لماذا الغدير؟ إنَّ الله تعالى أنزل على رسوله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}[المائدة:
67]، وكان النبيّ (ص) قد بلّغ كلَّ ما أُنزل إليه من ربِّه، ولكنَّ
المقصود في ذلك ولاية عليّ (ع)، لأنَّه كان يجمع كلَّ ما أُنزل إليه من ربِّه، لأنَّ
عليّاً (ع) كان يملك علم الإسلام كلّه، وهذا ما عبّر عنه رسول الله (ص): "أنا
مدينة العلم وعليّ بابها" ، وهل يمكن أن يدخل أحد المدينة إلَّا من الباب؟
كان عليّ (ع) إنسان الحقّ كلّه، فلم يقترب الباطل من عقله ومن قلبه ومن حياته في
سلمه وحربه، كان يراقب الله حتى في حربه لتكون حربه لله، وقد عبّر عن ذلك في مواقف
عديدة، ففي معركة "الأحزاب"، عندما صرع "عمرو بن عبد ودّ"، والمسلمون يصرخون: احتزَّ
رأسه يا عليّ قبل أن يغدر بك، ولم يستجب لصرخاتهم، بل تأمَّل قليلاً ثمَّ احتزَّ
رأسه، وسُئل عن السَّبب، فأجاب – كما روي عنه – بأنَّ عمروًا تَفَل في وجهي حينما
أردتُ أن أَقتله، فصبرتُ لكي أقتله في الله لا لحظّ نفسي.
وفي موقف آخر في معركة "صفّين"، وقد مضى عدّة أيام على مرابطة الجيش فيها، وعليّ
(ع) لم يَأذن له بالقتال، فبدأ العسكر يهمس بعضه لبعض: لقد جاء بنا عليّ لنحارب،
فلماذا أبطأ في إذنه للقتال؟ أكان ذلك كراهيةً للموت، أو شكّاً في أهل الشَّام؟
وسمع عليّ همساتهم، وكان في عظمته الإمامَ والقائدَ الّذي لا يتعقَّد من الكلمات
السلبيَّة من بعض أتباعه، أو من التَّشكيك الذي قد يجول في أذهانهم، بل كان (ع)
يسمع بسعة صدر، ويجيب بوعي الرّسالة، لأنَّ صاحب الرسالة يختلف عن صاحب الذَّات،
فصاحب الذَّات يريد الناس لنفسه، وصاحب الرسالة يريد النَّاس لرسالته، وقد عبّر عن
ذلك بقوله (ع): "ليس أمري وأمركم واحداً؛ إنني أريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم"
. كما ردّ على اتهامه بكراهية الموت أو الشّكّ بأهل الشَّام، عندما وقف خطيباً فيهم
وقال: "أمَّا قولكم أكلّ ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج
الموت إليّ. وأمَّا قولكم شكَّاً في أهل الشَّام، فوالله ما دفعْتُ الحرب يوماً
إلَّا وأنا أطمعُ أن تلحقَ بي طائفة، فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، فهو أحبُّ إليَّ
من أن أقتلَها على ضلالِها، وإن كانت تبوءُ بآثامِها".
لذلك، قصَّة الإمام عليّ (ع) في مسألة القرآن والنبيّ (ص) محسومة، ليس هناك أحد
متعدِّد الأبعاد، متنوّع الثقافات، متحرّك في كلّ الواقع الإسلامي غير عليّ (ع)،
بخلاف كلِّ الصَّحابة، لأنَّ عليّاً (ع) عُجن بالإسلام كلِّه، حيث احتضنه رسول الله
في أوَّل أيام طفولته، فربَّى عقله وقلبه ومفاهيمه وقيمه، فكان عليّ الصَّادق
الأمين، كما كان رسول الله الصَّادق الأمين. ولم يكن هناك بيت في الإسلام إلَّا
البيت الذي جمع الثَّلاثة؛ النبيّ وخديجة وعليّ، ولم يسبقه للصَّلاة إلَّا رسول
الله، ثم كان عليّ يسمع الوحي ويحفظه، حتى قال له رسول الله: "إنَّك ترى ما أرى،
وتسمع ما أسمع، إلا أنَّك لست بنبيّ" ، وكان مع رسول الله في اللَّيل والنَّهار، لم
تنزل آية – كما يقول عليّ (ع) – في جبل أو في سهل إلَّا وكان أول من يسمعها ويعرف
بمن نزلت، حتى كانت نساء رسول الله يغرن من عليّ لأنَّه كان يشغل النبيَّ عنهنّ، ثم
بعد أن زوَّجه ابنته فاطمة (ع) الَّتي لولا عليّ لما كان لها كفؤ، فكان بيت عليّ
وفاطمة أحبّ البيوت إليه.. ولم يتحدَّث رسول الله عن صحابيّ كما تحدَّث عن عليّ،
لأنه كان يريد أن يهيِّئ الذهنية الإسلاميَّة لتجد في عليّ الوصيَّ والخليفة بعد
رسول الله.
