كانَ السيِّدُ فضلُ الله (رض) منذُ انطلاقتِهِ عالمـًا قويَّ الشَّخصيَّةِ شجاعًا،
تصدَّى منذُ بدايةِ عملِهِ بالدَّعوةِ للواقعِ المليءِ بالتّناقضاتِ والمغالطاتِ
الفكريّةِ الدّينيّةِ وغيرِ الدّينيّةِ، والتّفكيرِ المذهبيِّ والطّائفيِّ، مدركًا
مقدارَ الصّعوباتِ والتحدّياتِ والعقباتِ الكثيرةِ، غيرَ عابئٍ بالأخطارِ مهما بلغَ
مستواها، وكمْ من خطرٍ واجهَهُ بروحٍ ثوريّةٍ مقدامةٍ وتابعَ الطّريقَ! هدرَ صوتُهُ
على المنابرِ في وجهِ صانعي الفتنِ والحروبِ، وقارعَ الاستكبارَ العالميَّ
والاحتلالَ الصهيونيَّ في عزِّ قوّتِهما وجبروتِهما، وكانَ يعلمُ كلفةَ ذلكَ عليْه،
ولم يخفْ غدرَهم وغدرَ أزلامِهم في الدَّاخلِ، ولم يخشَ في اللهِ لومةَ لائمٍ.
هو ابنُ الرِّسالةِ الّذي أخذَ على عاتقِهِ نشرَ الفكرِ المحمَّديِّ الأصيلِ،
بأفكارِهِ النَّاصعةِ المضيئةِ، وسعَى بكلِّ جهدِهِ لتنقيةِ التّراثِ منَ الفكرِ
الهجينِ والدَّخيلِ، متحمِّلًا نصالَ المتعصِّبينَ، وأذى الحاقدينَ، وشراسةَ
الموتورينَ، وبغضَ المستفيدينَ منَ استمرارِ مسيرةِ الجهلِ والتخلّفِ، وسهامَ
الإقصائيّينَ الّذينَ لا يرغبونَ بأيِّ حوارٍ، ولا يتحمَّلونَ أيَّ رأيٍ يخالفُ
رأيَهم.
لقد بنى سماحتُهُ عبرَ سني عمرِهِ الشَّريفِ الّذي قضاه داعيةً مناضلًا مواجِهًا
موجِّهًا، قواعدَ التَّفكيرِ السَّليمِ، وأسَّسَ لجيلٍ مفكِّرٍ مثقَّفٍ مقاومٍ، ليس
فقطْ للاحتلالِ العسكريِّ، وإنّما لكلِّ أنواعِ الجهلِ والخنوعِ الفكريِّ
والتَّقديسِ للموروثِ لمجرَّدِ أنّهُ موروثٌ، ودعا إلى أن يكونَ العلمُ منطلقَ
التَّفكيرِ في كلِّ شيءٍ، وهو الَّذي لطالما ردَّد أنَّ الإسلامَ دينُ العقلِ
والتَّفكيرِ، وأنَّهُ الدِّينُ الّذي ينسجمُ معَ العلمِ ولا يخالفُهُ أبدًا.
ولأجلِ مسيرتِهِ الّتي احترمَتْ إنسانيَّةَ الإنسانِ، وجعلَتْ منَ الإنسانيّةِ
عنوانًا ومنطلقًا لدعوتِهِ، ولأجلِ دعوتِهِ المستمرَّةِ إلى الوحدةِ والتَّقاربِ
والالتقاءِ على كلمةِ الخيرِ، كانَ سماحتُهُ عنوانًا لاحترامِ المسلمينَ
والمسيحيِّينَ، وموضعَ تقديرٍ عندَ الكثيرِ منَ المثقَّفينَ في لبنانَ والعالمِ،
رغمَ الاختلافِ في الأفكارِ والتوجُّهاتِ الدِّينيَّةِ والمنطلقاتِ السياسيَّةِ،
وهذا ما جعلَ دارتَهُ محجَّةَ الإعلاميِّينَ والسياسيِّينَ والمفكِّرينَ مِنْ كلِّ
أنحاءِ العالمِ، وجعلَهُ الشَّخصيَّةَ المؤثّرةَ الأبرزَ على السَّاحتينِ
اللّبنانيَّةِ والإسلاميَّةِ.
