، والسّعادة تغمر محيّاه. وطلب الأب إطلاعه على سرّ المغلّف، وبعد زيارتهم، طلب منهم إحضار المغلَّف وفتحه، فلم يجدوا فيه سوى عبارة تدعوه إلى المذاكرة لتحقيق النّجاح ليس إلا».
واعتبر المعالج بالرّقية الشّرعية عبدالعزيز النّوفل، أنّ «التوهّم بالمرض والحسد وسواس قهريّ له علاج بالقرآن الكريم»، مشيراً إلى أنّ لديه «برنامجاً علاجيّاً لهذا الوسواس، يرتكز على أنّ المصاب بالوهم يشرع في تلاوة القرآن، ويتدبَّر معانيه بنفسه، إلى جانب الإكثار من الذّكر، وقول كلمة «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير»، لافتاً إلى أنّ «كثرة الذّكر تحصّن النّفس من الشّيطان والوساوس».
وأوضح النّوفل في اتّصال مع «الحياة»، أنّ «معظم المرضى الّذين يأتون إليه مصابون بعلل حقيقيّة ليست وهميّة»، مشيراً إلى أنّه «يتبع معهم علاجات بالقرآن الكريم وفق حالاتهم المرضيّة». وكشف أنّ «كثيرين منهم يشفون بإذن الله بعد التزامهم ببرنامج العلاج»، مشدّداً على أنّه «يقدِّم العلاج من دون مقابلٍ مادّيّ ابتغاءً للثّواب والأجر من الله».
فيما نفى المعالج بالرّقية الشّرعية والطّبّ البديل محمد العسعوس، أن «تكون العين سبباً رئيساً في الإصابة بالأمراض، أو في إخفاق شخصٍ ما». وقال: «إنّ بعض الطلاب يتوهَّمون إصابتهم بأمراض العين والحسد، لجعلها حجّةً في عدم إكمال الدّراسة، والتعلّم»، لافتاً إلى أنّ «ذلك يتكشَّف من خلال المعالجة بالرّقية الشّرعية، إذ إنّ هؤلاء لا تظهر عليهم أيّة أعراض مرضيّة بعد القراءة، وهم قلّة، وفي حاجة إلى معالجات سلوكيّة خاصّة، ووسائل إقناع، وتحاور، ما يجعلنا نوجّههم إلى معالجين نفسانيّين».
واعتبر أستاذ علم النّفس المشارك في جامعة طيبة سابقاً، الدكتور حسن محمد ثاني، أنّ «ثقافة الوهم والحسد عامّة في المجتمع»، مشيراً إلى أنّ «معظم النّاس لا يريدون تحمّل المسؤوليّة في أيّ شيء، ويتهرّبون منها، كما يتهرّبون من عواقبها، حتى لا يتعرّضوا للّوم، أو الاتهام بالتّقصير، أو عدم التّحصيل والاجتهاد».
ووصف حال الطّالب الّذي يفشل في الاختبارات متوهِّماً أنّه محسود، بـ «الحيلة النفسية اللاشعورية للهروب من لوم المحيطين به»، لافتاً إلى أنّ للأهل دوراً في ترسيخ اعتقاد الوهم لدى أبنائهم أحياناً، كي يجنّبوهم الشّعور بلوم أنفسهم بالتّقصير والفشل.
وأكّد محمد ثاني أنّ «بعضهم يلقي باللّوم على النّصيب في أحداث يلحق الشّخص الضّرر فيها بنفسه وبمن حوله، مثل حوادث السيّارات التي يتسبّب فيها السّائق نظراً إلى رعونته، ثم يأتي أهله ويقولون إنها قضاء وقدر، ولا يقرّون بخطئه أو تهوّره في القيادة، ومثلها بعض حالات التسمّم في الأعراس الّتي تصيب مدعوّين، إذ يرجعون أسبابها إلى العين، والسّحر، ما أدّى إلى انتشار ظاهرة غسيل فناجين القهوة والشّاي بعد الانتهاء من المناسبة، وجمع ماء الغسيل المتبقّي في قوارير، وبيعها من بعض الأفراد، وهي تجارة قائمة في الأساس على الوهم».
وأشار محمد ثاني إلى أنّه «يمكن علاج الوهم بالوهم في حال تأكّد الطّبيب أنّ إصابة المريض غير حقيقيّة. وحتى يتمكَّن المعالج من تغيير سلوكيّات المريض، يعطيه أيّ دواء حتى وإن كان قطعةً من السكَّر مغلّفة على شكل حبّة دواء كعلاج للوهم، وهي حيلة نفعت في حالات كثيرة، وأثبتت فاعليَّتها طبّياً».
وتعليق..
لا بدَّ من قراءة مثل هذه الأمور جيِّداً، والرّجوع إلى العلماء، حتى لا يقع المرء في يد من يتَّخذون من الرّقى والسِّحر وكشف الطّالع والتّنجيم وغيرها وسائل للارتزاق، فهم محتالون يترصَّدون من يعيشون في وهمٍ ليتستغلّوهم، وإن كان ليس من مانع في حمل رقى فيها كلام الله سبحانه.
وبالنّسبة إلى الحسد والرّقية والعين، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"ليس للحسد تأثير مادّيّ مباشر، إذ ليس الحسد إلا حالة نفسيّة باطنيّة، وأمّا السّحر، فلا واقعيّة له، ويقتصر تأثيره على مخيّلة الإنسان، لأنّه أعمال خفّة تؤثّر في النظر، وتوقع الناظر في الوهم، ما قد يجعل ضعيف النّفس يتأذّى في نفسه وعقله بسبب تلك الأعمال... هناك ما يدلّ على وجود تأثيرٍ للعين، كالّذي روي عن النبيّ(ص) أنّه قال:"العين حقّ"، وهناك بعض الرقيات الواردة، وكان النبيّ(ص) يعوذ الحسن والحسين(عليهما السّلام) بالمعوذتين، مع احتمال أن يكون المراد من شرّ الحاسد هو كيده الخارجيّ، وسعيه لزوال نعمة المحسود، وليس قدرته على إحداث الأذى بمجرّد النّظر.. أمّا القراءة على المصاب فهو جائز، لما ورد من رقى ومعوذات". [كتاب المسائل الفقهيّة، المعاملات، ص 69-70].
[مصدر التَّحقيق: جريدة الحياة اللّندنيَّة، بتعليقٍ من موقع بيِّنات].