كان زواج عليّ (ع) من فاطمة (ع) زواج التّلميذ الّذي تلقَّى من المصدر
نفسه، من التّلميذة التي تلقّت من المصدر نفسه، وكان هذا الَّذي جعلهما يعيشان
الانسجام في عقلَيهما، وفي روحَيهما، وفي أخلاقيَّتهما، وفي كلّ سلوكهما الروحي،
لأنَّ الأستاذ واحد. ولذلك، فإنَّنا عندما نقرأ عليّاً (ع)، إنَّما نقرأ رسول الله
(ص) في عليّ، وعندما نقرأ فاطمة (ع)، فإنَّنا نقرأ شيئاً من رسول الله في فاطمة.
روى الحاكم في "المستدرك"، وهو الّذي استدرك على الصَّحيحين بسنده عن أبي
ثعلب قال: "كان رسول الله إذا رجع من غزاة أو سفر، أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين
شكراً لله على أنّه أرجعه من سفره، ثمّ ثنّى بفاطمة ثمَّ يأتي أزواجه"، ما يعني أنّ
فاطمة تقف في المركز الأوَّل في علاقته بالنَّاس حتّى في علاقته بزوجاته.
وفي "الاستيعاب" بسنده: سُئِلت عائشة أمّ المؤمنين: "أيّ النَّاس كان أحبّ إلى
رسول الله؟! قالت: فاطمة"، يقول الراوي: "قلت: من الرّجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما
علمته صوّاماً قوّاماً"...
وفي الحديث عن زواج فاطمة (ع) من عليّ (ع)، [فقد] كان عليّ الفقير كأفقر ما يكون
النَّاس، ولقد خطب فاطمة الكبار من المهاجرين، وكان النبيّ (ص) يقول، كما تقول
الرّواية: "أنتظرُ أمرَ ربّي"، وقيل لعليّ: "لِمَ لم تخطب فاطمة؟"، وكان يستحي من
ذلك، وجاء إلى رسول الله (ص)، وحدّثه عن ذلك، وانفرجت أسارير رسول الله (ص)،
فكأنّما كان ينتظر ذلك، وكأنّه كان يُعدّ لذلك، وقال له... "يا أبا الحسن، فهل معك
شيء أزوِّجك به؟
فقال له عليّ: فداك أبي وأمّي، والله ما يخفى عليك من أمري شيء؛ أملك سيفي ودرعي
وناضحي، وما أملك شيئاً غير هذا، فقال له رسول الله (ص): "يا عليّ، أمَّا سيفك فلا
غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به على نخلك
وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكنِّي قد زوَّجتك بالدّرع ورضيت بها منك" .
وبِيعَت الدّرعُ بــ (500) درهم، وكان ذلك مهر الزّهراء (ع)، وعاشا كأفقر النَّاس،
حتّى إنّ الزهراء (ع) كانت تعاني الفقر والجهد والتعب والمشقّة في بيتها ما لم
تعانه امرأة سواها.
هنا نأتي إلى الحديث عن زواجها وعن قيمته، ففي "كشف الغمّة": روي عن أبي عبد الله
جعفر الصّادق (ع)، قال: "لولا أنَّ الله تبارك وتعالى خلقَ أميرَ المؤمنينَ (ع)
لفاطمةَ (ع)، ما كانَ لها كُفْؤٌ على وجهِ الأرض" ، فلو كانت الكفاءة بالنسب، فما
أكثر أبناء عمّ النبيّ! ولو كانت الكفاءة في هذا الجانب في الإسلام، فما أكثر
المسلمين! ولكن هناك سرٌّ في عليّ (ع)، وسرٌّ في فاطمة (ع)، لا يعلمه إلَّا الله،
فهو شيء من غَيبه.
