برعاية العلامة السيّد علي فضل الله، نظَّم "اللّقاء التشاوري لملتقى الأديان
والثقافات"، و"شبكة الأمان للسّلم الأهلي"، لقاءً وطنيّاً جامعاً بعنوان "المشهد
اللّبناني بين تحصين المنجزات ومواجهة التحدّيات"، في قرية السّاحة التراثية - طريق
المطار، وذلك لمناسبة 44 عاماً على اندلاع الحرب الأهليّة اللّبنانيّة.
حضر اللقاء شخصيات وزارية وسياسية واجتماعية وثقافية وإعلامية وحوارية وعلماء دين
من الطوائف الإسلامية والمسيحية.
بعد كلمة ترحيب من الأمين العام لملتقى الأديان والثقافات الشيخ حسين شحادة، ألقى
العلامة السيّد علي فضل الله كلمةً جاء فيها: "إنّ وقائع السّنين الماضية، رغم ما
حملته من إخفاقاتٍ تغلب على ما تحقّق من نجاحاتٍ في ملفّ الحرب، إلا أنّ إيماننا
بوعي اللّبنانيّين لضرورة نبذ لغة الحرب وأسبابها وتداعياتها التي حفرت بآلامها
عميقاً في الذاكرة والوعي والضّمير، يجعلنا نرجّح عنصر الأمل في إمكانية أن نستعيد
لهذا الوطن وحدته الراسخة ودولته القويّة العادلة، من دون أن نغفل للحظةٍ ضرورة
العمل الحثيث لمواجهة كلّ التحديات التي تعترض هذا الهدف، وتوفير الشروط التي تكفل
تحقيقه".
وأضاف سماحته: "إنّنا، في هذه المناسبة، وحيث لا يسعنا إلا أن نقدِّر للّبنانيّين،
بجميع فئاتهم، إيمانهم بحفظ هذا الوطن، رغم كلِّ ما يعيشونه من معاناةٍ على جميع
صعد الحياة، نريد منهم الحفاظ على ما قدَّموه من تضحياتٍ وفّرت الحماية لبلدهم،
وساهمت في تحريره من الاحتلال الصّهيوني، وفي مواجهة الإرهاب، والاستمرار في هذا
التعالي والرفض لكلّ أبواق الفتن، ولكلّ ألوان التحريض الداخلية والخارجية التي
أرادت العودة بهم إلى أجواء الحرب المشؤومة، فأبقوا بلادهم بعيدةً عن نيران الحروب
المشتعلة في الجوار، على الرغم من ارتفاع حدّة السجال الداخلي حول العديد من
القضايا، وتوافر الظروف والمعطيات والإغراءات والضغوط التي كانت تدفع نحو الانخراط
فيها... ومن هنا، لا بدّ من التنويه بالدّور الأساس الذي قام به الجيش والقوى
الأمنية في حفظ الاستقرار الداخلي، حتى بدا للبنانيين في بعض الأحيان، أنه لم يبق
من مؤسسات الدولة الناجحة في تأدية وظيفتها إلا المؤسّسة العسكرية والأمنية".
وأكَّد أنّ شروط بناء الدولة وازدهارها لا يقتصر على النجاح في تحقيق الاستقرار
الأمني، على أهميته الكبيرة، بل بتحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهو
ما يتطلّب من القيادات السياسية إعادة النظر في كلّ ما مورس من سياساتٍ خاطئةٍ
علمياً ومدانةٍ أخلاقياً، أدّت إلى مخاطر كبيرةٍ بلغت حدّاً ينذر بالانهيار
الاقتصادي والمالي وانفجار الأزمات الاجتماعية، فضلاً عن انقساماتٍ سياسيةٍ حادّةٍ
حول أكثر من ملفّ، وقد تتمحور حول مصالح شخصيةٍ وفئويةٍ، الأمر الذي يتيح لنا القول
إنّنا أمام تحدياتٍ كبرى، إن لم نواجهها بنزاهةٍ وصدقٍ وشجاعةٍ وحكمةٍ، فإنّ نتائج
وخيمةً تنتظر اللبنانيين قد تفوق بمخاطرها الحرب المشؤومة التي نستعيد اليوم ذكراها،
وأهمّها مصير البلد نفسه، وخصوصاً أنّنا في زمنٍ صعبٍ ودقيقٍ يحاول فيه الأقوياء في
العالم أن يرسموا خريطة المنطقة في ضوء الحروب المستمرة والصراعات الحادة التي
تشهدها الساحتان الإقليمية والدولية.
ورأى سماحته أنّ التحدّي الأبرز الّذي يشكّل النجاحُ في مواجهته نقلةً نوعيةً في
تعزيز السِّلم الأهلي، هو قدرتنا على مراجعة الذّات التي صنعت الحرب سابقاً، وتكاد
تدفعنا إلى الهاوية راهناً، وذلك بالتخلّص من الذهنيّة الفئويّة والعصبويّة التي
تهيمن على تفكير الكثير من القوى السياسيّة وتوجّهاتها، وتدفعها إلى تجاوز الحدود
المشروعة قانونياً، من دون أن تعبأ لتعزيز مواقعها بإثارة الهواجس بين اللّبنانيّين
بعضهم تجاه بعضٍ، ما يجعلنا في كثيرٍ من الأحيان نعيش تحت وطأة حربٍ أهليّةٍ باردةٍ،
تأخذ عناوين الصلاحيات والحقوق، أو عناوين الخوف والغبن، وهي حربٌ نخشى مما قد تؤول
إليه إذا لم نعد النّظر بكلّ تفكيرٍ فئويّ أو أية مواقف تثير حساسيّات الآخر.