لقدْ رحلَ السيِّدُ بصحيفةٍ ناصعةٍ مليئةٍ بالعملِ في سبيلِ اللهِ والأمَّةِ، ولم
يوفِّرْ لحظةً في خدمةِ المجتمعِ في سبيلِ نهضتِهِ ورقيِّهِ، ولم يبخلْ على قضايا
المسلمينَ، ولا سيَّما القضيَّةَ المركزيّةَ فلسطينَ، بموقفٍ أو دعمٍ أو عملٍ، عملَ
حتَّى الرَّمقِ الأخيرِ مِنْ عمرِهِ الشَّريفِ. وحقُّه عليْنا أن لا نضيِّعَ
البوصلةَ، وأنْ نستمرَّ على ما ربَّانا عليْهِ؛ أن نكونَ نعمَ المنتمينَ إلى خطِّ
أهلِ البيتِ (ع)، بعلمِنا وأخلاقِنا ورساليَّتِنا، وأنْ نكونَ زينًا لهم لا شينًا
عليهم، أنْ نتعاونَ في المجتمعِ ويساعدَ بعضُنا بعضًا؛ نساعدَ الأيتامَ والفقراءَ
والمعوزينَ وكلَّ مَنْ يحتاجُ إلينا، ولا سيَّما في هذه الظّروفِ القاسيةِ الّتي
يعيشُها بلدُنا، أن لا نهادنَ محتلًّا ولا مستكبرًا ولا ظالمـًا ولا فاسدًا، ولا
كلَّ مَنْ يريدُ أنْ يضربَ قيمَنا وقيمَ المجتمعِ بأفكارٍ شاذَّةٍ غريبةٍ، أنْ
نتصدَّى لكلِّ المتسلِّلين إلى مجتمعاتِنا وأسرِنا سعيًا لخرابِها، وأنْ نكونَ
الدَّاعينَ إلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، ونبتعدَ عن أساليبِ السُّبابِ
والشَّتائمِ والانفعالِ والعصبيَّاتِ الّتي تهدِّمُ ولا تبني شيئًا سوى الضَّغينةِ
والأحقادِ.
نحنُ، أبناءَ السيِّدِ فضل الله، الّذينَ تربَّيْنا على يديْهِ، ونهلْنا مِنْ
معينِهِ، وانتهجْنا أفكارَهُ وخطَّهُ عَنْ حبٍّ واقتناعٍ ورضى والتزامٍ، نعلنُها
اليومَ بعدَ ثلاثةَ عشرَ عامًا على رحيلِهِ، وكما أكَّدْناها مِنْ قبلُ ونؤكِّدُها
كلَّ يومٍ، أنّنا مدينونَ لهذا السيِّدِ بالكثيرِ الكثيرِ، بكلِّ ما لديْنا مِنْ
وعيٍ دينيٍّ وفكريٍّ وثقافيٍّ واجتماعيٍّ، وقيمٍ أخلاقيَّةٍ وإنسانيَّةٍ، ونفتخرُ
بأنَّنا مِنْ أتباعِ هذا النَّهجِ والخطِّ، وسنبقى، بإذنِ اللهِ، لأنَّنا نرى فيما
خطَّهُ السيِّدُ (رض) نهجَ الأنبياءِ والأئمَّةِ (ع)، وخطَّ الانفتاحِ والتَّلاقي،
ومسارَ العزَّةِ والكرامةِ.
رحمَكَ اللهُ أيُّها السيِّدُ الحبيبُ، وجازاكَ خيرَ الجزاءِ علَى كلِّ ما
قدَّمْتَهُ لأمَّتِكَ، وحشرَكَ معَ الأنبياءِ والأئمَّةِ الّذينَ لطالما كنْتَ
صوتًا لهم ولنهجِهم، ولك منَّا كلُّ الحبِّ وكلُّ الوفاءِ ما حييْنا.