إنَّ عمر بن سعد والحرّ بن يزيد الرياحي كانا في موقعٍ واحد؛ الحرّ
إنسان يملك قوَّة العشيرة وقوّة المركز وكان في الموقع الأمويّ، وانطلق، وكان أوَّل
إنسان ينطلق من أجل تأخير الحسين (ع)، ومن أجل أن يقف بينه وبين الانطلاق في
مهمَّته ودوره الرسالي. وعمر بن سعد كان أيضاً في الموقع الأمويّ، وكان أيضاً
إنساناً له مكانته في المجتمع، لأنَّ أباه سعد بن أبي وقَّاص كان من الأشخاص
الَّذين لهم مكانتهم بين المسلمين، وكانت مكانة هذا الإنسان امتداداً لمكانة أبيه.
ثمّ كانت حرفة عمر كحرفة الحرّ أيضاً، فكما كان الحرّ قائداً من الجيش، كان هو
قائداً للجيش كلِّه، وتحرّك الاثنان، وكان كلّ منهما يحمل في قلبه الاحترام
والتقدير لأهل البيت، فالحرّ كان يحمل التَّقدير والاحترام للحسين ولأهل البيت (ع)،
نعرف ذلك من خلال موقفه عندما تجادل مع الحسين (ع) في الكلام، وقال له الحسين (ع):
"ثكلتك أُمّك"، فسكت الحرّ ولم يجب على ذلك بشيء، فقد كان يحترم الحسين ويعرف مكانة
أُمّه، وفي الوقت نفسه، عندما أراد الحسين (ع) أن يصلّي، فإنَّه صلَّى مع الحسين
(ع) جماعة، وهو في الموقع المقابل للحسين.
وكان عمر بن سعد يحترم الحسين (ع) ويعظّمه ويقدّره أيضاً.
إذاً، كانا معاً في الموقع نفسه، في المركز نفسه، في التعاطف نفسه مع الحسين (ع)،
في الطموح نفسه للمستقبل؛ الحُرّ إنسان طامح للمستقبل، وعمر كذلك، وكلّ منهما يريد
أن يتفادى المعركة. كان عمر بن سعد يجرِّب بكلّ ما أمكنه من التجارب والوسائل
لتفادي المعركة مع الحسين (ع)، والحرّ كان يفكّر في ذلك أيضاً.. كانا طامحَين
للمستقبل، ويريدان أن يربحاه من دون خسارة في مواقف مضادَّة للحسين (ع)، وفيما
تذكره السيرة الحسينيَّة عن عمر بن سعد، أنّه جرَّب الكثير في هذا السبيل، سبيل
تفادي المعركة، ولكن عبيد الله بن زياد لم يقبل.
ووقف الاثنان أمام التجربة؛ عمر بن سعد حاول أن يحلَّ القضيَّة بطريقة سِلميَّة،
ولكنّ عبيد الله بن زياد بعث إليه: إمَّا أن تعمل بأمرنا وإمّا أن تعتزل. وقف أمام
هذا الخيار المرير، والرَّسول يقول له حدِّد موقفك، وعاش الصِّراع كأعنف ما يكون
الصِّراع، ويقال إنّه تلفَّظ بأبيات يجسّد فيها هذه الحيرة:
أأترك ملك الرّيّ والرّيّ مُنيتي أم أرجع مأثوماً بقتل حسينِ
فكان يعيش الصِّراع في نفسه؛ الصِّراع بين طموحه وآخرته، والصّراع بين ما يعتقده
وما يريد أن يعيش له، والرسول يلاحقه حدِّد موقفك!
عند ذلك، حدّد موقفه بأن يسير في خطِّ الانحراف إلى النهاية، ليكون له مُلْك الريّ،
وبعد ذلك يتوب بعد سنة أو سنتين، فيحصل على الدنيا والآخرة. هكذا كان يفكِّر، وسقط
أمام تجربة المطامع وأمام تجربة المنافع المستقبليَّة أو الطموح المنحرف.
