في النصف من شوّال، كانت ذكرى معركة من أبرز معارك الإسلام، الَّتي خاضها المسلمون من مواقع الدّفاع ضدّ المشركين بقيادة رسول الله (ص)، وهي معركة "أُحُد".
هذه المعركة الثانية، الَّتي واجَهَ فيها المسلمون التحدّي بشكلٍ مباشر مِن قِبَل قوى الشرّ؛ فقد خطَّط المشركون بعد معركة بدر الَّتي هُزِموا فيها شرّ هزيمة، خطَّطوا للهجوم على المدينة من أجل أن يحاصروها ويسقطوها ويسقطوا الإسلام من خلالها ويقتلوا رسول الله (ص) والصّفوة الطيّبة من أصحابه وأهل بيته.
واستعدّت قريش لذلك استعداداً كبيراً، فجمعت من حلفائها ومن جماعتها ما يقرب من أربعة آلاف مقاتل، وقامت بحملة كبيرة لجمع المال، لتوفير المعدَّات القتالية بالمستوى الذي يستطيعون من خلاله تحريك قوّة ساحقة لا ترجع إلَّا بهزيمة المسلمين وهزيمة الإسلام. واقتربوا من المدينة، وعَرَفَ النبيّ (ص) بذلك، وعبَّأ المسلمين من أجل أن يواجهوهم من موقعٍ واحد من خارج المدينة.
وهكذا تحرَّك رسول الله (ص) بأصحابه، ويقال إنّهم لم يبلغوا الألف، حتّى وصل إلى جبل "أُحُد" الَّذي يعرفه كلّ مَن حجَّ الدِّيار المقدَّسة وشاهده عياناً. وكانت هناك ثغرة في الجبل، يمكن أن ينفذ منها الرُّماة، ويمكن أن تنفذ منها خيل قريش لتلتفّ على جيش رسول الله (ص)، الأمر الذي دفع رسول الله (ص) لينظّم الجيش على أساس أن يكون "أُحُد" من ورائهم ليحتموا به، وجعل جماعة من الرُّماة على الثغرة التي كان من الممكن أن ينفذ إليها المشركون، وقال لهؤلاء الرُّماة اثبتوا في أماكنكم، إذا رأيتمونا انتصرنا فاثبتوا، وإذا رأيتمونا انهزمنا فاثبتوا، لا تتحرَّكوا من مواقعكم، لأنَّ نقطة الضّعف في موقعنا الدفاعي هي في هذا الموقع. وهكذا جعل عليهم قائداً وأمرهم أن يطيعوه.
وهنا حدَّثنا الله كيف كان المسلمون يعيشون بعض نقاط الضّعف في إيمانهم في البداية، إذ عندما دعا رسول الله (ص) إلى القتال، كانت هناك جماعة تريد أن تخرج معه، وكانت هناك جماعة لا تريد أن تخرج معه، وتغلَّب الرأي الأوَّل بشكلٍ كامل، وهذا هو قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ...} همُّوا في الفشل، فشلهم في الإيمان، لأنَّ نجاح الإيمان بالالتزام بطاعة الله ورسوله وأُولي الأمر الَّذين ارتضاهم الله ورسوله. أمّا الفشل في الإيمان، فهو أن يبتعد الإنسان عن الالتزام بالخطّ، على أساس نقاط الضّعف الموجودة في شخصيّته {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران: 121 ـــ 122].
ودارت المعركة، وتحرَّك المسلمون فيها بروحيَّة "بدر"، واستطاعوا أن يوقعوا بالمشركين شرّ هزيمة، بحيث تفرَّق المشركون، ولم تكن لهم أيّ جامعة تجمعهم. وبدأ المسلمون يجمعون غنائم المعركة كما كانت العادة، حيث يجمعون ما سقط في المعركة من سلاح وعتاد وخيول وما إلى ذلك. وكان أولئك الَّذين في الثغرة يشرفون على المعركة، وقال بعضهم لبعض إنَّ المعركة قد انتهت، وإنّ إخواننا يجمعون الغنائم، فلم يعد هناك خطر، وهذه قريش قد انهزمت، فما بقاؤها هنا؟! اتركونا لننزل لنأخذ حصَّتنا من الغنائم.
وكان رسول الله (ص) قد قال لهم إنَّ حصَّتكم محفوظة، وقال قائدهم لقد أمرنا رسول الله بأمر ولا بدَّ أن ننفّذه، لأنَّ رسول الله قال لنا: اثبتوا في أماكنكم، لأنَّ غدر المشركين يأتي من جانبه، فإن انتصرنا اثبتوا ليكون النَّصر، وإذا انهزمنا اثبتوا ليكون لنا موقع قوَّة في المعركة، نستطيع من خلاله أن نحوِّل الهزيمة إلى نصر، لن أترك مكاني. وانضمَّ إليه جماعة، وتفرَّق عنه الذين كانوا معه، وهم الأكثرية.
وهنا، حانَت من خالد بن الوليد التفاتة، وكان آنذاك مع المشركين، ورأى أنّ الثغرة أصبحت ضعيفة، فليس فيها إلَّا عدد قليل، وهكذا اندفع مَن بقي معه من جيش المشركين، وقاتَلَ مَن تبقّى من المسلمين الذين كانوا في الثغرة، حتى قُتِلوا أو جُرِحوا. واندفع من خلال تلك الثغرة في عمليَّة التفاف على المسلمين، وهم مشغولون في تصفية نتائج المعركة، وهنا دارت الدائرة على المسلمين، وبدأت الهزيمة في مواقع المسلمين من جديد، حتّى إِنَّ رسول الله (ص) وسلَّم قد شجَّ في جبهته وكسرت رباعيّته "بعض أسنانه"، وسقط على الأرض بعد أن أخذت منه الدماء، حتّى صاح أحدهم: إنَّ محمّداً قد قُتِل. واندفع إليه قوم من المشركين حتّى يقتلوه، ولكنَّ عليّاً والصّفوة الطيّبة معه دافعوا عنه وكشفوهم، وقُتِلَ آنذاك حمزة بن عبد المطّلب (رض)، وهو عمّ رسول الله (ص).
وهنا أنزل الله في القرآن آيات كثيرة، يحدّثنا فيها عن بعض النَّماذج في وقائع المعركة، وعن الدروس التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوها من المعركة، لأنَّ الإسلام، في ما جاء به القرآن، لا يريد للمسلمين عندما يمرّون بأيّ تجربة، سواء كانت التجربة تجربة نصر، أو تجربة هزيمة، أو تجربة يختلط فيها النصر بالهزيمة، كما كانت هذه المعركة، أو تجربة خطأ أو صواب أو فشل أو نجاح، إنَّ الله لا يريد للمسلمين أن تنتهي التجربة وينتهوا معها، ليصفِّقوا لانتصاراتهم وليبكوا هزائمهم، بل يريد لهم أن يدرسوا كلّ تجربة في الحياة ليفهموها جيّداً، فإذا كانت تجربة نصر ونجاح، فعليهم أن يدرسوا كيف انتصروا وكيف نجحوا وما هي عناصر النجاح والنّصر، ليستفيدوا من ذلك في المستقبل، وعندما تكون المسألة مسألة هزيمة أو فشل، فعليهم أن يدرسوا أسباب الهزيمة وأسباب الفشل، من أجل أن يتفادوها في المستقبل.
إنَّ الله يريد للإنسان دائماً أن يستثمر نجاحاته لنجاحات أخرى، وأن يأخذ الدرس في هزيمته، حتّى لا يقع في هزيمة أخرى، لتكون تجربة الإنسان مدرسة له في كلِّ مجالات الحياة.
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".