لم يكتف الإسلام في مسألة حركيَّة التجربة بالتجارب الذاتيَّة
للإنسان، بل إنَّه أراد له أنْ يعيش تجارب الآخرين، وهو ما نقرأه في القرآن الكريم،
عندما يطلب من الناس أنْ يعتبروا وأن يسيروا في بلاد الآخرين، وأنْ يدرسوا كيف كانت
حياتهم وكيف تطوَّرت في عنصر السلب هنا وعنصر الإيجاب هناك، لأنّ تجارب الآخرين
تعطي - أيضاً - الفكرة للإنسان، تماماً كما تعطيه تجربته الخاصَّة، ولكن بعد دراسة
دقيقة لهذه التجارب التي عاشها النَّاس في القرون السابقة وفي العصور المختلفة.
يقول الإمام عليّ (ع): "العقل حفظ التجارب" ، لأنه يريد لك أنْ تعمل على أن يكبر
عقلك وينمو ويتطوّر، وأن تحفظ التجارب التي عشتها في كلِّ تاريخك، وفي كلِّ مواقع
حياتك، فلا تهملها ولا تنساها ولا تغفلها، وحاول - أيضاً - أن تحفظ التجارب التي
عاشها الآخرون، فإذا حفظت كلّ ذلك، استطعت أنْ تأخذ من كلِّ هذه التجارب علماً
جديداً وفكراً جديداً وتطوّراً جديداً، لأنَّ العقل ينفتح على كلِّ ما يلقى إليه من
فكرٍ هنا وهناك، فيولّدُ من الفكر فكراً، وينتج الفكر من الواقع في هذا المجال.
ويقول (ع)، بعقله الَّذي انفتح على العالم كلّه وعلى الكون كلّه: "خيرُ ما جرَّبْتَ
ما وعظَكَ" .
يعني أنَّك عندما تعيش التجربة الَّتي قد تتَّصل بالجانب الإيجابي من حياتك في ما
ينبغي لك أن تعمله، أو في الجانب السلبي في ما يجب عليك أن تتركه، فقيمة التجربة
ليست في ما تنتجه من فكر فحسب، بل إنَّ قيمتها تنبع من أنها تغيّر حياتك من السَّلب
إلى الإيجاب، لتكون التجربة هي الواعظ الَّذي يعظك أنْ تفعل ما لم تفعله، أو تترك
ما فعلته من السلبيَّات هنا وهناك. ونحن نعرف أنّ كلَّ تطوّر في الأمور العلميَّة
أو الأمور السياسيَّة أو الأمور الاجتماعيَّة والأمنيَّة، جاء من التجربة الَّتي
تمتدُّ امتداد الحياة، وهذا ما ينبغي للإنسان أنْ يعيشه في تجاربه، وكلّ حياتنا
تجربة؛ في الطّفولة وفي الشباب وفي الكهولة، وحتى في الشيخوخة، وفي كلّ مجالات
الحياة.
إنَّ الإمام (ع) يقول: احفظوا تجاربكم ليكبر عقلكم، وحرِّكوا تجاربكم في حياتكم من
أجل أن تمنحكم التجربة من نتاجها الفكري والأخلاقي، الموعظة الحسنة الَّتي يكبر بها
واقعكم العمليّ إلى جانب واقعكم الثقافي. هذا هو عليّ (ع) في فكره إذا أردتم أن
تعرفوا عليّاً.
ثم يؤكّد الإمام (ع) في مسألة استنطاق التجربة للعمل، فيقول: "إنَّ الشقيّ من حرم
نفع ما أُوتي من العقل والتجربة" .
فكأنما يقول: إنَّ مسألة الشقاء ليست في أنْ يجوع الإنسان تارةً ويعطش تارةً أخرى
أو يعرى ثالثةً، ولكنَّ الشقاء والإضرار بالنَّفس وتنكّب الطريق على خلاف السَّعادة،
هو عندما تكفّ عن أن تنتفع بعقلك في تأمّلاته، وتجربتك في حركيّتها، فأيُّ شقاءٍ
أكبر من هذا الشّقاء؟! عندما يتوفّر لك ما يرفع مستواك وما تنتفع به في حياتك،
فتهمل ذلك كلّه لتبقى في حالة تخبّط هنا وهناك، وفراغ روحيّ وفكريّ وجمود حركيّ مما
يفتحه لك العقل وتقودك إليه التجربة، بما يصنع لك من عناصر الشخصيَّة الواعية في
الحسّ الداخلي والحركة الخارجيَّة وغنى الواقع وانفتاح الحياة.
* من كتاب "النّدوة"، ج 13.