تحقيق
تعاني النساء في أفغانستان من الاضطهاد بدرجات أكثر قسوةً وبشاعةً من غيرهن من النساء في العالم. وما يجعل أوضاعهن استثنائيّة في درجة المأساوية، هو أن ما يرتكب ضدهن من عنف لا يقتصر على العائلة والذّكور في الأسرة، بل إنه يصدر عن ثقافة اجتماعية كاملة تقضي باستعمال الفتيات الصغيرات وفقاً لما تقتضيه الأعراف والعادات والتّقاليد الموروثة في البلاد، والتي تعتبر المرأة آلةً للزواج والإنجاب والعمل وطاعة الرجال، وأيضاً وسيلة لفضّ النزاعات وتسويتها، إذ تقدَّم الفتيات العذراوات من عائلة الظّالم إلى عائلة المظلوم كقربان أو فدية لحلّ النزاع، وهو ما يطلق عليه في العادات الأفغانيّة "البعاد".
يتّخذ العنف ضدّ المرأة أشكالاً متعددة، لكنه يكون أكثر حدّةً من حيث تبعاته واستمراريته إذ لم يتوقف عند الممارسات الفرديّة، وامتدّ إلى ممارسة جماعية تستمدّ منطلقها من الموروث الاجتماعي والأعراف الّتي تزعم الجماعة أنها حريصة على الالتزام بها على أنها جزء من ثقافتها وهويّتها.
هذا ما دأب عليه المجتمع الأفغاني الّذي يطبِّق طقوس "البعاد" إحلالاً للسّلام، وحلاً للنّزاعات بين العائلات والقبائل، لكي لا تتحوَّل الأخطاء الفرديّة والخلافات الشخصيَّة أسباباً للقتال بين عائلة الظّالم أو قبيلته، وعائلة المظلوم وقبيلته، غير أنَّ هذه الأهداف من القيام بالبعاد الّتي تبدو نبيلةً، لا يمكن أن تخفي أنها تعتمد وسيلةً أقلّ ما توصف به أنها لاإنسانيّة، لأنّ تسوية الخلاف تكون بارتكاب جريمة في حقّ فتاة بريئة تقدّمها عائلة الظالم إلى عائلة المظلوم، ليفعل بها أفرادها ما يشاؤون، تكفيراً عن ذنب قريبها مرتكب الخطأ الفعليّ.
تقول تقارير منظَّمة الأمم المتحدة التي تصدرها بعثتها في أفغانستان، إن تطبيق القانون الخاصّ بالعنف ضدّ المرأة يتعرّض لإعاقات كثيرة، بما فيها عدم الإبلاغ عن حوادث العنف، وعدم إجراء تحقيقاتٍ في معظم هذه الحوادث، وإنّ القانون الّذي صدر في أغسطس/آب العام 2009، والّذي يجرّم زواج الأطفال والزّواج القسريّ، وبيع النِّساء وشراءها تحت ذريعة الزّواج، والبعاد، والإجبار على التضحية بالنفس، وباقي أنواع العنف ضدّ المرأة، بما في ذلك الاغتصاب والضّرب، لا تنفذ مقتضياته ولا العقوبات المسلّطة على مرتكبي الجرائم.
أكبر العوائق التي تحول دون تطبيق القانون، تتمثل في الثقافة التي أصبحت راسخة في عقليّة الأفغانيّين رجالاً ونساءً، فالرجال يحرصون على التخلص من تبعات ما اقترفوه من أخطاء وجرائم على حساب الأخت أو البنت صغيرة السّن، رغم براءتها مما اقترفه، أما النساء، فهنّ يشاركن في هذه الجريمة في حقّ فتاة بريئة، بقبولهنّ لمواصلة تطبيق البعاد كقصاصٍ من الأنثى بذنب قريبها الذّكر.
