يقول تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ *
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ
مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا
وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَـذَا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: 59 - 62].
إنَّ لهذه الآيات كما يذكر المفسِّرون قصَّة، وخلاصتها أنَّ وفد نصارى نجران جاء
إلى النبيّ (ص) ونزل في مسجده، وذلك ليحاوره، فقالوا له: ما هو رأيك في عيسى؟ فقال:
إنَّ عيسى (ع) عبد مخلوق لله، يأكل ويشرب ويمارس ما يمارسه النَّاس ويُحدث وما إلى
ذلك، فأرادوا أن يعطوا فكرتهم في أنَّ عيسى (ع) ليس بشراً كبقيَّة البشر، من خلال
عقيدتهم في أنَّ الله تجسَّد فيه، وأنَّه هو الله متجسِّد في جسد بشر، فقالوا: هل
يمكن أن يكون هناك مخلوق بدون أب؟ فعيسى (ع) ولد من دون أب كما تقولون، فأنزل الله
على رسوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ
آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمران: 59]
فآدم ـــ باعترافكم ـــ مخلوق يأكل ويشرب ويحدث، وما إلى ذلك، وليس له أب وأمّ.
إنَّ مسألة الخلق تنطلق من قدرة الله الَّذي خلق آدم من دون أب وأم، وخلق النّاس
كلّهم من أب وأُمّ، وهو القادر على أن يخلق إنساناً من دون أب، فما دام الأمر
متَّصلاً بقدرة الله، فإنّها قدرةٌ لا حدَّ لها. ويبدو أنّهم ـــ أي نصارى نجران
ـــ قد دخلوا في الحجاج حول هذا الموضوع وفي غيره، ويبدو من خلال جوِّ الآية أنَّ
الحجاج وصل إلى طريق مسدود، بحيث أغلقوا عقولهم عن التفكير فيما قاله لهم النبيّ
(ص) عن الله تعالى...
لهذا، فإنَّ الله تعالى قال للنبيّ (ص) احسم الموضوع بالمباهلة الَّتي ربّما كانت
معروفة في الرسالات السابقة، وهي أن يقف اثنان أمام الله إذا اختلفنا في أمر ولم
يصل الحوار إلى أيّ نتيجة، وأن يقول كلّ واحد منهما: تعال لنبتهل إلى الله ليلعن
الكاذب منّا؟ وربّما كانت قضيّة ابني آدم تقترب من جوِّ المباهلة، وإن لم تكن
مباهلة، وذلك عندما قرّبا قرباناً فتقبَّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر،
فالمباهلة هي أن يقف الاثنان بين يدي الله ليلعن الكاذب منهما.
فقال النبيّ (ص) من خلال الآية والرواية: تعالوا نبتهل. وانصرف القوم على أساس
اللقاء وفق موعدٍ محدَّد، وتقول الرواية الَّتي يذكرها المفسّرون، إنّ رئيسهم، وهو
"السيّد"، أو "العاقل" كما يسمّونه، قال لهم: انظروا، فإن جاء بقومه فليس نبيّاً،
وستكون النتيجة لصالحنا، ولكن إنْ جاء بأهل بيته، فإنّ علينا أن نمتنع عن المباهلة
.
وعندما جاء موعد اللّقاء، جاء النبيّ (ص) وعليه كساء أسود، وقد احتضن الحسن والحسين
(ع)، وعليّ وفاطمة (ع) يسيران خلفه، وهو يقول: «إذا دعوت فأمّنوا» ـ قولوا آمين ـ
حتى يعرفوا من خلال المعجزة الإلهيَّة من هو الكاذب ومن هو الصَّادق، فعندما رأى
الوفد الَّذين جاء بهم النبيّ (ص)، سأل عنهم، فقيل له: هذه ابنته، وهذا ابن عمِّه
وصهره، وهذان ولداه، فالتفت الرئيس الدّيني إلى الوفد وقال: «يا معشر النَّصارى،
إني لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا»،
لأنهم أيقنوا أنّ النبيّ (ص) لو لم يكن واثقاً من صدقه في الدَّعوة، لما جاء بأحبّ
النَّاس إليه؛ ابنته وابنيها وصهره وابن عمِّه، والنبيّ (ص) عندما يقدِّم من يحبّ
في موقعٍ من أخطر المواقع بين يدي الله، فإنَّه لا ينطلق في حبّه عن هوى، وإنما
ينطلق من إيمانه بأنَّ هؤلاء هم المقرّبون إلى الله، وأنَّ الله تعالى سوف يستجيب
لهم ما هم فيه. ودعا رئيس الوفد النبيّ (ص) إلى التفاوض والمعاهدة، فطلب منهم أن
يسلموا فأبوا، فصالحهم (ص) على أن يؤدّوا الجزية .
وعقدت المعاهدة بين النَّبيّ وبين النَّصارى، وهذه هي قصَّة المباهلة .
***
من كتاب "النَّدوة"، ج3.
من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 25 ذو الحجّة 1425ه/ الموافق: 4 شباط 2005م.
النَّدوة، ج3.
تعليقات القرّاء
ملاحظة: التعليقات المنشورة لا تعبّر عن رأي الموقع وإنّما تعبر عن رأي أصحابها
أكتب تعليقك
شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو الأشخاص أو المقدسات. الإبتعاد عن التحريض الطائفي و المذهبي.