الإمام جعفر الصّادق (ع) من أئمّة أهل البيت الَّذين فتحوا فكرهم للنّاس كافّة، وبهذا كانت مدرسته الممتدَّة في الحياة الإسلاميَّة كلّها تمثّل المدرسة المنفتحة على النّاس كلّهم، فقد كان يستقبل الملاحدة والزنادقة والفرق الضالّة في المسجد الحرام عندما كان يذهب إلى الحجّ، وفي بيته عندما كان يستقبل طلاّب المعرفة، فكان يفتح لهم قلبه ليقولوا كلّ شيء، ويحدّثهم عن رأيه في كلّ ما يقولون، من دون أن يتعقَّد منهم، ومن دون أن يتشنَّج، حتّى لو كانت الكلمات التي يقولونها كلمات كبيرة وصعبة وقاسية وجافّة، فإنّه كان يرى أنّ على صاحب الحقّ أن يسمح لكلّ إنسان يختلف معه بأن يقول كلّ رأيه، وأن يمنحه حريّة أن يقول رأيه، ليردّ عليه وليناقشه من موقع الحريّة، لا من موقع القهر والضغط.
ولهذا قال أحدهم، وقد سئل عن الإمام جعفر الصّادق (ع)، والناس مجتمعون آنذاك في موسم الحجّ، قال: "ما منهم أحد أوجب له اسم الانسانية إلا ذلك الشيخ الجالس، يعني جعفر بن محمَّد (ع)" ، لأنّه كان يعيش إنسانيّته بكلّ رحابة صدر، وبكلّ سعة الخلق، وبكلّ حريّة الرأي، ويمنحها حتّى للذين يختلفون معه في أساس العقيدة، لأنّه كان يريد للنّاس أن ينفتحوا على الله من خلال ذلك كلّه.
وقد امتدَّ الإمام الصّادق (ع) حتّى كان للمسلمين جميعاً؛ فقد تتلمذ عليه سنتين أبو حنيفة النّعمان إمام المذهب الحنفي، وتتلمذ عليه مالك بن أنس إمام المذهب المالكي، ويُنْقَلُ عن أبي حنيفة قوله: "لولا السنتان لهلك النعمان" ، لأنَّ السنتين اللّتين استفاد فيهما من الإمام جعفر (ع)، ركّزتا قواعد تفكيره وعلمه وفقاهته.
وهكذا كان الإمام (ع) يوصي أصحابه بأن يكونوا المنفتحين على من حولهم، حتّى على الَّذين يختلفون معهم في المذهب، فكان لا يريد لهم أن يتعقَّدوا، بل كان يريد لهم أن ينفتحوا، لأنَّ على الإنسان الَّذي يحمل في حياته التزاماً بخطِّ أهل البيت (ع)، أن يكون داعية للإسلام على هذا الخطّ، من خلال أخلاق، ومن خلال طلاقة وجهه، ومن خلال انفتاحه على النّاس كافّة...
لهذا، كان الإمام الصَّادق (ع) يريد من أتباعه وشيعته أن يعيشوا في الأُفق الإسلامي الواسع، وأن يلتقوا مع كلّ المسلمين، حتّى لو اختلفوا معهم في الرأي على أساس الإسلام، ليكون هذا الجوّ المنفتح هو السَّبيل لأن تدخلوا في حوارٍ معهم، على أساس أنَّ هناك وضعاً طبيعياً، فبإمكانكم أن تتحدَّثوا معهم بحريّة، ويتحدّثوا معكم بحريّة، لتصلوا إلى الحقّ من خلال ذلك الحوار. هكذا كان يريد لشيعته...
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".