الإمام محمَّد بن عليّ الباقر (ع)، هو الإمام الّذي استطاع في مرحلته
أن يملأ العالم الإسلاميَّ علماً، ويفتحَ عقولَ النّاسِ على الإسلام في حقائقه
وأسراره، ويقدّمه بأصالته وقيمه.
وقد عاش مع أبيه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) خمساً وثلاثين سنةً، وكان
يعيش كلّ آفاق أبيه في كلِّ خصوصيّاته وفي كلّ قيمه، لأنّه كان الإمام الّذي عاش مع
الله، وعاش مع النّاس، وملأ الحياة الإسلاميّة علماً.
وقد ذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه "الصّواعق المحرقة" - وهو من الّذين لا يؤمنون
بإمامة الإمام الباقر - في تفسير كلمة الباقر: "سُمّي بذلك مِنْ بَقر الأرض، أي
شقَّها وأثار مخبآتها ومكامنها" . نعم، فالإمام (ع) أظهر من مخبآت كنوز المعارف
وحقائق الأحكام والحكم واللّطائف ما لا يخفى إلَّا على منطمس البصيرة، أو فاسد
الطويّة والسّريرة.
وقيل فيه أيضاً: "هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه" .
وعن عبد الله بن عطاء المكّيّ: "ما رأيت العلماء عند أحدٍ قطُّ أصغر منهم عند
أبي جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم
بين يديه، كأنَّه صبيٌّ بين يدي معلّمه" .
وقال ابن شهرآشوب في المناقب: "كان أصدقَ النّاس لهجةً، وأحسنَهم بهجةً، وأبذلهم
مهجةً" ، "وكان يتصدَّق كلّ جمعةٍ بدينار، وكان يقول: الصَّدقة يوم الجمعة تُضاعَف؛
لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيّام" .
وقال المفيد: "كان ظاهرَ الجود في الخاصّة والعامّة، مشهور الكرم في الكافّة،
معروفاً بالتفضّل والإحسان، مع كثرة عياله وتوسّط حاله" .
وفي إطارٍ آخر، كان الإمام الباقر (ع) إمام المرحلة الثّقافيّة في عصره، فقد قال
المفيد في الإرشاد: "روى عن الباقر معالمَ الدّين، بقايا الصّحابةِ ووجوهُ
التّابعين ورؤساءُ فقهاءِ المسلمين" .
ولو درسنا التّراث الإسلاميّ المتنوّع في المرحلة التي عاشها الإمام الباقر، لرأينا
أكثر العلماء والمثقّفين، سواء كانوا في الفقه أو في الكلام أو في التّاريخ أو في
الأخلاق، قد رووا عنه. وهو الّذي أسَّس المدرسة الإسلاميّة الّتي ورثها عنه ابنُه
الإمام جعفر الصّادق (ع)، وكان يهتمّ بتلامذته ليصبحوا في مستوى علميّ مرموق. ولذلك،
كان من وصيَّته لولده الإمام جعفر الصّادق (ع): "أوصيك بأصحابي خيراً"، وأجابه
الإمام الصّادق(ع): "جعلت فداك، والله لأدعنَّهم، والرّجل منهم يكون في المصر فلا
يسأل أحداً" .
وقد سئل الباقر (ع) عن الحديث يرسله ولا يسنده، أي يذكر الحديث عن رسول الله (ص) من
دون سندٍ، فيرسله مباشرةً إلى رسول الله، فيقول: "قال رسول الله"، ولا يقول: رويت
عن فلانٍ عن فلانٍ عن فلان، كما هو شأن الرّواة؛ فقال (ع): "إذا حدَّثتُ بالحديث
فلم أسنده، فسندي فيه أبي عن جدّي عن أبيه عن جدّه رسول الله عن جبرائيل عن الله عزَّ
وجلَّ" .
وقد قال الشّاعر:
ووالِ أناساً قولهُم وحديثُهم روى جدُّنا عن جبرائيل عن الباري
وكان الإمام (ع) يريد من المسلمين أن يتوحَّدوا، وأن يتحابّوا ويتواصلوا، ولم يرد
لهم أن يتخاصموا، بل أن يتحاوروا عندما تختلف وجهات النّظر فيما بينهم. وفي
الرّواية عنه قال: "إيّاكم والخصومة - يعني إيّاكم أن يخاصم أحدٌ منكم الآخر -
فإنَّها تفسد القلب - لأنّها تخلق في داخله الحقد - وتورث النّفاق" ، لأنها تجعل
الإنسان يقول ما لا يعتقد.
ويقول (ع)، وهو يريد للأرحام أن يتواصلوا: "إنَّ أعجل الطّاعةِ ثواباً صلة الرّحم،
وإنَّ القوم ليكونون فجّاراً - يعني لا يطيعون الله كما يجب أن يطاع - فيتواصلون
بينهم، فتُنمى أموالهم ويثرون" ، بمعنى أنَّ صلة الرّحم تنمّي المال وتوسِّع
للإنسان رزقه.
وقال (ع): "ما من شيءٍ أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ من أن يُسأل"، "وما يدفع
القضاء إلَّا الدّعاء" . كان (ع) يشجِّع النّاس على أن يدعوا الله في كلِّ
أمورهم، فإذا نابت الإنسان نائبةٌ، أو أصابته مصيبةٌ، أو عاش همّاً معيَّناً، فإنَّ
عليه أن يجلس بين يدي الله ليدعوه، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أراد للنَّاس أن يدعوه،
لأنَّ الدّعاءَ يمثّل العلاقةَ الحميمةَ بين الإنسان وربّه {وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:60]...
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 3 ذو الحجّة 1430 ه/ الموافق: 20 تشرين الثّاني
2009م.
***
الصَّواعق المحرقة، ابن حجر العسقلاني، ص 305.
الصَّواعق المحرقة، ص 304.
الإرشاد، الشّيخ المفيد، ج2، ص 160.
بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 46، ص 215.
بحار الأنوار، ج 46، ص 294.
الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص 166.
الإرشاد، ج2، ص 157.
الكافي، ج1، ص 306.
بحار الأنوار، ج46، ص 288.
بحار الأنوار، ج75، ص 186.
بحار الأنوار، ج71، ص 134.
ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج2، ص 870.