وهناك نقطة بيَّنتها في كلمات سابقة، وهي أنَّ خلافة النبيّ تختلف عن خلافة أيّ
حاكم، لأنّ النبيّ كان يحمل شخصيَّة الرسول وشخصيَّة الحاكم، فخلافة النبيّ كانت
تحتاج إلى الرّسالي الذي يعرف الإسلام كلّه فكراً وتطبيقاً ومنهجاً ويعرف الحكم.
وعندما ندرس كلَّ المسلمين – من نجح ومن فشل – لا نجد أنَّ أحداً كان عالماً
بالإسلام كما كان عليّ (ع)، كان عليّ مؤهَّلاً ليكمل ما بدأه رسول الله من بيان
الإسلام ومعرفته، وإعطاء النظريَّات التي يمكن أن تتحرَّك مع الزمن كلِّه، ولذلك
عندما ندرس كلَّ صحابة النبيّ، فإنَّنا نسأل ما تركه أيّ صحابي من فكر ومنهج وحلول
لمشاكل الإنسان كما ترك عليّ (ع)، حتى إنَّنا عندما نقرأ عليّاً الآن، فإننا نلاحظ
أنه يحدثنا عن عصرنا ومشاكله وتطلّعاته، وكانت مأساة عليّ أنَّ المسلمين لم
يتعلّموا منه الكثير، حتى قال بعض المستشرقين: لو كان عليّ موجوداً الآن، لوجدت
مسجد الكوفة مملوءاً بالقبَّعات الأوروبيَّة، ولن تجد فيه موطئ قدم لعربيّ واحد!!
لذلك كان عليّ (ع) وحده هو الَّذي يملك علم ذلك كلّه، وقد كان عليّ كلَّ رسول الله
وكلَّ عقله وكلَّ قلبه..
لذلك، كانت ولاية عليّ في يوم "الغدير" الَّتي أكمل رسول الله بها كلَّ الكلمات
التي كانت تشير إلى الولاية، وقد نزلت الآية بعد الغدير:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].
ويبقى لنا أن نعيش مع عليّ دائماً، أن لا يكون دورنا كدور الَّذين عايشوه ولم
يأخذوا شيئاً من روحه وفكره، إنَّ بطولة عليّ الفكرية والروحية أعظم من بطولته
الجسدية، فعلينا أن نغرف من ذلك الفكر والعلم والروحانيَّة، أن نعيش معه في دعاء
كميل وغيره من الأدعية: "فهبني يا إلهي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني
صبرت على حرِّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك"، كان يحترق حبّاً لله، ولذلك
عاش لله، فهل نتعلَّم منه أن نعيش لله، أن لا نعيش لعصبيَّاتنا وقبليَّاتنا
وحزبيَّاتنا وذاتيَّاتنا، أن لا نتحرَّك لنقتل في كلِّ يوم ألف عليّ وعليّ، ولنغتال
معنوياً ألف عليّ وعليّ، عليّ كان شخصاً ولكنَّه كان نموذجاً.
في عيد الغدير، علينا أن ننفتح على الإسلام كما انفتح عليّ على الإسلام، وعلينا أن
نسلم لأمور المسلمين كما أسلم عليّ كلَّ نفسه ما سلمت أمور المسلمين، علينا أن لا
ننطلق من ذكرى عليّ لنسيء إلى الوحدة الإسلاميَّة، فقد كان عليّ بطل الوحدة
الإسلامية، ولم يتحرك أحد في الوحدة الإسلامية كما تحرك عليّ (ع).. مع عليّ ننطلق
ونتحرَّك ونبلغ الأهداف، لأنَّ عليّاً كان مع الله ورسوله، فمن سار مع عليّ سار مع
الله ورسوله...
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 21 ذو الحجّة 1421ه، الموافق: 16 آذار 2001م.
بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج37، ص 270.