كيف نحمي المجتمع من ظاهرة الانتحار؟!
الانتحار واحدة من الظواهر التي نسمع عنها، وربما عندما تحصل تهزّ مشاعرنا وأحاسيسنا، عاطفةً أو حنقاً أو غضباً، وكلّ منا يعبر بطريقته عن ذلك الحدث، تبريراً أو رفضاً أو ربما قبولاً، وأيضاً مع ذلك النوع من الأحداث تثور أسئلة، لها علاقة بطبيعة النظرة الدينيَّة عموماً، والإسلاميّة خصوصاً فيما يعنينا، إلى الانتحار والمنتحر، وتتعقَّد أحياناً بعض الأفكار في أذهاننا، بحيث يقف الإنسان محتاراً كيف يمكن أن يواجه هذه الأحداث.
ظاهرةُ الانتحارِ والتديّن!
لقد جعلنا الله تعالى في هذه الحياة لنعيش فيها، وعندما نعيش فيها، لا بدَّ أن نعترف بما يجري فيها، سواء كان ما يجري فيها إيجاباً أو سلباً، أمّا أن نغضّ الطرف عن ذلك، ونعتبر أنّنا أمام أمر لا يعنينا، فقد نجد أنّ هذه القضايا قد تزحف أحياناً إلى أقرب المقرّبين إلينا من دون أن ندري. ولذلك، لا بدَّ بدايةً أن نعترف بوجود مثل هذه الظّواهر السلبيَّة، سواء في مجتمعاتنا الخاصَّة فيما ننتمي إليه، كأتباع دين أو مذهب أو خطّ أو ما إلى ذلك، وفي الدّائرة الدينيَّة أيضاً، فنحن نسمع أنّ بعض المنتحرين كانوا يصلّون ويصومون ويؤدّون واجباتهم الدّينيّة وأقدموا على ذلك، هذا الأمر فعليّاً ليس حكراً على جماعة دون جماعة، ولا على أهل دين دون أهل دين آخرين، ولا على غير المتديّنين، والمتديّنون آمنون منه.
نعم، التديّن مدماك أساس في العلاج، وفي وضع العقبات أمام الوصول إلى مثل هذا السلوك الّذي يدلّ فقط على أزمة نفسيّة لم يستطع الإنسان أن يعالج أسبابها، وبالتّالي، عندما نكون أمام فعل من هذا النّوع، نحتاج إلى أن نفكِّر بطريقة أوسع من الدّائرة التي نفكِّر فيها، لأنَّ بعضنا يسارع ويقول إنّ فلاناً المنتحر هو غير متديّن، لأنّه لو كان متديّناً لما أقدم على هذا النوع من الانتحار، والبعض يلقي باللائمة على الوضع السياسي، ويحمّل السياسة الأسباب. ولكن هل هذا السلوك صحيح أو دقيق؟ طبعاً لا شكّ أنّ السياسة تدخل، والعلاقات الاجتماعيّة تدخل، والإيمان يدخل، ولكن عندما نوجه تبريراتنا في اتّجاه معيّن، فنحن قد نقوم بفعل خاطئ تجاه حماية مجتمعاتنا من هذا النوع من السلوك، الّذي هو عدوان على الذات أوّلاً، وعدوان على الحياة ثانياً، وجريمة بحقّ الذات أوّلاً وأخيراً، وجريمة بحقّ الحياة كذلك.
الحاجةُ إلى شبكةِ أمان
نحتاج أن نفكّر بطريقة واسعة لنرصد ما الّذي يمكن أن يحقّق لنا شبكة أمان من هذا المرض النفسي الّذي يوصل صاحبه إلى أن ينهي حياته... وهنا الكلّ يتحمّل المسؤوليّة، كلّ بحسب موقعه ومسؤوليّاته، لأنّنا عندما نتحدَّث عن شبكة أمان تمنع الإنسان من أن يقدم على إنهاء حياته، معنى ذلك أنّ هذه البرمجة الدّاخليّة النفسيّة والعصبيّة والفكريّة قد أصبحت تناقض أصل الخلقة، وتناقض الغريزة الّتي وضعها الله في الإنسان في حبّ حياته والتمسّك بها والدّفاع عنها...
