يتحدَّث الإمام الحسين (ع) عن ظاهرة موجودة عند النَّاس، بحيث يسيء
المرء وبعدها يعتذر، فالإمام (ع) يقول في ما يروى عنه: "إيَّاك وما تعتذر منه
- أي لا تقدم على الأشياء التي تجعلك تعتذر إلى النَّاس الذين أسأت إليهم، وفِّر
على نفسك الاعتذار، لأنَّ الاعتذار ذلّ - فإنَّ المؤمنَ لا يسيءُ ولا يعتذر،
والمنافقُ كلَّ يومٍ يسيء ويعتذر" . وهذه مسألة تربويَّة مهمَّة، تجعل الإنسان
يدرس كلَّ ما يريد أن يقوله أو أن يعمله؛ في بيته، في مجتمعه، وفي كلِّ مجالات عمله،
فإذا شعر بأنه سوف يقف موقف الاعتذار، فعليه أن يجنِّب نفسه ذلك.
ثم يبيّن الإمام (ع) كيف يتصرَّف العاقل مع الآخرين، بقوله: "العاقل لا يحدِّث
من يخاف تكذيبه - أي لا تحدِّث من يغلب عليه ظنّك أنّه سوف يكذِّبك، لأنَّه لا
فائدة من ذلك، باعتبار أنَّه لا يصدِّقك حتى لو كان ما تتحدَّث به هو الحقّ - ولا
يسأل من يخاف منعه - أي لا تسأل من تشعر بأنَّه سوف يمنعك ولا يقضي لك حاجتك -
ولا يثق بمن يُخاف غدره" ، فمن كان خُلُقُه الغدر، أو يغلب على الظنّ أنَّه
يغدر بمن يثق به، فلتكن علاقتك به علاقة الحذر، فلا تعط الثقة كاملةً لأيِّ شخص،
مهما كانت الظروف.
وفي هذا الخصوص، سمعنا من أئمَّتنا (ع) في ما عرفوه من رسول الله (ص)، أنَّ الإنسان
لا يعطي الثَّقة بلا حساب، وقد تحدَّثنا في هذا المجال كثيراً في ما ورد عن أمير
المؤمنين (ع): "لا تثق بأخيك كلَّ الثقة - أي الثقة العمياء به (ما عدا
المعصوم) - فإنَّ صرعة الاسترسال لا تستقال" ...
وفي الحديث، أنَّه جاء الإمامَ الحسينَ (ع) شخصٌ من الَّذين شغلهم الجدل حبَّاً
بالجدل، وليس لطلب الحقيقة أو لأجل حلّ مشكلة، فهو يناقش ويجادل بهدف الغلبة، فقال
للحسين بن عليّ (ع): اجلس حتى نتناظر في الدّين. قال (ع): "يا هذا، أنا بصير بديني،
مكشوف عليّ هداي، فإن كنت جاهلاً بدينك فاذهب فاطلبه، ما لي وللمماراة؟! إنَّ
الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر النَّاس في الدين كيلا يظنوا بك العجز
والجهل".
ثم ينطلق الإمام (ع) من حديثه مع هذا الرَّجل إلى بيان القواعد في الجدل: "ثمّ
المراء - الجدل - لا يخلو من أربعة؛ إمَّا أن تتمارى أنت وصاحبك فيما تعلمان، فقد
تركتما بذلك النَّصيحة، وطلبتما الفضيحة، وأضعتما ذلك العلم، أو تجهلانه، فأظهرتما
جهلاً وخاصمتما جهلاً، وإمَّا تعلمه أنت - والآخر جاهله - فظلمت صاحبك بطلبه عثراته،
أو يعلمه صاحبك - وأنت تجهله - فتركت حرمته ولم تنـزله منـزلته، وهذا كلّه محال.
فمن أنصف وقبل الحقّ وترك المماراة، فقد أوثق إيمانه، وأحسن صحبة دينه، وصان عقله"
. هذا هو الخطّ الحسيني الإسلامي في قصَّة الجدل.
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 13 محرَّم 1425هـ الموافق: ٥ آذار ٢٠٠٤ م.
***
بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 75، ص 120.
أعلام الهداية، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، ج 5، ص 214.
الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 672.
بحار الأنوار، ج 2، ص 135.