كما أنهن يشاركن بصمتهن وسلبيّتهن، فلا يتجرّأن حتى على إبلاغ السلطات بهذا الجرم. هذه العوامل التي تقف وراء رفض المحافظين لتنفيذ القانون، جعلت حوادث العنف ضدّ المرأة لا تزال منتشرةً إلى حدّ كبير في المجتمع الأفغاني، بسبب القيود الثّقافيّة والمعايير الاجتماعيّة والمحرّمات والممارسات العرفيّة والتّمييز ضدّ المرأة. وعلينا أن لا ننسى الدّور الذي يلعبه انعدام الأمن وضعف سيادة القانون في عرقلة وصول المرأة إلى مؤسّسات العدالة الرسمية.
ورغم هذا الواقع، إلا أنّ هناك أفراداً من المجتمع المدني ومن المثقّفين، مازالوا يقاومون العادات الرجعية في المجتمع الأفغاني، ومن بينها البعاد.
عادل، معلّم أفغاني يبلغ من العمر 24 سنة، قرر أن يحتجّ ضدّ ممارسة البعاد، فخيَّم منذ أكثر من ثلاثة أسابيع أمام مقرّ البرلمان الأفغاني في كابول، تعبيراً عن احتجاجه على هذه الممارسة، وفي الأثناء، تلقّى تهديدات بالقتل من قبل والديه، لأنّه يحاول التعدّي على تقليد تمارسه العائلات الأفغانيّة، وخصوصاً المنتمية منها إلى قبائل الباشتون منذ عقود، بتقديم بناتها لحلّ خلافاتها.
ويقول عادل في حديثٍ له مع شبكة "أن بي سي نيوز الأميركية"، إنّ "الرجال يبيعون بناتهم وأخواتهم تحت عنوان الزّواج دون موافقتهنّ. الفتيات لا يعشن حياة كريمة مثل غيرهن من النساء المتزوّجات، بل كعبدات لدى جميع أفراد العائلة، ويعاملن مثل الحيوانات".
وتتحدّث بعض الفتيات أو النساء اللاتي قدِّمن كقرابين في البعاد، أنهن يتعرّضن للضرب والإهانة وسوء المعاملة، وقد تصل الأمور في بعض الحالات إلى القتل. إحدى النّساء ضحايا البعاد من ولاية باروان شرقي البلاد، تروي تجربتها لشبكة "أن بي سي" الإخباريّة، دون الإفصاح عن اسمها (حماية لها)، تقول إنها قدِّمت في سنّ الـ22 ربيعاً لرجل أربعيني متزوّج ولديه ثمانية أبناء، مؤكّدة أنها وجدت نفسها كورقة للمساومة لفضّ مشكلة أخيها الّذي أطلق النار على قريب زوجها الحاليّ على وجه الخطأ. وتضيف: "لن أسامح عائلتي على ما فعلوه بي، فعائلة الضحيّة لم تقبل اتفاق السلام مع عائلتي إلا بعد تسليمها فتاتين من عائلتنا في المقابل، وفي الأخير، تم إقناعها بقبول فتاة واحدة، وكنت أنا سيّئة الحظّ، وقد جاءني والدي باكياً ليقول إنّني إذا رفضت فإنّ أخي سوف يقتل".
وأكّدت المتحدثة أنها كانت في جحيم من المعاناة لو لم تنجب فتاتين أعادتا إليها طعم الحياة، قائلة: "لم أعش هنا.. كنت دائماً أعامَل من قبل زوجي وباقي أفراد العائلة على أنّني عدوّتهم، كثيراً ما تعرّضت للضّرب والتّوبيخ حتى من أبناء زوجي". وتضيف مكرّرةً تعبيرها عن غضبها لما ارتكبته عائلتها في حقّها: "لا يمكن أن أسامح عائلتي، فقد كانت لديَّ أحلامي وطموحاتي بمستقبل زاهر أكون فيه طبيبةً، لكن الآن ضاع مني كلّ شيء".
"البعاد" ممارسة لم تستثن الأطفال، وقصّة الفتاة شكيلا ذات الثّماني سنوات مثال حيّ، فقد هاجمت مجموعة من الرجال من قرية مجاورة منزل عائلتها، وأخذوها وقريبتها للقصاص من عمّها الذي هرب مع زوجة أحد رجال القرية. تقول شكيلا: "وضعونا في غرفة مظلمة، ثم عمدوا إلى ضربنا بالعصيّ، مردّدين: "عمّكما هرب بعيداً مع امرأتنا متعدّياً على شرفنا، وسوف تدفعان الثّمن"، ولكنّنا كنا محظوظتين وتمكّنّا من الفرار من الاحتجاز".
