يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ
الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: 41]...
والله سبحانه وتعالى يريد أن يؤكِّد في هذه الآية، أنَّ مسألة الفساد، سواء كان
سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو أمنياً، في قضايا الحرب والسِّلم، ليست مسألة
يصيب بها الله النَّاس بشكلٍ مباشر، ولكنَّها تنطلق بحسب النّظام الَّذي وضعه الله
للكون كلِّه، وبحسب تعامل النَّاس مع الطَّاقات الموجودة في أرجائه. فالفساد، وفق
ذلك، ينطلق من خلال ما كسبت أيدي النَّاس، فهم الَّذين يأخذون بعناصر الفساد
الموجودة في المجتمع حتَّى يفسدوا حياة النَّاس في جميع أوضاعهم وحاجاتهم
وتطلّعاتهم وخططهم.
فالله تعالى يقول إنَّ هؤلاء النَّاس يتألمون عندما تفسد حياتهم بأنواع الفساد،
ولكنَّ هذه الآلام التي يعانونها لم يفرضها الله عليهم، بل هم فرضوها على أنفسهم،
باختيارهم الأسباب الَّتي تنتج الفساد حتماً. ولهذا، فإنَّ كثيراً من الناس عندما
يواجهون هذا الاختلال في أوضاعهم، يعتبرون أنَّ الله أنزل عليهم ذلك بشكل مباشر،
ولكنَّ الله تعالى يبيّن أنَّ لحياة الناس نظاماً، وأنَّ لكلِّ شيء قدراً وسبباً،
وذلك في قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ - أي أنَّ الناس هم الَّذين أوقعوا
أنفسهم في هذا الفساد - لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ}، لعلَّهم إذا عرفوا النَّتائج، وعانوا الآلام المترتبة،
يغيّرون طريقتهم وأفعالهم وأعمالهم.
وقد جاء عن رسول الله (ص)، أنَّ العذاب يعمّ النَّاس كلّهم، حتى لو لم يكونوا هم من
مارسوا الفساد، إذا كانوا لا ينكرون على المفسدين ما يقومون به من فساد وضلال. يقول
(ص): "إنَّ المعصية إذا عَمِل بها العبد سرّاً - إذا شرب الخمر، أو مارس بعض
المعاصي بشكل سرّيّ - لم تضرّ إلَّا عاملها، وإذا عَمِل بها علانيةً - كالَّذين
يبيعون الخمر، أو يشيعون الفاحشة والرَّذيلة، أو يعينون الظَّالم على ظلمه أو ما
إلى ذلك - ولم يغيّر عليه - لم يبادروا إلى إنكار ذلك عليه - أضرَّت بالعامّة" .
ويقول النبيّ (ص): "إنَّ الله لا يعذِّب العامَّة بعمل الخاصَّة، حتى يروا
المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك، عذَّب الله
العامَّة والخاصَّة" .
وفي مسألة الاختلافات في الأمّة، يقول (ص): "ما اختلفت أمَّة بعد نبيِّها إلَّا
ظهر أهل باطلها على أهل حقِّها" . فنحن نعيش الخلافات في الواقع الإسلاميّ كلّه،
سواء الخلافات المذهبيَّة أو العرقيَّة أو الحزبيَّة أو ما إلى ذلك، بفعل
العصبيَّات التي استحدثناها، بحيث يستغلّ أهل الباطل هذا الصِّراع الدَّاخليَّ الذي
يدفع المسلمين إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، ويكفّر بعضهم بعضاً، ما يفسح في المجال
أمام أهل الباطل للسَّيطرة على الواقع كلّه، لأنّ أهل الحقّ مشغولون بعصبيَّاتهم
وخلافاتهم.
إنَّنا مسؤولون في هذه الحياة الدنيا، كلٌّ بحسب قدرته وطاقته، عن مواجهة الفساد في
الأرض، حتى تعمر الأرض بأهلها، وحتى نكون في مستوى الدَّور الَّذي أوكله الله
سبحانه وتعالى إلينا في بناء الحياة بكلِّ ما يرفع مستوى الإنسان فيها.
* من خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 18 شوَّال 1429هـ/ الموافق: 17 تشرين الأوَّل
2008م.