إنَّ أصحاب الحسين (ع) هم من الَّذين تحدَّث الله عنهم:
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ
أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ
اللهِ وَلَا يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ
أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}[الرَّعد: 19 ـــ
21].
وقد أراد الحسين (ع) أن يركِّز في هؤلاء أمام النَّاس هذه القيمة الإسلاميَّة، وهي
أنّهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وعندما جاءتهم المشاكل، وأراد منهم الآخرون أن
يغيِّروا أو يبدِّلوا، رفضوا أن يبدِّلوا، وأصرّوا على أن يبقوا مع الحسين (ع)،
حتّى في الموقف الَّذي وقَفَ فيه الحسين (ع) ليحلّهم من بيعته قائلاً: "إنَّ هذا
اللَّيل قد غَشِيَكُم فاتّخذوه جَمَلاً" ، "أنتم في حلٍّ من بيعتي" ،
ولكنَّهم لم يغيِّروا ولم يبدِّلوا، بل قالوا: لا نتخلَّى عنك يا بنَ رسول الله،
حتّى لو قُتِلْنا وقُطِّعْنا وأُحْرِقْنا، لأنّنا ننطلق في الوقت معك والالتزام
بخطِّك، من خلال أنَّك وليّ الله وابن وليّه، ومن خلال أنَّك إمام هذا الدين وقائد
المسلمين.
قالوا له يا بن رسول الله، لقد التزمنا بالإسلام، قالوا له ذلك بموقفهم، وإنْ لم
يقولوا له بكلامهم. قالوا له يا بن رسول الله، لقد التزمنا بالإسلام بكلِّ أحكامه
ومفاهيمه، والتزمنا بقيادتك على أساس أنّها القيادة الإسلاميَّة التي ركَّزها رسول
الله (ص)... فالتزمنا قيادتك، لأنَّ رسول الله أراد لنا أن نلتزم قيادتك في إمامتك،
وعندما صرخت بهذا الصَّوت: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالِماً ولا مفسداً،
وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّةِ جدّي" ، لما صرخت بهذا الصَّوت، وحدَّدت
موقفك وطبيعة ثورتك وحركتك، بأنّها تهدف إلى إصلاح ما أفسده الظَّالمون والمنحرفون
من الواقع الإسلامي، سرنا معك، لأنَّ الله أراد منَّا أن نصلح. يا حسين، لستَ وحدك
المسؤول، إنَّنا مسؤولون في أن ننطلق معك، لنصلح ولنقوّيَ حركة الإصلاح، بما تقوّي
به حركتك وموقف الإصلاح، بما تثبِّت به موقفك، لأنَّ كلّ مؤمن وكلّ مسلم مسؤول عن
أن يطلب الإصلاح في أُمَّة رسول الله (ص)، لأنَّ رسول الله قال للأُمَّة كلِّها:
"كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته" ...
وهكذا قالوا له يا بن رسول الله، لقد قلتَ: "أُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن
المنكر" ، لأنَّك رأيتَ المعروف في ما يتمثَّل في طاعة الله في كلِّ قضايا
الإنسان والحياة، ورأيت أنَّ المعروف يُترَك... وكنّا يا بن رسول الله معك، لأنَّ
الله حمَّل كلَّ مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، ولأنَّ رسول الله (ص)
حذَّر المسلمين من أنّهم إذا تركوا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فسوف يقعون
في مصائب كثيرة وفي بلايا عديدة، وقال في ما قال: "لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن
المنكر، أو ليُسلّطنَّ الله شرارَكم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم"
.
لقد وجَّه رسول الله الأمر إلينا جميعاً، ولهذا فنحن مأمورون بأنْ نأمر بالمعروف
وأن ننهى عن المنكر، كما أنتَ يا بن رسول الله مأمور بذلك، مأمورون بأن ندعم
الَّذين يأمرون بالمعروف، إذا كانوا في موقع القيادة أو المسؤوليَّة، أنْ نثور معهم
على الظلم إذا ثاروا عليه، وأن نكون معهم في خطِّ العدل إذا كانوا معه، وقد قلت:
"فَمَنْ قَبِلَني بقبول الحقّ، فالله أوْلى بالحقّ" ... لم ترد لهم أن يقبلوك
لشخصك... لقد قلت ذلك يا بن رسول الله، ونحن معك في ذلك قبلناك...
قالها أصحاب أبي عبد الله لأبي عبد الله (ع)، قالوها بموقفهم وإنْ لم يقولوها
بلسانهم، قالوا له يا بن رسول الله، لقد قبلنا بالحقّ، ولقد رأيناك إمام الحقّ،
ولهذا فسنقبلك لأنَّ الحقّ يتجسَّد فيك، وسنقبلك لأنَّ القيادة تتجسَّد فيك،
وسنقبلك لأنَّ رضاك رضى الله، ولأنَّ سخطك سخط الله، ولأنَّك لا تنحرف عن طريق الله،
كما لم ينحرف عن ذلك أبوك وأخوك وجدَّك (ع) عندما انطلق الحقّ، ليكون عنوان
شخصيَّتكم وعنوان دعوتكم وحركتكم.
هذا ما قالوه له، وبعد أن قالوا ثبتوا على القول، عندما جاءتهم كلّ التهاويل،
وعندما تجمَّعت العساكر الكثيرة في وضع غير متكافئ، لأنَّ أقلّ إحصاء لجماعة الحسين
(ع) كان سبعين رجلاً، وأكثر إحصاء كان ثلاثمائة رجل ونيِّفاً، بينما كانت جماعة ابن
زياد يتراوح عددها ما بين أربعة آلاف، حسب ما قدَّره البعض، وثلاثين ألفاً حسب
تقديرات أخرى.
لم يكن هناك أيّ نوع من أنواع التَّوازن بين هذه الفئة القليلة وبين تلك الفئة
الكبيرة، ووقف أولئك يستعرضون قوّتهم وينطلقون بمختلف الأساليب، ليهزُّوا القوّة
التي يعيشها هؤلاء المؤمنون السَّائرون مع الحسين (ع)، ولكنّهم لم يفلحوا في أن
يسقطوا أحداً؛ بقيت هذه القلّة ثابتة في مواقعها، وبدأت تتحرّك في الخطّ الإسلامي
الَّذي انفتح على الله، فانفتح على الحسين من خلال الله، والَّذي انفتح على شريعة
الله، فانفتح على الثَّورة في خطّ شريعة الله.
وهكذا وقفوا، وكانوا يستأذنون الحسين (ع) في القتال، وكان الحسين يستقبل كلّ واحدٍ
منهم بهذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} صدقوا بالكلمة، وصدقوا بالموقف،
{فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ}، ويشير إلى الذين استشهدوا معه،
{وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ}،
ويشير إلى الذين يتحرّكون في خطّ الشهادة، {وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب: 23].
وتلك هي قصَّة الثائرين المجاهدين مع الحسين (ع).
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".
***
بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 44، ص 393.
بحار الأنوار، ج 45، ص 90.
بحار الأنوار، ج44، ص 329.
بحار الأنوار، ج 72، ص 38.
بحار الأنوار، ج:44، ص:329.
بحار الأنوار، ج:93، ص:378.
بحار الأنوار، ج:44، ص:330.