هذه محاولة لتحديد بعض الثَّوابت أو المرتكزات التي حكمت الخطاب
الإصلاحي الفكري والسياسي الحركي للمرجع الراحل السيِّد محمَّد حسين فضل الله، في
مراحل حسّاسة ودقيقة، منعاً للالتباس في الفهم أو للتَّوظيف الخاطئ لبعض مفردات
خطابه في مرحلة هي أيضاً بالغة الخطورة والحساسيّة.
أوّلاً: الإصلاح الفكري
حركة النَّقد والتجديد التي مارسها السيِّد فضل الله عمليّاً، ارتكزت إلى مبدأ
الإصلاح المستمرّ، والَّذي يستهدف نشر الوعي بمفاهيم الإسلام الأصيلة، لتأخذ مداها
في صوغ البنية الفكريّة الأصيلة للإنسان. هذا المشروع دفعه إلى الاصطدام بالموروث
الثقافي في الدائرة الإسلاميّة، وجعل من مهامّه - بطبيعة الحال - مواجهة الأفكار
والمناهج التي انحرفت عن أصالتها الفكريّة، كما في حالات الغلوّ والجهل والخرافة
التي تبتعد بالذهنيّة العامّة عن الواقع، وتدفعها نحو السطحيّة الفكريّة التي
تُسهّل التحكّم بزمامها وحركتها، من قبل اللاعبين السياسيّين في أكثر من موقع.
وإذا كان السيِّد فضل الله صِداميّاً مع كلّ ما رآه ممثّلاً للجهل والغلوّ والخرافة،
فإنّ حركته الإصلاحيّة كانت تتحرّك في مدى الذهنيّة العامّة الخاضعة في بنائها
العقدي والفكري والثقافي لكثير من الموروثات، التي ساهمت في تشكّلها، عوامل عديدة،
خلال تاريخ طويل من الصراعات الداخليّة والخارجيّة التي واجهتها الأمّة الإسلاميّة
عموماً، ولم تكن حركته الإصلاحيّة تلك موجّهةً نحو المجال الإسلامي الشيعي بالخصوص؛
فضلاً عن أن تكون موجّهة لمعالجة ظاهرة لدى فئة أو حزب أو حركة أو دولة أو ما إلى
ذلك.
كانت القاعدة الجماهيريّة المنفعلة بخطاب السيِّد الإصلاحي على المستوى الفكري،
متوزّعة على أطر حزبيّة أو حركيّة أو فئويّة أو نخبويّة أو شعبيّة عامّة، وكانت
مواقف هذه الأطر التي تبدو طبيعيّة في سياق أيّ حالة تجديديّة تبرز في الأمَّة،
تتفاوت تبعاً لظروف وعوامل عديدة؛ من الإيجابيّة المتناغمة، مروراً باللامبالاة
التي تحاول الاستفادة من نتائج هذا النوع من الحراك التصادمي، وصولاً إلى السلبيّة
المطلقة التي أخذت شكل التكفير والتضليل، وإن كان بالإمكان القول - هنا - إنَّ
المواقف اللامبالية، أمَّنت الأرضيّة لدخول بعض الجهات التي لا تلتقي في بنيتها
بالفكر الطليعي الحركي، من أن يكون لها دور التأثير الفكري والثقافي في الحركة
الإسلاميّة، بشكل وبآخر.
ثانياً: مبدأ العزّة والقوّة
على خطّ آخر، كان الفكر الحركي للسيِّد فضل الله يؤصّل جذره الإسلاميّ العميق،
وأفضل ما يوضحه حديث الإمام جعفر الصَّادق (ع) الذي يشرح فيه قول الله تعالى: {ولله
العزّة ولرسوله وللمؤمنين}[المنافقون: 8]، يقول فيه: «إنَّ الله عزّ وجلّ فوّض إلى
المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً… إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل؛ إنَّ
الجبل يُستقلّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يُستقلّ من دينه شيء» ؛ حيث نستطيع أن
نؤسِّس لثابت أساسيّ في الحركة السياسيّة الإنسانيّة العامّة، وليس الإسلاميّة فحسب،
وهو مبدأ العزّة الذي يلتقي بمبدأ صناعة القوّة، لأنّ العزّة ليست مفهوماً تجريديّاً
اعتباريّاً، بل هو حركة واقعيّة لها مفرداتها في السياسة والاقتصاد والاجتماع
والأمن وما إلى ذلك.
