كان أستاذنا المرجع الكبير مميَّزاً بصفات عديدة عن غيره، حتى عن
مراجع الدّين الآخرين، رحم الله الماضين وحفظ الباقين؛ إنَّه لم يُختصَر في أن يكون
مرجعاً في الفتوى، حيث كان منفتحاً على الحياة كلّها، ومن جميع جوانبها، كان خبيراً
بأهل الشَّرق وأهل الغرب وسياساتهم وأساليبهم، بل كان له اطّلاع على ما توصَّلوا
إليه من علوم، ولم يكن ليتعقَّد من ذلك، بل كان يأخذ بحديث جدّه رسول الله (ص):
"اطلُبُوا العلمَ ولو في الصّينِ". ولذلك، كان قد هيَّأ المدارس لطلّاب العلم
على اختلاف أنواع العلوم الحديثة، وكان يحضّ الشَّباب على السعي لأخذ العلم، سواء
كان من الغرب أو من الشَّرق، مع الوعي الكامل لكلِّ ما يدور، ليأخذ الجانب الإيجابي
ويترك الجوانب السلبيَّة.
كان عالماً محاوراً من الطراز الأوَّل؛ حاور الاتجاهات الثقافيَّة على اختلاف
تلوّناتها، وحاور أهل المذاهب الإسلاميَّة، حتى الوهابيّين، وحاور رجالاً كباراً من
أهل الكتاب، وكان دائماً يكرِّر أن لا مقدَّسات أمام الحوار، ويذكر أنَّ الله عزَّ
وجلَّ حاور إبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ
إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِن طِينٍ}[الأعراف: 12].
حاور أستاذُنا المرأةَ بكلِّ احترام كما حاورَ الرَّجلَ، وله "دنيا المرأة" كما له
"دنيا الشباب". وأمَّا الأطفال، فكان اهتمامه بهم أكبر، فإضافةً إلى ما كَتَبَ عنهم،
أنشأ لهم مأوى ومدارس لحفظهم، وتبقى المسؤوليَّة على من يديرون تلك المدارس، كما
اهتمّ أيضاً بالمجال الصّحيّ للجميع، فأنشأ مستوصف التآخي في النّبعة، ثمّ تطوّر
ذلك فيما بعد.
كان لقاؤه بالنَّاس بشكلٍ دائم، بابه مفتوح للجميع؛ للعامل والسياسي والدبلوماسي،
ولكلّ النّاس، يصغي للجميع ويجيبهم، ومن يدخل في نقاش معه يخرج مرتاحاً.
كان يستقبل الصحافيّين على اختلاف بلادهم وسياساتهم، ولما سألته عن استقباله لصحيفة
يابانيَّة، أجابني بأنّ هؤلاء ينشرون لنا فكر الإسلام دون أن نتكلَّف شيئاً، ولما
سألته عن استقبال صحيفة تنشر للفنَّانين، أجابني بأنَّ هؤلاء الذين يقرأون أمثال
هذه المجلَّة لا يقرأون عن الإسلام، فلو أنَّ بعضهم قرأ، فنكون قد أدَّينا ما علينا،
لعلَّ الله يهدي بما نكتب البعض منهم.
كان قدوتُه في كلِّ سلوكه العملي والرّساليّ، ما ثبتَ عن أهل البيت (ع)، وفي
مقدَّمهم الأسوة رسول الله (ص)، وإذا أشكلت الروايات، فمرجعه القرآن الكريم، وهو
الَّذي كتب ما كتب من فقه وغيره، حتى لعلَّه لم يترك شيئاً مما يهمّ النَّاس إلَّا
وكتب فيه أو حاضر، ولم يترك مناسبةً تخصّ أهل البيت (ع) إلَّا وقد حاضر فيها، وكان
يهتمّ بالغدير كما يهتمّ بعاشوراء.
وإني سأنقل حادثةً أليمةً حدثت معه سنة 1972 م، ليعرف النَّاس ذلك، وهذه الحادثة
تكشف شدَّة حرصه على نشر المعرفة، وحرصه على النَّاس كجدِّه رسول الله (ص)، والَّذي
وصفه تعالى بقوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
كان السيِّد يلتزم بصلاة الجماعة، فإذا غاب، كلَّفنا بإقامة الجماعة في غيابه.
