في الخطوط العامَّة في مجال التّربية، على الأهل أنْ لا يعتبروا الولد جزءاً من
أملاكهم، فالإنسان الصَّالح هو بالنّسبة إلى المجتمع عاملٌ صالح وقائد صالح..
التراث هو مجموعة ما تركه التاريخ الفكري، أو التاريخ العملي (العادات والتقاليد)
للنّاس الذين سبقونا..
والإسلام لا ينظر إلى التراث بعنوانه التراثي نظرةً مقدَّسة، فقد كان الكافرون
والمشركون يقفون في مواجهة الإسلام انطلاقاً من تقديس التراث:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزخرف: 23] وكان الجواب: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم
بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ}[الزخرف: 24]، وآية
أخرى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً
وَلاَ يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170].
إذاً، التراث بمعناه النفسيّ العاطفي ليس مقدَّساً، التراث هو تَرِكَة، تماماً، كما
ترِثُ أثاثَ البيت، فإنَّه لا يمكن أن تقدِّس هذا الأثاث، بل لك أن تغيّره،
وتبدِّله على طِبق "الدّيكور" الذي يتناسب مع طبيعة وعادات العصر، وعلى هذا، يمكن
أن تحتفظ به كمتحف، أو كذكرى.. هذا شيءٌ يذكّرك بالماضي.
أمّا قضيَّة الفكر أو العادات أو التقاليد، فإنَّ التراث لا بدَّ له من دراسة عميقة
تنطلق من المعطيات الفكريّة التي نؤمن بها، قد يكون في التراث شيءٌ نؤمن به إلى
الآن، من خلال معطيات الإيمان، كما يؤمن الكثيرون بالأديان الّتي هي ليست تراثاً
بالمعنى العميق، وإذا كنَّا نؤمن بها، فباعتبار أنّها وحي الله، لا لأنَّ آباءَنا
التزموا بالإيمان، بل لأنَّنا اقتنعنا بهذا الإيمان كما اقتنعوا.
ولذلك، لا بدَّ لك، حتّى في الدين، أن تنطلق من خلال الاجتهاد في فكرك، فمسألة ما
في التراث من مضمون، إذا كانت تنطلق من خلال قناعتي بالمضمون، عند ذلك يكون التراث،
تماماً كما فيما يُقدَّم إليَّ الآن، أن أنطلق من قناعتي، لا من خلال الصفة
التراثيَّة التي نقدِّسها، أمَّا إذا كان التراث يملك مضموناً خرافياً، أو مضموناً
متخلِّفاً، ولا أجد فيه شيئاً من الحقيقة، فمن الطبيعيّ أن أرفض هذا التراث، ولا
يجوز أن أقتنع به. لذلك، نحن لا نقدِّس التراثَ بالتراث، التراث شيءٌ جاءنا من
الماضي، ونحن لا نريد للماضي أن يُلقي بثقله على المستقبل في إطار ماضويّته.
ولعلَّ القرآن اختصر كلَّ قصَّة التَّاريخ، وكلَّ علاقتنا بالتَّاريخ، وذلك من هذه
الآية الموحية: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134]، أولئك عاشوا حياتهم، وصنعوا تاريخهم من خلال
ما اكتسبوه من فكر، أو من حركة الواقع، وهم يتحمّلون مسؤوليَّته، وأنتم لا تتحمّلون
مسؤوليَّته، إنَّ لكم كسبكم، فانظروا كيف يكون الكَسْب؟ كسبكم الفكري والعملي،
وكسبكم في بناء الحياة، وفي التقاليد والعادات، وما إلى هنالك.
* من كتاب "الإنسان والحياة".