وضمن هذا المبدأ، تندرج مبادئ مقاومة الاحتلال العسكري وتهديداته، ومقاومة مشاريع
الهيمنة على سياسة الأمّة وقراراتها الذاتية، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي
والتقدّم العلمي في مختلف المجالات، والمحافظة على ثروات الأمَّة من النهب والسيطرة،
وما إلى ذلك ممّا مثّل ويُمثّل ثوابت قوّة المجتمع وتماسكه وفاعليّته الحضاريّة بين
الأمم والمجتمعات. ولذلك، لم تكن مفردة المقاومة الإسلاميّة طارئة على خطاب السيّد
فضل الله، بل شكّلت، في مختلف الظروف والمراحل، ثابتاً أساسيّاً، تنظيراً ودعماً
وتوجيهاً، وكانت المقاومة هي الخطّ الجهادي لمفهوم الحركة الإسلاميّة الذي يتجلّى
على أرض الواقع، إلى جانب الخطوط الأخرى التي كان السيِّد فضل الله يوليها عنايةً
تأصيليّة من موقعه الفكري والاجتهادي.
ومن خلال المبدأ ذاته، التقى السيِّد فضل الله بتجربة الجمهوريّة الإسلاميّة التي
فجَّر ثورتها الإمام الخميني (ره)، في الوقت الَّذي لم يتبنَّ مرجعيَّته الفقهيَّة،
وكان السيِّد فضل الله معنيّاً بحماية التجربة الوليدة من الداخل والخارج، ومواقفُه
التي أطلقها في منبر الجمعة، وأمام السفراء الأجانب، وفي بياناته المختلفة، واضحةٌ
في أنّه معنيّ بإنجاح إسلاميّة التجربة، لأنّها تلتقي بالفكر الإسلامي الحركي الذي
حكم فكر السيِّد فضل الله وخطابه منذ خمسينيّات القرن الماضي.
ثالثاً: عدم اختلاط الثوابت
ربّما تكون حرب تمّوز 2006 التي شنّها العدوّ الصهيوني على لبنان، قد شكَّلت نقطة
مفصليَّة في فهم المنطلقات التي كانت تحكم حركة الفكر والنقد الذي مارسه السيِّد
فضل الله في المجال الإسلامي الشيعي. وبتقدير الكثير من المراقبين، فإنَّ إعلان
السيِّد فضل الله عن تهنئته قيادة المقاومة الإسلاميَّة لعمليَّة أسر الجنديّين،
شكّل محطّة أساسيّة في حركة النصر، وذلك لأنّ هذا الإعلان فوّت الفرصة على أيّ
توهّم في إمكانيّة إيجاد شرخ في البيئة المجتمعيّة الحاضنة للمقاومة، ارتكازاً إلى
ما سبقها من حراك في المشهد الثقافي الإسلامي الشيعي، وربّما يكون الكثيرون قد
راهنوا على أنَّ الأفكار التي كانت موضع صراع عنيف بين السيِّد وبين قواعد حركيَّة
عديدة، سوف تدفع بالسيِّد إلى اتّخاذ موقف «متوازن»، يُمكن أن يدفع باتّجاه إحداث
فجوة على مستوى تلك البيئة الحاضنة.
ولذلك، لم يتزحزح السيِّد عن ثوابته الفكريّة بعد تلك المرحلة، لأنّه كان يؤمن بأنّ
الإصلاح الفكري والثقافي هو أمرٌ لا بدَّ منه لضمان ديمومة وتجدّد أيّ حركة
إسلاميّة قياساً بمتغيّرات الواقع وتحدّياته، لأنّ الصعود المنقطع النظير للحركات
الإسلاميَّة، في لبنان والعالم الإسلامي عموماً، كان لا بدَّ أن يواكبه فكرٌ نقديّ
طليعيّ، يحافظ على التجربة ومكتسباتها، ويعمل على حمايتها من كلّ التحدّيات التي
تواجهها أو ستواجهها في المستقبل.
