أكَّد الإسلام مواجهة الحالات العاطفيَّة الذاتيَّة المنطلقة من صلات
القرابة والصَّداقة، بشكلٍ حاسم، فأراد أن يخضعها للخطّ العتيد الَّذي يجعل الإيمان
والكفر مقياساً للتعامل العاطفي مع الأشخاص والأشياء، فليس هناك أيّ مجال للعاطفة
الأبويَّة والأخويَّة وغيرهما من علاقات الرَّحم، فيما إذا كان الأب أو الأخ أو
الابن منحرفاً عن خطِّ الله، ومتمرّداً على أوامره ونواهيه، لأنَّ حركة العاطفة
والشعور في هذا الاتجاه، تخفِّف كثيراً من الشعور بقيمة الإيمان بالله في نفس
الإنسان، لأنَّ معنى أنْ تحبَّ إنساناً يرفض الإيمان ويحتقره ويحاربه ويتمرّد عليه،
أنّك لا تقيم وزناً لذلك في علاقاتك، ما يجعلك تفضِّل الجوانب الذاتيَّة على
الجوانب العقيديَّة في عمليَّة التقييم والتفضيل.
أمّا بالنسبة إلى الأشياء التي تحيط بالإنسان، أو الّتي تواجهه في حياته، ممّا
يرتبط به الإنسان شخصياً أو مالياً أو غير ذلك من الروابط الطارئة، فلا بدَّ
للإنسان المؤمن من التخلّص من الجوّ العاطفي الذي يربطه بها، ليظلّ مع رسالته، ومع
ربّه، لئلَّا تصرفه هذه الأشياء عن رسالته وعن ربِّه، عندما تضغط عليه بقوَّة، في
حالة اتّجاه دعوة المسؤوليَّة إلى رفضها أو التنكُّر لها، والسير بعيداً عنها في
مجالات التضحية والفداء.
وبذلك تفقد العاطفة السلبيَّة التي تدعوه إلى الخروج على الأسس الرسالية التي ارتكز
عليها المجتمع، دورها في إضعاف الفرد عن حركة المسؤوليَّة، وبالتالي، تفقد تأثيرها
في حركة المسؤوليَّة في حياة المجتمع، عندما تدعوه إلى إفساح المجال للعواطف
العائليَّة، لتفصله عن قِيَم المجتمع وسلامته ووحدته.
إنَّ الإسلام يوجِّه الإنسان إلى رفض هذه العاطفة إذا اقتربت من قيمه الكبيرة،
ليربطه بالعاطفة الكبيرة الممتدَّة في حياة المجتمع ككلّ، لتبقى العاطفة الذاتيَّة
مجرَّد عاطفة تلامس الإحساس، ولكنَّها لا تستطيع أن تحرّكه بعيداً من أهداف المجتمع
وأوضاعه ومصالحه الحيويّة.
أمّا الفكرة العامَّة التي تدعو إلى رفض العاطفة الذاتيَّة، فيما إذا تعارضت مع
العاطفة الرساليَّة ـــ إنْ صحّ التعبير ـــ فتتمثّل في الآيات الكريمة:
1 ـــ {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة: 22].
2 ـــ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ
آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى
الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ}[التَّوبة: 23].
أمّا الفكرة الَّتي توافق على وجود العاطفة الشخصيَّة، ما لم تقترب من الجانب
الشعوري والعملي للإيمان بالله، فتتمثَّل في الحديث الَّذي يرويه الزهري عن الإمام
عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، في تحديد العصبيَّة التي حاربها الإسلام. يقول
(ع): "إنَّ العصبيَّة التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرَّجل شرار قومه خيراً من
خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيَّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبيَّة أن يعين
قومه على الظّلم". (1).
وبهذا يرتفع الإسلام إلى أعلى درجات الواقعيَّة، حينما لا يكلّف الإنسان التخلّص من
العواطف الأصليَّة في نفسها لارتباطها بالجوانب الذاتيَّة من شخصيَّته، بل كل ما
يدعوه إليه، أن يمنعها من الاقتراب من منطقة الإحساس بالإخلاص للعقيدة، والسَّير في
طريقها بقوّة واندفاع، وبذلك يضمن الإسلام للمجتمع حمايته من النَّوازع الفرديَّة
التي تضعف قوّته وتهدّد سلامته.
* من كتاب "الإسلام ومنطق القوَّة".
(1) الكافي (شرح المازندراني)، ج9، ص305.