مسؤوليّةُ المجتمع
وهنا، يمكن أن نتحدّث عن ثلاثة أنواع من المسؤوليّات، منها ما له علاقة بما قبل الوقوع بمثل هذه الحالات، ومنها ما له علاقة عندما يقع حدث الانتحار، وهناك مسؤوليَّة ما بعد الحدث.
ما قبل، نحن نحتاج دائماً إلى أن نرسي في الحياة، على أنواعها، ما يجعل الإنسان لا يصل إلى اليأس في وجوده، ولا إلى مرحلة الشعور بعدم الفائدة من وجوده... ويجب أن نحفّز الإنسان على مواجهة التحدّيات...
ويعد أن يحدث الحدث ويصل الخبر، علينا التعاطي بمسؤوليَّة مع الحدث، فلا يجب أن يكون الخبر الخبرَ الأول في الصحيفة، ولا أن نمجِّد الانتحار، ولا أن نعرض رسائلهم وصورهم، هذا المنتحر سيكون بين يدي الله، والله هو الّذي يتكفَّل به، فلا نبرّئ فعل الانتحار، ولا نمجِّد الانتحار، فأن تفسّر شيئاً يعني أنّك تبرّره، فلنتّق الله في عالم الإعلام والسوشيال ميديا...
بعد الانتحار، هناك الأسرة والأهل والزّوجة والأولاد، هؤلاء يحتاجون إلى احتضان وإلى تواص بالمرحمة، ليخرجوا من العقدة الّتي زرعت فيهم...
والخطاب الديني عليه مسؤوليَّة، وعلينا في هذه الأزمات أن نكثّر من الحديث عن ضرورة صلة الإنسان بالله، أن نقرّب الناس إلى الله أكثر، ونهتمّ بالجانب العبادي أكثر، والابتعاد عن الاستغراق في السياسة...
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
معركةُ تصحيحِ المسار
في فلسطين الّتي هي جريمة هذا العصر الكبرى، والشاهد المستمرّ على جور النظام العالمي الذي تتحكّم به مصالح دولٍ معدودةٍ في مقابل مصالح المليارات من البشر، الأمر الذي يجعل الصّراع في فلسطين - وهذا ما يجب أن نتذكَّره دائمًا - صراعًا على تصحيح المسار، لتكون العدالة هي التي تحكم القوّة وليس العكس.
إنَّ الجرائم المتنقّلة التي يرتكبها العدوّ هي الفعلُ، وكلُّ ما يقومُ به الشَّعب الفلسطيني هو ردّ الفعل الطبيعيّ الذي يقوم به أيّ شعبٍ تُحتلُّ أرضُه، ويُطرَد منها، ويُمنع من العودة إليها. وفي المناسبة، لا بدّ من التنويه بالعمليّات النوعية التي يقوم بها فلسطينيّون أبطال، يضربون عمق الكيان وقلبه، في وقتٍ يعيش هذا الكيان اهتزازات داخليّة غير مسبوقة.
ومن نافل القول إنَّ هذا الاهتزاز يجب أن يشكّل عبرةً لكل الذين كانوا يُراهنون على ثبات هذا الكيان، ليعقدوا صفقاتٍ هنا أو ليعقدوا معاهدات تطبيعٍ أو سلامٍ مزعومٍ يُراهنون من خلالها على قوَّة الكيان الصهيوني لحفظ مواقعهم، فيما هذا الاهتزاز يأتي ليعبِّر عن عجز المشروع الصهيوني من خلال فشل قياداته في تحقيق أهدافه في الحروب المتعدِّدة التي شنَّتها على لبنان وفلسطين منذ العام 2006.
