يا سيّدنا، قد أحسنت إليهم فأساؤوا إليك. كيف لا، وهم أكلوا لحمك،
وحاولوا هدمك وقد نهوا عنه، {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم
بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}[الحجرات: 12]،
{وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ
فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ}[الأعراف: 85]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6].
حكموا عليك حكماً جائراً، وقد أمروا بالعدل حتى مع الشنآن:
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ}[المائدة: 8].
هل نسوا أنَّها ستكتب عليهم شهادة {سَتُكْتَبُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف: 19]؟
وهم من هم، هم من معرفة هذه الأمور وغيرها، فكم علَّموه للنَّاس، فهل نسوا أنفسهم؟
هل التقوا بك شخصياً وناقشوك بأنفسهم، لا أنّهم سمعوا ثم حكموا عليك، ألا يعرفون
القضاء؟ وقد علَّموه طلابهم، وهل يصحّ الحكم هكذا؟
هل نسوا: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن
تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ
سَمِيعاً بَصِيراً}[النساء: 58]، أم قرأوا وفهموا خطأً، أما ماذا؟
آه آه! وا حسرتاه على من وصلوا إلى ما وصلوا! وعندما حكموا كأنهم ما وصلوا ولا
حصَّلوا.. منهم من كشفت له الحقيقة بعد فوات الأوان وعجزه عن الرجوع، ليقول:
{رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون: 99]، ومنهم ما
زال في الحياة، وعليه أن يتمهَّل ولا يتعجَّل، وإن تعجَّل فعليه الرجوع والتَّوبة
وكفّارة ما مضى ببيان الحقيقة الَّتي عميت عليه وأغشى بصره ما أغشى:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشّمس: 7]، {بَلِ
الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة: 14].
كتبت الشَّهادة، وعلى الشَّاهد بغير حقّ التراجع اليوم قبل العجز عنه غداً، وإني
محبّ ومشفق {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى
النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}[غافر: 41].
وأنا الَّذي عايشَ السيّد اثنين واربعين حولاً، وسمع كلامه، وناقش واستفسر، وعلم
وشهد، وإن شهادتي أنَّه كان مسكوناً بحبّ النبيّ وأهل بيته الأطهار، مكافحاً
منافحاً لبيان الحقّ، معتقداً أنّ عليّاً هو الخليفة وهو الوصيّ وهو المعصوم قبل
التَّكليف، بل من الولادة، وهو الإمام بنصّ الكتاب وبيان الرَّسول في الغدير وغيره
في مواطن كثيرة، وأنا الآن في العقد التَّاسع من عمري، على التَّوقيت الذي سماه
الله {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا
عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ
أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التَّوبة: 36] ، {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى
وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ}[البقرة: 189].
وأمَّا أمّه سيِّدة نساء العالمين، فلا علم عندي أنَّ أحداً تحدَّث عنها في المحافل
أكثر مما تحدَّث هو، أو كتب أحسن مما كتب، وهل إنَّ روايةً توقَّف عندها كما توقَّف
الشّيخ المفيد والشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيّد عبد الحسين شرف الدين، بل
وشكَّك الخوئي (رحمه الله) وغيره في سندها، وغيرهم كثير، إلا أنهم لم يلاقوا ما
لاقى.. أهي رمانة أم قلوب ملآنة؟ ماذا يقال عن مثل هذا يا أهل الحجى؟
{هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ
فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ}[آل عمران: 66].
هذه كلمات محبّ للجميع، وخائف على الجميع، ويخشى أن ينقلب عليه الجميع، لا يهمّ من
دخل العقد التَّاسع وليس عنده شيء من المطامع، وهو الَّذي هضم حقَّه الذي يستحقّه.
هذا الذي تحدَّثت عنه هو جانب مظلم – مما حدث – {وَإِن
يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم
بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}[فاطر: 25].
وأنت على خطّ هؤلاء وخطاهم، فلك فيهم أسوة، {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب: 21].
أمَّا إن قلبنا الصَّفحة وأخذنا الجانب الآخر، فالَّذين اهتدوا، والَّذين استضاؤوا
بما حاضرت ونظّرْتَ وخطبْتَ وكتبْتَ وعلَّمْتَ وقدَّمت، وأيتاماً احتضنْتَ، فكنت
لهم أخاً وأبا ًعطوفاً، ومعاهد شرعيَّة أنشأْتَ ودعمْتَ وساهمْتَ قبل بيتك وبعد
بيتك وأفضل من بيتك بيوت الأيتام الَّتي احتضنْتَ بها الأيتام، وحفظتهم من الضّياع،
ودور علم أسَّسْتَ ونشرْتَ لتخرِّج أجيالاً مثقّفة وفاعلة في مجتمعاتها، ومكاتب
للمحتاجين في كلِّ لبنان وفي العالم. استفاد من فكرك النيِّر وعقلك العبقريّ وقلبك
الكبير عشراتُ الملايين من النَّاس، وها قد استمرَّت بعدك، وسوف تستمرّ، لتلقى ما
قدَّمْتَ وما أخَّرْتَ، وليلقى أولئك ما قدَّموا وأخَّروا.
إني أتألم، فلماذا صار الَّذي صار وحدث ما حدث؟ إلا أنّها دنيانا.. فهل سلم
أنبياؤنا وأئمَّة الهدى من قبل لنسلم؟ هل أُعطوا ما يستحقّون لنعطَى ما نستحقّ؟
ألسنا على خطِّهم وهو الصَّراط المستقيم، وخطاهم في الدَّعوى إلى الله ربِّ
العالمين؟ بلى، ألم نفعل بعض ما فعلوا، وسامحنا من أساؤوا إلينا، كما دعوا (ع)
بالخير إلى من أساء إليهم، وقد استثنوا (ع) البعض من المسامحة واستثنينا البعض كما
فعلوا؟!...
والحمد لله أوَّلاً وآخراً، والسَّلام على سيِّدنا ومرجعنا وأستاذنا السيِّد محمَّد
حسين فضل الله في الدّنيا والآخرة.
أمَّا أولئك من مراجع دين وغيرهم، فلهم معه موقف.
مولود: 15 /8/ 1362 هـ
واليوم: 6/12/1444هـ
أحمد عبد الحسن كوراني