تحقيق..
ما زال في المجتمع من تحكمه الفطرة على التّصرّفات المجبولة على فعل الخير، وغالباً ما يسير البعض من هؤلاء خلف عاطفته طلباً للأجر، وينساق أو ينجرف أحياناً مع الأساليب الخدّاعة الّتي ينتهجها المتسوّلون، سواء كان ذلك عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ، أو في المساجد والأماكن العامّة، أو في الطرقات ونحوها، ولا شكّ في أنَّ من يبحث عن فعل الخير لا يلام إطلاقاً ـ فما عند الله خير وأبقى ـ ولكن ليس كلّ متسوّلٍ يعتبر فقيراً معدماً، وليس كلّ متسوّل عليلاً أنهكته الأمراض المستعصية، وإنما بعضهم اتّخذ هذه الوسيلة مهنةً مربحةً لا تتطلّب أدنى جهد، ويجني من خلالها، وفي مدّة قصيرة، الملايين...
ويعدّ التسوّل عن طريق "الواتس آب"، من أخطر أساليب التسوّل، كونه يحمل عبارات استعطافيّة مستحدثة تشدّ البسطاء، ويتمّ تداولها في المجموعات ـ الغروبات ـ بشكلٍ واسعٍ وسريع، مع ما تحمله الرّسائل من أرقام حسابات في البنوك تسهّل عمليّة الدّفع.
ويلاحظ تساهل البعض في التبرع لأولئك الّذين يرسلون طلبات تبرّع عبر رسائل عن طريق "الواتس آب"، لمريضٍ يحتاج إلى علاجٍ أو ما إلى ذلك، وأحياناً يتمّ ذلك عن طريق شخصٍ ذي ثقة، وإذا تمَّ البحث والتقصّي، لوجدنا أنّه غشّ وخداع...
وتؤكّد وفاء أبو هادي ـ كاتبة وإعلاميّة ـ أنّ التّسوّل عن طريق "الواتس آب" انتشر في الفترة الأخيرة، وينساق خلفه البعض، وخصوصاً النّساء، مشيرةً إلى أنَّ جمع التبرعات عن طريق "الواتس آب" يتكوَّن من شقَّين؛ الأوّل: استخدام هذه الوسيلة كدخلٍ مادّيٍّ عند البعض ممن امتهنها وأتقن طرق إقناع النّاس بها بأساليب عديدة، ومنها اللّعب على وتر العاطفة بأساليب متنوّعة، وقد يجمع ثروةً كبيرةً من وراء هذا الاحتيال، ومن خلال تأليف قصص مختلقة لإدرار عاطفة النّاس عليه، ومن ثم مدّه بالمال.
أمّا الشقّ الثّاني، فهو استخدام هذه الطّريقة لمساعدة شخصٍ يحتاج فعلاً إلى مساعدة، ويمرّ بظروفٍ ويحتاج إلى من يقف بجانبه، وهنا يضطرّ إلى سؤال النّاس عبر مواقع التواصل، كوسيلة لمساعدته، وقد يجد من يصدّقه فيساعده، وربما لا يجد تجاوباً من أحد، جرّاء ما ساد عند النّاس من أنَّ وراء هذه القصّة تلفيقاً وكذباً.
وتؤكِّد أبو هادي أنَّ عمليّة التثبّت ضروريّة جدّاً، وتحتاج إلى ذكاء وفطنة، فربما طلب هذه المبالغ لأعمالٍ تخريبيّة، وهذا ما أثبتته الكثير من القصص، أو أن يكون نوعاً من أنواع الاحتيال لشخصٍ عاطلٍ من العمل اتّكل على ما في أيدي النّاس بهذه الطريقة، فلا بدَّ من التقصّي ومعرفة هذا الشَّخص ومكان إقامته والظّروف المحيطة به.
وشدَّدت وفاء أبو هادي على ضرورة تكثيف وسائل التّوعية، وخصوصاً مع تطوّر التقنيَّة واستخدامها في أساليب الاحتيال، مضيفةً: "للأسف الشَّديد، وسائل التّوعية في هذا الجانب ليست بالشَّكل المطلوب، فلا بدَّ من أن تكثَّف على نطاق أوسع، ولا بدَّ من أن يكون للإعلام مشاركة فعالة في هذا الجانب، وبخاصّة مع توفّر "الغروبات" في "الواتس آب"، وهذا ما يسهِّل تواجد أشخاصٍ بأعدادٍ كثيرة، فيصبح من السَّهل تصيّد أكبر عددٍ من النّاس".
ويؤكّد د. زيد بن عبدالله بن دريس ـ باحث في علم الجريمة ـ أنَّ أخذ أموال النّاس بالباطل وبغير حقّ، جريمة يعاقب عليها القانون في جميع الأنظمة والأديان، وقد شرَّع الله سبحانه في كتابه المحكم وسنَّة نبيّه الشّريفة، الطّرق الشّريفة التي من خلالها يرزق الله الإنسان من حيث لا يحتسب، وقد أمرنا الله تعالى بالسّعي وبذل الجهد..
ويتابع: "ولكنَّ بعض الأشخاص يجد تجاوباً من الآخرين عندما يقوم بطلب المال من خلال محاكاة الجانب العاطفيّ لديهم، بالقيام ببعض الحركات والأساليب الخادعة الكاذبة والبكاء، وأحياناً إحضار بعض الأوراق والفواتير الّتي قد لا تتعلَّق به نهائيّاً، أو إرسال بعض الأطفال والنّساء للوقوف أمام الإشارات المروريّة".
ونبّه إلى أنَّ هذا دليل على أنَّ الجانب العاطفيّ هو الطّريق السَّهل الّذي من خلاله يتمّ الوصول إلى موافقة الشَّخص على العطاء، من دون تعقّلٍ في بعض الأحيان...
وتعليق..
هناك جملة من الأخلاق والصّفات والآداب التي حثّ عليها الدّين الحنيف، ورتَّب عليها الأجر العظيم، منها السّعي والعمل والصّدق والأمانة والعطاء، ونبذ الكسل والتّراخي والكذب والغشّ والخداع واستغلال طيبة الآخرين والتّحايل، لما في ذلك من استقامةٍ للحياة الاجتماعيَّة واستقرارها وتوفير حياةٍ كريمة للفرد ولأهله...
وقد حثَّ الإسلام على الإحسان إلى الآخرين، يقول سماحة المرجع فضل الله(رض) في ذلك: "وللإحسان أهميّة كبرى من النّاحية الإنسانيّة، فهو الأسلوب العمليّ في تقديم الخير للآخرين، من موقع الحقّ الّذي يمتلكونه في ذاك الخير، أو من موقع العطاء الذَّاتي، فإنَّ الله يريد أن تنطلق العلاقات بين النَّاس على أساس حبِّ الخير وروح العطاء"[تفسير من وحي القرآن، ج13، ص 282]، إلا أنَّ ذلك لا يكون إلا لمن يستحقّ الإحسان، وليس لمن يستغلّون النَّاس لتحقيق أرباح ماديّة، فلا ينبغي أن نُخدَعَ بالكلمات الزّائفة، وما أكثرها اليوم! وخصوصاً بعد دخول الخداع واستثارة مشاعر المتبرّعين في وسائل التواصل الحديثة من واتسآب وغيره.
[مصدر التَّحقيق: جريدة الرّياض السعوديّة، بتصرّف وتعليق من موقع بيِّنات]