وتابع: "إنّنا نرى أن لا مستقبل لهذا الوطن إذا استمرّت هذه الذهنيّة الفئويّة؛
ذهنيّة إثارة الغرائز والمشاعر للاستقطاب ولتعزيز الموقع، فالعيش المشترك لا يبنى
إلا بذهنيّةٍ منفتحةٍ على تطلّعات اللّبنانيّين جميعاً ومصالحهم. إننا نريد
الذهنيّة التي تحمل الخطاب الوطني، خطاب المشروع والبرنامج، خطاب الإنجازات، والذي
على أساسه تتمّ محاسبة القوى السياسية وقياداتها".
وقال: "نجدّد الدعوة إلى ضرورة الالتزام الدقيق بدستور الطائف الذي أردناه جميعاً
عنواناً لطيّ صفحة الحرب وإعادة بناء الدولة، لا الدّولة التي تكرّس الطائفية
السياسية التي ستبقى مسؤولةً عن كثيرٍ من مآسي اللّبنانيين، بل أن نعمل على تجاوزها
إلى دولة الإنسان؛ دولة المواطنة والقانون والعدالة التي نراها تطوي صفحة الحرب
نهائيّاً، والتي لا نرى بديلاً منها يحظى بموافقة اللّبنانيّين وتحقيق المصالحة
الوطنيّة الشّاملة".
وأشار سماحته إلى أنّ التحدّي الأخطر على السِّلم الأهلي هو التحدّي الاقتصاديّ
والماليّ الّذي يفوق حاليّاً بخطورته التحدّي الأمني أو السياسي، فإننا نرى أنّ
الأوان قد آن كي نتخلّص من كلّ ارتكاباتٍ في هذا المجال؛ من أخطاء في رسم السياسات،
أو هدرٍ بسبب عدم القيام بالمسؤوليَّة، أو خطايا بفعل السّرقة والرّشاوى
والسَّمسرات في التّلزيمات والتّوظيفات وتعيين المستشارين، وغير ذلك من فضائح
تحدَّث عنها المسؤولون أنفسهم، وتضجّ بها وسائل الإعلام والتّواصل.
وأضاف: "هذا الوطن العزيز بشعبه وتاريخه وحضارته، لا يليق أن يقرن في نظر العالم
بصفة الفساد أو النفايات. ونحن هنا، وباسم كلّ المواطنين، وبعد أن بلغ السَّيل
الزبى، نريد أن نؤكّد أن لا وقف للانحدار الذي نشهده على جميع المستويات، إلا بعد
أن تحسم كلّ القيادات السياسيّة أمرها في عدم تغطية أيّة ارتكاباتٍ، وأن تبذل كلّ
ما في وسعها لتدارك ما فات من قيامها بمسؤوليّاتها تجاه شعبها، وبأن تلتزم بما وعدت
به في اعتماد النزاهة والشفافيّة في إدارة موارد البلاد، وإعادة تفعيل كلّ مؤسّسات
الدولة الرقابيّة، والتمسّك بقاعدة الحاجة والكفاءة في التّوظيف، وتعزيز استقلالية
السلطة القضائية وتطهيرها من كلّ شائبةٍ، وقبل كلّ شيءٍ، التخفيف من ثقل الأزمات
الاجتماعيّة والمعيشيّة، فلا نحمِّل الناس ضريبة البناء والإصلاح، بعدما دفعوا
غالياً ضريبة ما حدث من هدمٍ وارتكاباتٍ".
وختم قائلاً: "إننا جميعاً، كمواطنين وجمعيّاتٍ وهيئاتٍ ومؤسّساتٍ مدنيةٍ وأهليةٍ
ودينيةٍ وشخصيّاتٍ مؤثرةٍ، مسؤولون عن أداء دورنا الفاعل، واستخدام كلّ ما نمتلكه
من وسائل ومنابر ومواقع وحضورٍ، ومن عوامل تستنهض الوضع الشّعبي، وذلك لتصويب
المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. تلك هي المسؤوليّة الأهمّ التي تقع على
عاتقنا، والتي ينبغي أن نمارسها ضمن إمكاناتنا المتاحة، لإنقاذ هذا الوطن وإنسانه
الذي لا يستحقّ كلّ هذه العذابات والمآسي".
وتخلّل اللقاء كلمات لعدد من الشخصيّات، ركَّزت على ضرورة الاستفادة من تجارب
الماضي، والعمل على مواجهة كلّ التحدّيات التي تهدِّد السِّلم الأهلي.
وفي الختام، صدر عن اللّقاء بيانٌ ختاميّ.