أمّا الحرّ، فكان يتحرّك على أساس أن تنتهي المعركة إلى ما انتهت إليه، وجاء
ليتأكَّد، وقال لعمر بن سعد: "أمقاتلُ أنت هذا الرَّجل؟ قال: إي والله، قتالاً
أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي" . فسأله سؤالاً ثانياً: أليس هناك مجال لحلّ
سلمي للقضية؟ وكان جواب عمر: إنَّ عبيد الله بن زياد لا يرضى بذلك!
عند هذه اللّحظة، بدأ الصِّراع العنيف يعتمد في نفس هذا الإنسان كأعنف ما يكون،
لأنّه شعر بأنَّ القضيَّة لا تحتمل التأخير، لأنَّ المعركة على الأبواب. ووقف هذا
الإنسان يصارع أهواءه، ويعيش لحظات حاسمة؛ إنَّه الصراع بين الحقّ والباطل، بين
المنفعة والأريحيَّة، بين مستقبل الدنيا ومستقبل الآخرة، وتحوَّل الصِّراع من صراع
نفسي إلى صراع يؤثّر في جنّته التي يبغي، فأصبح يرتجف ويرتعد كما ترتعد السّعفة،
وحدّد موقفه بعد ذلك، ونجح في الامتحان، عندما قال للمهاجر بن أوس، وقد قال له:
ويحك لماذا ترتعد؟ والله لو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة لما عدوتُك. قال: "إنّي
أُخيِّر نفسي بين الجنَّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً، ولو قُطِّعت
وأُحْرقت" . ونجح في الامتحان، وأعطاه الحسين (ع) الوسام الَّذي يحدِّد لنا فيه
معنى الحريّة: "ما أخطأت أمُّك إذ سمَّتك حرّاً، فأنت والله حرٌّ في الدّنيا، وسعيدٌ
في الآخرة" ، ليحدّد لنا الحسين (ع) أنّ الحريّة لا تأتي من الخارج، إنَّما تنطلق
من داخل الإنسان، عندما يستطيع أن يقول لنفسه لا، وأنْ يقول لنفسه نعم، حيث تفرض
عليه الرِّسالة أن يقول لا أو نعم.
تلك هي الحريَّة في مفهوم الإسلام؛ أن تكون حرّاً في داخل نفسك، تملك الموقف في
داخل نفسك، قبل أن تكون حرّاً من الخارج، عندما تعطَى الحريّة من قِبَلِ الآخرين
الَّذين يستطيعون أن يسلبوها ساعة يشاؤون.
هذان الموقفان عندما نتعرَّف إليهما ونحن نستمع إلى القارئ وهو يتلو علينا سيرة
عاشوراء، هذان الموقفان يجب أن نلاحقهما في حياتنا، وأن لا نعتبرهما موقفين من
المواقف التاريخيّة التي تنقل إلينا في التاريخ، وإنّما نعتبرهما من المواقف
الحياتية التي قد تتجسَّد في حياة كلٍّ منّا.
من هنا، علينا أن نظلّ نلاحق أنفسنا، نحن الذين نسير على خطِّ الإيمان، لأنّنا لم
نقترب من المحرقة ولم نقع في التَّجربة. إنَّ علينا أن نفهم أنّه لا يكفي في
الإنسان أن يكون مؤمناً في فترةٍ من فترات حياته، ولا يكفي أن يكون الإنسان مؤمناً
وهو بعيد عن التجربة وعن الإغواء، وإنّما على الإنسان أن يشعر دائماً من خلال هذين
النَّموذجين، بأنّه من الممكن عند اقترابه من التجربة أن يسقط في الصِّراع ويسقط في
الامتحان.
لذا، فعلى كلٍّ منّا أن يعمِّق إيمانه ويعمِّق تجربته، ويظلّ يلاحق إيمانه بالتربية
والعطاء، لكي يستطيع أن يمنح إيمانه قوّة، ليتمكَّن بواسطتها من أن يثبت أمام
التجربة، لينجح في امتحان الإيمان في الدنيا قبل أن يواجه مسؤوليَّة الامتحان في
الآخرة.
هذا موقف من المواقف العاشورائيَّة الَّتي يجب أن نعيها في حياتنا، وفيما نتمثّل من
نماذج بشريّة تعيش معنا.
*من كتاب "آفاق إسلاميّة".
***