يقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ
ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة: 55 - 56].
جاءت هاتان الآيتان لتحدِّدا خطَّ الولاية الَّذي يجب أن يلتزمه النَّاس بالنِّسبة
إلى ما يلتزمون به في العقيدة والشَّريعة والقيادة. فالله هو الوليُّ الَّذي تتَّجه
إليه قلوب العباد وأرواحهم بالطَّاعة والعبادة والإخلاص والنّصرة والمحبَّة،
فبالإيمان به ينفتح درب الحياة، وبالالتزام بشريعته يستقيم خطّ العدل، وبالإنابة
إليه يتصحّح كلّ انحراف، وهو المرجع والملجأ في كلِّ شيء، لأنَّه القادر على كلِّ
شيء، والمهيمن على كلِّ وجود، والرسول هو الوليّ في الدعوة والرسالة والقيادة، فهو
الَّذي يجب على النَّاس أن يستجيبوا له إذا دعاهم إلى ما يحييهم من طاعة الله
وعبادته، وهو الرَّسول الَّذي أراد الله للنَّاس أن يؤمنوا برسالته بما يوحيه الله
إليه من وحيه، وبما ينزل عليه من قرآنه، وهو القائد الَّذي جعله الله أولى
بالمؤمنين من أنفسهم، فيملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم، وله عليهم حقّ الطَّاعة
في ذلك كلِّه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، والَّذين آمنوا هم أولياء المؤمنين،
لأنَّهم يُمثِّلون الإخلاص لله في ما تُمثِّله الصَّلاة الّتي يقيمونها من روح
الإخلاص وشعاره، وفي ما تُمثِّله الزكاة الّتي يؤتونها كتعبيرٍ عن روحيّة العطاء
المنسابة من إنسانيَّة الإيمان النَّابض في روح الإنسان المؤمن وقلبه، ولا سيَّما
أنَّهم يؤدّونها وهم راكعون لله، كأسلوب من أساليب المزج العملي بين عبادة العطاء
وعبادة الخضوع، في ما يوحيه ذلك من معنى العبادة الَّذي لا يتمثَّل في حركة الشَّكل
التقليدي للعمل العبادي، بل يمتدّ ليتحوَّل إلى عنصرٍ من عناصر الخير الفاعل في
حياة النَّاس الآخرين المحتاجين للعطاء.
وربَّما كان الاقتصار على هاتين الصّفتين في شخصيَّة الولاية في المؤمنين، للإيحاء
بأنَّهما في ما يعبِّران عنه من معنى داخليٍّ روحيٍّ وعمليٍّ، يمثِّلان الانطلاقة
الحيَّة في الصفات العامّة والخاصَّة الّتي ينبغي أن تتوافر في وليّ المؤمنين، في
ما يتحدّث به المتحدِّثون من شروط الولاية، لأنَّ الإنسان الَّذي يُقيم الصلاة لله
بمعناها الحقيقي، لا بُدَّ أن يعيش الإخلاص والأمانة على رسالة الله وحياة عباده،
كما أنَّ الإنسان الَّذي يؤتي الزكاة من موقع الخضوع لله والركوع بين يديه، لا بُدَّ
أن يحمل مسؤوليَّة النَّاس الذين يتولى أمورهم بكلِّ أمانة وإخلاص، وبذلك تجتمع له
الاستقامة في خطّ العقيدة، والاستقامة في خطّ المسؤوليّة العمليّة.
وقد جاء في أكثر من حديث، أنَّ الآية الأولى قد نزلت في عليّ بن أبي طالب (ع) عندما
تصدَّق على الفقير الَّذي سأله الصَّدقة وهو في حالة الركوع، فأعطاه خاتم. ولا بُدَّ
من أن تكون لهذه الحادثة الدَّلالة التعبيريّة الإيحائيّة بالمعنى الروحي الَّذي
تُمثِّله هذه الصَّدقة، من حيث علاقة الصَّلاة بروح العطاء في نطاق الصَّدقة، مما
لا يجعل من ممارستها في أثناء الصَّلاة عملاً مختلفاً عن الصَّلاة، بل يعتبر منسجماً
معها تمام الانسجام، لأنَّ كلاً منهما يُمثِّل رضا الله في ما يأمر به من جهة، ومن
جهة أخرى، فإنَّ التركيز على الَّذين آمنوا الَّذين يمارسون هذا العمل، يوحي بأنَّ
المسألة ليست منطلقةً من خلال هذا العمل كحالة طارئة من حالات التصدُّق، بل هي
منطلقة من حيث كونها مدلولاً إيمانياً عملياً، يتحرَّك في كيان الشخص، ليتحوَّل إلى
صفةٍ لازمةٍ لا تنفك عنه، ما يجعله من ملامح الشخصيّة الأصيلة. وقد نستوحي من
نزولها في نطاق هذه الحادثة، في ممارسة عليّ (ع)، أنَّ الآية تريد أن تشير إلى
النموذج الأمثل، ليجد النَّاس فيه الفكرة بعمق، مما يراد لهم من خلاله أن يتطلَّعوا
إلى النموذج الأمثل، ليجدوا فيه عمق الدَّلالة على المعنى من حيث ملامحه الحقيقيَّة،
ولا يتوقَّفوا عند المدلول الساذج للصفة والحادثة.
وجاءت الآية الثَّانية لتؤكِّد جانب الممارسة، بعد أن أكَّدت الآية الأولى جانب
الخطّ، {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ
ءَامَنُواْ}، ويتحرَّك في خطِّ الولاية الصَّحيح، فيلتزم به ويترك الخطَّ
المزيَّف، فسيجد كلَّ الخير والهدى والعدل والصَّلاح والقوّة والغلبة، في هذا
الجانب الَّذي يُمثِّل حزب الله في كلِّ ما يحمل من شعارات ويتَّجه إليه من أهداف،
وإذا سار النَّاس في هذا الطَّريق، وعاشوا الانتماء إلى حزب الله، فسيكون لهم
النَّصر والغلبة على الآخرين، {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْغَالِبُونَ} بفكرهم، وإخلاصهم، وثباتهم، وصمودهم أمام التحدّيات
الصعبة في الساحة.
* من كتاب "عليّ ميزان الحقّ".