متى يمكن اعتبار التَّشهير ونشر عيوب النَّاس عملاً شرعياً أو
أخلاقياً؟ وبتعبيرٍ أدقّ: هل هناك حالات استثنائيَّة يحلّ فيها للإنسان غيبة
الآخرين؟
هذا هو السؤال الذي نواجهه ونحن نعالج النقد في نطاق التَّجريح.. وربّما نجد
المبرِّر لهذا السؤال في الحالات الكثيرة التي تواجهنا بشدَّة في أكثر من موقف،
فتفرض علينا التحدّث عن عيوب الآخرين ونقاط ضعفهم من أجل قضايا حيويّة جداً لا يمكن
للفرد أو المجموع إغفالها وإهمالها في قليل أو كثير، لأنَّ ذلك يضرّ بالمصلحة
العامّة للنَّاس، ويؤدّي إلى انحرافات واسعة في حياتهم.
فماذا نفعل إزاء هذه الحالات؟
هل ندعو الإنسان إلى أن يمسك عن الخوض في حديث النَّاس، وليكن ما يكون، وليحدث ما
يحدث؟ أو نطلق له الحريّة فيما يتحدَّث عنه، وفيما ينقده في نطاق القضايا الَّتي
تواجهنا في الطريق، وإنْ كان في ذلك تشهير بالآخرين وإساءة إلى كرامتهم؟!
لا يمكن أن نختار الحلَّ الأوَّل، معنى ذلك جمود التَّشريع أمام الحالات الصَّعبة،
وفقدانه القدرة على الحركة في معالجه مشاكل الآخرين، الأمر الَّذي يجعله بعيداً من
حياة الناس، متعسّفاً في حلوله العمليَّة.. وهذا ما لا ينسجم مع دور التشريع
الإسلامي، وهو الأخذ بحياة الناس إلى أهدافه بيسر وسهولة، فلا يشعر الإنسان معه
بالحرج والضيق، ولا يجد حاجة حياتيّة تضطرّه إلى التمرُّد عليه تحت ضغط المطالب
الملحَّة التي تجابهه في حياته، وإنّما يشعر بدلاً من ذلك بالرَّاحة والطّمأنينة
إلى شريعته لأنّها انطلقت من الواقع كما هو، ولم تنطلق من المثالية والخيال.
ولا يمكن للتشريع الذي ارتكز على أساس فهم الواقع ووعي جذوره، إلّا أن تستريح له
الحياة، ويستجيب له النّاس في محبّة وواقعيَّة، دون حاجة إلى الشكوى منه أو
الانحراف عنه.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ للإسلام، الذي جاء من أجل أن يرفع مستوى حياة الإنسان على
أساس واقعي، أن يكون تشريعه منسجماً مع هذه الخطّة وسائراً في هذا الاتجاه، فلا
يمكن له ـــ والحالة هذه ـــ أن يحرِّم علينا غيبة الآخرين أو نقدهم في غيابهم
عندما تمسّ الحاجة إلى ذلك أو تدعو المصلحة إليه، لأنَّ في هذا التحريم ابتعاداً عن
علاج مشكلة الحاجة الملحّة، أو مراعاة المصلحة اللازمة.. وبالتالي، يؤدّي إلى إيقاع
الإنسان في الحرج الشَّديد الذي نفاه الله تعالى في قوله:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...}[الحجّ: 78].
ولهذا، فمن الطبيعي أن نختار الحلّ الثاني: وهو اعتبار الغيبة في القضايا الحيَّة
التي تمسّ حياة الإنسان في الصَّميم، خارجة عن نطاق التحريم، فلا حرج علينا في
الحديث عن عيوب النَّاس في تلك الحالة أمام الله، وإنْ أدَّى ذلك إلى التَّشهير
والتَّحقير.
* من كتاب "مفاهيم إسلاميَّة".