وبناءً عليه، كان الإصلاح الفكري في حركة السيِّد فضل الله يرتكز إلى ما كان يصرّح
بأنّه «واجبه الشرعي» في حركة مسؤوليّته كمفكّر وداعية وفقيه، وهو - أي الواجب
الشرعي - كان ركيزة دفاعه الشَّرس عن المقاومة وقوّتها وسلاحها ضدّ العدوّ
الإسرائيلي وتهديداته، منذ ثمانينيّات القرن الماضي، حتّى آخر كلمة ردَّدها في
أيّامه الأخيرة: «لن أرتاح حتّى تسقط إسرائيل«.
ولذلك، فإنّ من الخطأ الجسيم أن يُنظر إلى تبنّي مسألة المقاومة، في أوجهها كافّة،
ولا سيّما المسلّحة، في ظلّ الظروف الحاليّة للبنان والمنطقة، ولا سيّما التهديد
النوعيّ المستمرّ للعدوّ الصهيوني، إضافةً إلى مشاريع الهيمنة الأميركية وغيرها،
على أنّها مسألة تتّصل بحسابات طائفيّة أو مذهبيّة، أو انتماءات إقليميّة،لأنّها -
في الحقيقة - مسألة ترتكز إلى ثابتٍ من ثوابت الحركة الإسلاميّة على اختلاف مواقعها
ومشاربها وخطوطها.
إنَّ مسألة وجود فكر مقاوِم إلى جانب حركة مقاومة، هي مسألة أمَّة، بما للأمَّة
من معنى، تقع فلسطين في قلب خارطة قضاياها الكُبرى.
وكما كان ثابتاً أنّ الإصلاح الفكري والحفاظ على الحالة الإسلاميّة ووجهها الجهادي
يحكمان معاً خطاب السيّد فضل الله وحركته، لم يكن التَّمايز المرجعي الفقهي الذي
برز بين إيران والسيّد فضل الله موجباً لدفعه نحو الحياديّة السلبيّة تجاه أيّ تحدٍّ
يضع وجود الكيان الإسلامي في موقع الخطر، وهذا هو الَّذي دفع السيّد فضل الله إلى
إطلاق الدعوة الصريحة إلى حفظ النظام الإسلاميّ في إيران، منبِّهاً إلى أنَّ الوجه
الإسلاميّ هو الذي أعاد لإيران امتدادها في وجدان العالم الإسلاميّ، في الوقت نفسه
الَّذي دعا إلى الحوار بين التيّارات المختلفة بهدف إغناء التجربة الإسلاميّة فيها.
ولذلك، اختبر الكثير من اللاعبين الدوليّين والإقليميّين عدم القدرة على دفع السيّد
فضل الله لاتّخاذ مواقف مائعة من تحدّيات خطيرة كانت تواجه المقاومة الإسلاميّة في
لبنان، أو الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، اعتماداً على أيّ حركة فكريّة قد تختلف
في خطوطها أو تفاصيلها عن الحركة الفكريّة في هذين المجالين، لأنّ المسألة لم تكن
تتّصل بمصالح ذاتيّة، أو بحركة سياسيّة ظرفيّة في فكر السيِّد فضل الله وحركته،
وإنّما تتّصل بمبدأ ينبغي المحافظة عليه في موازاة المحافظة على مبادئ أخرى، وتحديد
الأولويّات في الحركة إذا ما تعارضت حركة المحافظة على المبادئ جميعاً على أرض
الواقع.
انَّ هذه الثوابت تنبع من عمق القيم الإسلاميَّة، ولذلك لا ينبغي أن تكون ثوابت
شيعيّة بالمعنى المذهبي، أو إسلاميّة بالمعنى الطائفي، بل هي مسألة ترتبط بخطوط
وطنيّة إنسانيّة عامّة، وبذلك أمكن أن تُبنى عليها استراتيجيات دفاعيّة أو وقائيّة،
أو تفاهمات سياسيّة، أو تحالفات إقليميّة.
* المقال منشور على موقع "نصوص معاصرة"، بتاريخ: 27 آذار 2011م.
الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص 63.