والحادثة الَّتي حدثت معه كانت في شهر رمضان، وكان عائداً من محاضرة ألقاها في
الجنوب، يسابق الزَّمن لمناسبة ثانية، وسائقه المتبرع مجَّاناً الحاج يوسف جنيدي،
من شباب أسرة التَّآخي الّتي يشرف عليها السيِّد، والسيَّارة كانت مستعارة، لأنَّه
لم يكن يملك سيَّارة في وقتها، فاصطدمت السيَّارة بعمود كهرباء حديديّ في منقطة
الحوش قرب مدينة صور، وهو يقرأ مجلَّة "الحوادث"، حيث كانت عادة السيِّد أن يقرأ
حتى أثناء الطَّريق، ومن لطف الله أنَّ المجلَّة خفَّفت عنه تناثر الزجاج في عينيه،
فنقل إلى صور، وأجريت له إسعافات أوليَّة، ثم أرسل إلى مستشفى المقاصد في بيروت،
فبلغنا الخبر، فاستقلّيت سيَّارة أجرة وأسرعت إلى المستشفى، فوجدته يُنقَلُ إلى
غرفة العمليَّات، فطلبت توقّفهم فتوقّفوا، وهو مغطَّى العينين، مكسور فخذه وذراعه،
فخاطبته: الحمد لله على السَّلامة، يعني السَّلامة من القضاء المحتوم. وهنا
المفاجأة، حيث سألني عن الوقت فأجبته، وكان الوقت قبيلَ غيابِ الشَّمس، فقال: اذهب
إلى النَّبعة، لا تعطِّل شيئاً من صلاة الجماعة والمحاضرة والدّعاء والدّرس، قلت:
سيِّدنا، أهذا وقتها؟ قال: لا تقعد، ارجع إلى النَّبعة. وذلك لأنَّنا كنا نتعاون
على برنامج خاصّ في شهر رمضان، وهذا البرنامج غير ما كنَّا نقوم به من تدريس وندوات
متنقّلة، حيث كان يدرّسني في شهر رمضان بعد صلاة الفجر، وأمَّا مساءً، فكان يصلّي
بنا جماعةً ويذهب إلى منزله لتناول طعامه، وأنا كذلك، ثم نعود إلى النادي الحسيني
في المبنى نفسه الَّذي فيه المسجد والمعهد الشَّرعي، فيلقي محاضرةً على الحاضرين من
المؤمنين بعد قراءة دعاء الافتتاح بصوته الروحاني، ويذهب إلى منزله، فأبقى أنا
لإعطاء درس من رسالة المرجع حول أحكام النَّاس، ثم أجلس للإجابة عن أسئلتهم مهما
كانت، في الفقه أو في العقائد أو غيرهما، ولذا طلب مني الرجوع إلى النبعة لأجل
الاستمرار في البرنامج، وقد فعلت...
وذات يوم، وبعد عقود من الزمن، أخبرت بعض مَنْ يحضرون دروس بحث الخارج ليعرفوا ذلك،
وأمَّا زملائي الَّذين كانوا في المعهد الشَّرعي في وقتها، فقد عرفوا ذلك قولاً
وعملاً.
وكان السيِّد أينما وجد انتشر المؤمنون الواعون، ولما كان منفتحاً على العالم كلّه،
انفتح الجميع عليه، فلم تبق حركة إسلاميَّة إلَّا وأخذت من فكره وسعت للّقاء به، من
عرب وغيرهم، وهذا الأمر أزعج أهل الاستكبار، فقرَّروا التخلّص منه، وجرتْ محاولاتٌ
عديدةٌ للقضاء عليه وإسكاته، وكانت أكبر تلك المحاولات مجزرة بئر العبد، والَّتي
اشتركت فيها شياطين الغرب مع شياطين العرب، بل وشياطين الدَّاخل أيضاً، وأنجاه الله:
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ
بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الزمر:
36].
ولما رأوا أنهم فشلوا في القضاء عليه جسديّاً، حاولوا إغراءه بالمال، على القاعدة
المعروفة: "أطعم الفم تستحِ العين"، إلَّا أنَّ السيِّد كان أكبر من ذلك، لأنَّ
الدنيا عنده لا تساوي شيئاً، ألم يقل جدّه أمير المؤمنين (ع): "دنياكم هذه أزهد
عندي من عفطة عنز"؟! وهو تربَّى على تلك المبادئ، فأتوه من باب آخر لكسره
وإسكاته، وكيف يسكت، وهو يرى البدع والخرافات والغلوّ تنتشر، وهو حامل لواء الحقّ
والحقيقة: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ
وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحجّ: 38].
{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ
فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الأَمْثَالَ}[الرَّعد: 17].
هذه شهادتي، وقد عايشته اثنين وأربعين حولاً، وما زلت أتابع عملي في الإجابة عن
أسئلة النَّاس في مكتبه الشَّرعي.
اللَّهمَّ اشهد أني فعلت ما أمرتني به، حيث قلت: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ
وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ
غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ
تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: 135].