التَّطبيعُ يخدمُ العدوّ
وهذه المنطقة التي شكّلت مجمع الرسالات السماويَّة، ولا سيّما المسيحية والإسلام، وشكّلت بقيمها وتاريخها نقطة الإشعاع للعالم، لا ينبغي لها أن تُقاد ذليلة بسياسات ليس همّها سوى إراحة هذا الكيان الهجين والسرطانيّ، ولا بدَّ من مراجعة هذه السياسات التي أثبتت التجارب أنها تزيد من شراسة هذا الكيان، وتزيد من أطماعه التي لا حدود لها، ولن تأمن منها حتى دول التطبيع، مراجعة تقتضي إعادة بناء الجسور بين الدول العربية والإسلامية، لأننا لم نجنِ من الانقسام سوى الدّمار والمزيد في إفقار دول المنطقة وتأزيم مستقبل شعوبها.
لقد اختصرت فلسطين كلّ تاريخنا، بكلّ مآسيه ومشاكله وأزماته، لتكون السياسات الكبرى في المنطقة هي سياسات حماية الكيان الصهيوني، من خلال العمل على حصار كلِّ القوى الممانعة والمقاومة لمشاريع هذا الكيان، ومنعها من نُصرة الشّعبِ الفلسطينيّ الَّذي يُذبح في كلّ لحظة، وهي سياسات تهدف إلى شلِّ حركة الشعوب التي تتَّخذ فلسطين بوصلتها...
إنَّ الحصار الحقيقي الذي يُراد فرضه على المنطقة، لا تمثّل الشّعوب بالنِّسبة إليه سوى أرقام في مصالحه الكبرى، وهو ما ظهر في كيفيَّة تعامل دول كبرى مع مأساة الزلازل الأرضيَّة الأخيرة في المنطقة.
قد يفكّر البعضُ في أنَّ مدَّ اليد للدّول الكبرى، والرضوخ لإملاءات المؤسّسات الاقتصادية الخاضعة لها، سيحلّ مشاكلنا الاقتصادية والسياسية، وسيؤمِّن العيش الرغيد لأبنائنا في مدى المستقبل، ولكنّ التجارب علّمتنا أنَّ الحلاوة التي نأخذها من ذلك ليست سوى ملعقة عسلٍ لا تلبث أن تزول حلاوتها سريعًا، لتعود تلك السياسات لتفرض علينا أن نكون أذلّاء سياسيًّا واقتصاديًّا، وتمنعَنا من أن نطبّق حقيقةً كلّ شعارات الحرّيَّة والاستقلال والسيادة وما إلى ذلك.
التّنازلُ لمصلحةِ البلد
أمّا في لبنان، فمن نافل القول إنّ استقامة عمل الدولة يحتاج إلى ملء كلّ الفراغ في مواقع الدولة، ولكن نقول للسياسيّين: وأنتم تبحثون في اسم هذا الرئيس أو ذاك، وتتنازعون على مواصفاتٍ هنا وهناك، حبّذا لو أنّكم - ولمرّة واحدة - اختبرتم إنسانيّتكم، وانتخبتم لهذا الشّعب من يداوي آلامه، وأن تخفّفوا عنه كيدكم، وأن تتنازلوا لمصلحته، وأن تثبتوا في إرادتكم أمام الضغوط لأجله، بدلًا من أن تستخدموا ألمه في اللعب على شروط عيشه، لأجل إنضاج طبخة هنا وصفقة هناك.
إنَّ القيمة الحقيقيَّة لأيّ سياسة أو سياسيّ هي بمقدار ما تقترب ويقترب من الناس، لا بالكلام المعسول، وإنّما بالمواقف التي تبرز فيها معادن الصّدق والأمانة والإخلاص والسيادة والاستقلال، في زمنٍ نحتاج إلى شيءٍ من كلّ ذلك، لكي نتجاوز هذه المحن والأزمات التي يطبق فيها الخارج على الداخل، ويخضع فيها الداخل لإملاءات الخارج، وربّما لأمنياته؛ والله من وراء القصد.
***