معاناة ضحايا "البعاد" جعلت عادل (المتحدّر من أكثر القبائل المحافظة والمتمسّكة بهذه العادة، وهي الباشتون)، يرفض هذه الممارسة، ويعلن احتجاجه ضدّها دون خوف، وخصوصاً أنّ اثنتين من أخواته، إحداهما طفلة في الثانية عشرة من عمرها، تمّ تقديمهما لتسوية نزاع، كما أنّ عائلته استلمت امرأتين في حوادث مشابهة. ما يعرفه عن قصص الضّحايا جعلت عادل يقدم على الاحتجاج متحدّياً عائلته والمنظومة الاجتماعية والعرفية التي ينتمي إليها، معبّراً عن موقفه من "البعاد" بقوله: "هذه الممارسة تتعارض مع الإسلام ومع الإنسانيّة".
وتعليق..
لقد دفع الشَّعب الأفغانيّ ويدفع ثمناً باهظاً من أمنه وكرامته، ولا يزال يعاني جرّاء عقليّات اجتماعيّة بالية ومتخلّفة تحاصره وتخنقه وتقضي على فرصة نهوضه من تحت ركام الجهل والعصبيات القاتلة، إذ لا يجوز عقلاً وشرعاً، ومن الناحية الأخلاقية والإنسانية، بقاء هذه الذهنيات مستفحلةً، وتتحكَّم بحاضر الناس ومستقبلهم ومصيرهم وكرامتهم ووجودهم وحياتهم ومصالحهم.. هذه الموروثات الاجتماعيّة البالية لا بدَّ من مواجهتها من قبل الواعين والمثقّفين والحكماء، والتحرّك بشكلٍ فاعلٍ وعاجلٍ للضَّغط لحفظ النّظام الاجتماعي من هذه العادات السيّئة الّتي تقضي على الحياة الاجتماعيّة والإنسانيّة.
ومن غير المقبول والمنطقيّ إذا ما حدثت مشاكل بين النّاس، أن يكون الحلّ عبر جعل البنت فديةً للمصالحة، وكأنّها مجرّد سلعة أو شيء مادّيّ لا قيمة له ولا كيان ولا كرامة ..
هذا وفي سياقٍ متّصل، فقد أجاب المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) عن سؤال حول عادة مبادلة البنات بين العشائر والأسر، وذلك تكريساً للمصالحة، فقال:
"نطلّ على عادة مبادلة النّساء بين العشائر المتّبعة في بعض البلدان كعربون مصالحةٍ إذا ما حدث بينها مشاكل، حيث تتبادل العشيرتان عدداً معيّناً من النّساء ليتزوّجهنّ من شاء من أفراد العشيرة الثانية، فهذا أمر غير جائز شرعاً، لأنّ البنت ليست قطعة أثاث، وليست مالاً لتدفع في مقام حلّ المشاكل الجنائيّة، إلا إذا ارتضت البنت ذلك انطلاقاً من قناعتها، وأرادت، باختيارها، الزواج ممن يتقدَّم إليها من العشيرة الثانية، فهذا أمر يرجع إليها. لكنّنا ـ عموماً ـ نرفض مثل هذا التّقليد، حتى لو انتهى إلى رضى البنت، لأنّ اعتبار المرأة بضاعةً أو سلعةً أو مالاً تُحلُّ به المشاكل، يمثّل امتهاناً لكرامتها.. فلماذا لا تعطي هذه العشيرة عدداً من شبانها بدلاً من النساء؟
ليس هذا إلا نتيجة استضعاف المرأة، وهو أمر يرفضه الإسلام، كما يرفض أيّ وضع يفرض على المرأة بالقوّة استضعافاً لها".[كتاب دنيا المرأة، ص 186].
[مصدر التّحقيق، جريدة العرب، لندن، بتصرّف وتعليق من موقع بيّنات].