في الجانب الأخلاقي في الإسلام، هناك عناوين أراد الله للإنسان أن يبتعد عنها، وأن لا يمارسها، ومنها السّباب؛ بأن يسبّ الإنسان الإنسان الآخر ويشتمه نتيجة عقدة نفسيَّة، أو بسبب اختلاف في الأفكار والاتجاهات أو المذاهب أو الدّين، أو في أيّ جانب من الجوانب.
فالله تعالى لا يريد للإنسان أن يأخذ بأسلوب السبّ في تعبيره عن مشكلته مع الآخر، بل أراد له أن يختار الكلمة الَّتي تحفظ للإنسان الآخر كرامته واحترامه لنفسه، حتى لو كان يختلف معه في أيّ أمر من أمور المذهب أو الدين.
والسّباب على ثلاثة أنواع: فهناك سباب المؤمنين بعضهم لبعض، كما في أن يسبّ إنسان أهل بيته، فيسبّ الرجل زوجته أو العكس، أو يسبّ الأب أولاده، أو يسبّ الناس في المجتمع الذي قد يتحرك بخلافات عائلية أو حزبية أو ما إلى ذلك.
والنوع الثاني من السبّ، أن يسبّ الإنسان الذين يختلفون معه في المذهب، كما في الخلافات بين السنّة والشّيعة؛ فيسبّ السنّي الشّيعي في نفسه ومذهبه، ويسبّ الشيعيّ السنّي في نفسه ومذهبه أيضاً، أو يسبّ الشّيعة بعضهم بعضًا عندما يختلفون في مسألة المرجعيات والأحزاب وما إلى ذلك، أو يسبّ السنّة بعضهم بعضًا عندما يختلفون في انتماءاتهم.
أما النوع الثالث، فهو سبّ الذين كفروا، سواء كان في المجتمع الملحد والمشرك، أو في المجتمع الكتابي، فقد يسبُّ إنسانٌ مسلمٌ من لا ينتمون إلى الإسلام.
وقد تطرّقت النصوص الإسلاميَّة إلى هذه المسألة، ففي الحديث عن الصادق (ع) قال: "قال رسول الله (ص): سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة" ، وقال الرسول (ص): "سباب المؤمن فسوق - فكلُّ من يسبّ المؤمن يقع في الفسق - والفسق هو خروج المؤمن من دائرة طاعة الله إلى دائرة معصيته - وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه" ، فغيبة المؤمن وأكل ماله بالباطل حرام كحرمة سفك دمه.
وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع) أنّ "رجلاً أتى النبيّ (ص) وقال: أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: لا تسبّوا النَّاس فتكتسبوا العداوة بينهم" . وهذا الحديث غير مخصَّص بسباب المؤمن، وإنما فيه توجيه بأن لا يأخذ الإنسان بأسلوب السبّ في خلافه مع الآخر، لأن السبّ قد يجعل الإنسان الذي تسبّه يحمل لك العداوة في نفسه، لما يمثّله ذلك من هتك لحرمته وإهدار لكرامته، وهو ما لا يتحمّله الإنسان الذي يحترم نفسه.
وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (ع)، وقد سئل في رجلين يتسابَّان ما حالهما؟ قال: "البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم" . وفي الحديث عن أحد الإمامين الباقر أو الصَّادق (ع): "إنَّ اللّعنة إذا خرجت من في صاحبها تردَّدت بينهما، فإن وجدت مساغاً وإلّا رجعت على صاحبها" . وعن أبي حمزة الثَّمالي قال: سمعت الإمام أبا عبد الله جعفر الصَّادق (ع) يقول: "إذا قال الرَّجل لأخيه المؤمن "أفّ" خرج من ولايته، وإذا قال "أنت عدوّي" كَفَر أحدهما، ولا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمر على أخيه سوءاً".
هذا فيما يتعلّق بالسّباب والشَّتائم في علاقات المؤمنين بعضهم ببعض. فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه، فينظِّف لسانه من أيِّ أسلوب من أساليب الشَّتم والسّباب، لأنَّ ذلك سوف يجعله مستحقاً لغضب الله.
أمَّا السّباب الذي يكون نتيجة الاختلاف في المذهب أو الانتماء، فإنّنا نجد أنَّ الإمام عليّاً (ع) وضع منهجاً للتعامل مع هذه المسألة، فنحن نعرف أنَّ عليّاً (ع) واجه الحروب والمشاكل بعد أن آلت الخلافة إليه؛ من حرب الجمل، إلى النَّهروان، إلى صفّين، بحيث لم يتركوا له أيّ فرصة لتنفيذ مشروعه الإصلاحي والتَّوجيهي الَّذي يرفع من شأن المجتمع الإسلامي، ومع ذلك، نجد أنّه عندما سار بجيشه لقتال معاوية في صفّين، وسمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشَّام، وقف فيهم خطيباً وقال: "إنِّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين - لا أريد لشيعتي أن تكون طريقتهم في التَّعبير عن مشاكلهم مع الآخرين هي السّباب، لأنَّ السبّ لا يحلّ المشكلة، بل يزيد العداوة والبغضاء - ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم - في تمرّدهم على الشرعية، وإساءتهم إلى الواقع الإسلامي، وذلك في أن تتحدّثوا عن مواقفهم ومواقعهم ومنهجهم - كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللّهمَّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقَّ من جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به" .
فالإمام (ع) يرفض أن تنطلق حالة الحقد والبغضاء ضدَّ المسلمين، حتى لو اختلفنا معهم في المذهب والاتجاه، ويرفض أيضاً أن نعبّر عن ذلك بالأساليب السلبيَّة، بل يريد للمسلمين أن يفتحوا قلوبهم ويرجعوا إلى الله، ليطلبوا منه تعالى أن يحقن دماء الجميع ويصلح بينهم، لتكون القاعدة في علاقات المسلمين بعضهم ببعض هي قاعدة الوحدة والمحبَّة...
أمَّا في الجانب الثالث، في علاقة المسلمين بالكافرين، فيقول تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}(الأنعام: 108)، فكلّ أمَّة ترى أنَّها على الحقّ. ولذلك، علينا أن نمتنع عن الأساليب التي تثير ردود الفعل السلبيَّة من قبل الآخرين على كل مقدّساتنا وأوضاعنا.
هذا هو المنهج الأخلاقي الإسلامي التربوي، وعلينا أن نأخذ به، حتى ننطلق بالخط الأخلاقي الذي أراد رسول الله (ص) أن نسير عليه، وهو القائل: "إنَّما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق" . فالإسلام أخلاق كله؛ في كلّ مواقعه وشرائعه وأوضاعه.
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 5 شوّال 1427هـ/ الموافق: 27 تشرين أوّل 2006م.
***
- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج72، ص 160.
- بحار الأنوار، ج72، ص 148.
- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 360.
- الكافي، 2، ص 360.
- بحار الأنوار، ج69، ص 208.
- نهج البلاغة، ج2، ص 185.
- بحار الأنوار، ج68، ص 382.