ولكنّ هناك شيئاً يلتقي به عليّ بفاطمة، وهو أنّهما عاشا معاً مع رسول الله (ص)
علماً وروحاً وأخلاقاً بما لم يعش به أيّ صحابي أو صحابية، لأنَّ عليّاً وفاطمة
كانا معه في اللّيل وفي النهار، وكانا يعيشان معه تماماً كما يعيش الإنسان الذي
يستلهم كلّ ما عنده، وكان ينطلق هو أيضاً ليربّيهما على صورته استجابةً لنداء الله
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشّعراء: 214].
وعندما انكفأت عنه عشيرته، كان أقرب عشيرته إليه إيماناً وروحاً عليّ وفاطمة. ولذلك،
فإنَّ ما يعيشه عليّ من روحٍ ومن انفتاحٍ على الله ومن معرفةٍ بالله، كانت تعيشه
فاطمة (ع).
ومن هنا، فإنّنا إذا درسنا عبادة عليّ (ع) ودرسنا عبادة فاطمة (ع)، فإنَّنا نجد نفس
القوّة والجهد والانفتاح على الله سبحانه وتعالى، ما يعني أنّهما يعيان معنى القرب
إلى الله سبحانه وتعالى معاً، في هذه الدَّرجة من معرفة الله ومن الانفتاح على كلِّ
أسرار قدسه وعلى كلِّ صفات غَيبه.
وروى "الصَّدوق" في "عيون أخبار الرّضا (ع)" بسنده، عن أبي الحسن الرّضا، عن أبيه
موسى الكاظم، عن آبائه، عن عليّ (ع)... أنّه قال: "قالَ لي رسول الله (ص): يا
عليّ، لقد عاتَبَتني رجالُ قُريش في أمرِ فاطمةَ، وقالوا خَطِبناها إليكَ فَمنعتَنا
وزوّجْتَها عليّاً، فقلت لهم: والله ما أنا مَنعتُكم وزوّجتُه، بل اللهُ تعالى
منعَكُم وزوَّجه" .
وهكذا عاشت الزهراء (ع) حياتها كأيّ زوجة تخلص في كلّ مسؤوليَّتها الزوجيَّة، لم
تميّز نفسها عن أيّ زوجة مسلمة مع زوجها من خلال أنّها ابنة رسول الله (ص)، كانت
مسلمة كأفضل ما تكون المسلمات في مسؤوليَّاتها الزوجيَّة، كانت تطحن وتعجن وتخبز،
وكانت تربّي أولادها، وكان أولادها يتتابعون وهي ما هي عليه من الضّعف منذ بداية
حياتها، كما ينقل الذين كتبوا سيرتها.
وكانت هناك نقطة مهمَّة في هذا البيت الذي ضمّ عليّاً وفاطمة، وهي أنَّ الزهراء (ع)
أعطت عليّاً من روحها، ومن استقامتها، ومن عبادتها، ومن زهدها، أعطت عليّاً (ع)
الجوّ الإسلامي للبيت، بحيث كان عليّ يدخل البيت ويرى الإسلام يحيط به من بين يديه
ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، لأنَّ الزهراء (ع) كانت تملأ البيت بذلك كلّه، فكان
عليّ يتنفَّس الإسلام في المسجد مع رسول الله، وكان يتنفَّس الإسلام في البيت مع
ابنة رسول الله، وكان عليّ أيضاً الزوج المسلم الَّذي كان مع الحقّ وكان الحقّ معه،
كان يُعطي فاطمة (ع) من عقله، ومن روحه، ومن استقامته، ومن عبادته، ومن زهده، هذا
الجوّ الإسلامي، فكانت تتنفَّس الإسلام في بيتها من خلال عليّ، وكانت ابتهالاتهما
لله، وعبادتهما له، وسجودهما بين يديه، وتنهّداتهما في المحبّة لله والخوف منه، كان
بعضها يمتزج ببعض...
* من كتاب "في رحاب أهل البيت (ع)"، ج1.
***
كشف الغمّة، ابن أبي الفتح الإربلّي، ج1، ص 366.
كشف الغمّة، ج2، ص 100.
عيون أخبار الرّضا، الشّيخ الصّدوق، ج2، ص 203.