عليّ(ع).. نور الرّسالة وسيف الإسلام

عليّ(ع).. نور الرّسالة وسيف الإسلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة آية الله العظمى السيّد محمَّد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 13 رجـــب 1418هـ/ الموافق:14  تشرين الثاني 1997م، بحضور حشدٍ من الشَّخصيات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيّة، وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الخطبة الأولى

في هذا اليوم، وُلد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، وفتح عينيه في أقدس مكان في الأرض؛ في الكعبة، حيث كان أوّل مولودٍ في بيت الله وآخر مولودٍ فيه، فلم يولد في الكعبة أحد قبله أو بعده. لقد كانت ولادته في الكعبة الّتي تمثِّل موقع القداسة لكلِّ المسلمين في الأرض، حيث أراد الله لهذا البيت أن يكون بيت الطّهر والقداسة والعبادة، وأن يتَّجه النَّاس إليه بصلاتهم وفي طوافهم.

عليّ(ع) كعبة العقل والرّوح

إنَّ ولادته(ع) في هذا البيت تعني أنَّ عليّاً(ع) يأخذ من الكعبة رمزها، فهو الكعبة في العقل يتَّجه النّاس إليه ليأخذوا من عقله عقلاً لهم، وهو الكعبة في الرّوح، فإنَّ النّاس ينطلقون إلى روحانيَّته في كلِّ علاقته بربّه، ليأخذوا من روحانيّته روحانيَّةً يعيشون فيها مع الله، وهو الكعبة في الجهاد يتطلَّع المجاهدون إليه فيستقبلون حياته ليروا أنَّ هذا الإنسان العظيم كان إنسان الجهاد في الكلمة والمال والسَّيف والعلم، فقد كان مجاهداً في سبيل الله بكلّ طاقاته، لأنّه أعطى كلّ ما عنده لله تعالى.

إنّنا عندما نستقبل ذكرى أمير المؤمنين(ع)، فإنّنا نستقبله فيها من أجل أن نتعلَّم منه ونكبر به ونهتدي به، ومن أجل أن تكون ولايتنا له ـ وهو وليّ الله ـ ولاية فكر ومحبَّة وعمل في خطّه، لأنه أراد لنا أن نعمل معه وأن نجاهد معه، وأن نكون المنفتحين على الله معه. إنّنا عندما ندرس حياته، فإنَّ حياته بدأت في الكعبة كما ذكرنا، ثم انطلقت مع رسول الله(ص)، فكانت نشأته على يديه، وكانت تربيته من خلاله في كلّ ما انطلق فيه، فهو صنع رسول الله(ص) عقلاً وروحاً وخُلُقاً وخطّاً ومنهجاً في الحياة. تعالوا نستمع إليه(ع) كيف يحدِّثنا عن نفسه في "نهج البلاغة"، فيقول(ع):

"أنا وُضعت في الصّغَر بكلاكل العرب ـ كناية عن كِبارهم ـ وكسرت نواجم قرون "ربيعة" و"مضر" ـ استطعت أن أحطِّم عنفوان هؤلاء الكافرين الَّذين وقفوا ضدّ الإسلام ـ وقد علمتم موضعي من رسول الله(ص) بالقرابة القريبة ـ فأنا ابن عمّه ـ والمنزلة الخصّيصة ـ فأنا أقرب النّاس إليه في حياته ـ وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويَكْنُفُني إلى فراشه ـ يرقد معه في الفراش ـ ويُمِسُّني جسده ـ يعتنقه وهو طفل كما تعتنق الأمّ والأب ولدهما عندما ينام إلى جانبهما ـ ويُشِمُّني عَرْفَه ـ عطره ورائحته ـوكان يمضغ الشّيء ثم يُلْقِمُنِيه، وما وجد لي كَذْبةً في قولٍ ـ فقد رآني الصَّادق لأقوالي معه ـ ولا خَطْلَةً ـ خطأً ـ في فعلٍ".

ثم يحدِّثنا الإمام عليّ(ع) عن تربية رسول الله(ص) من قِبَل الله تعالى، فيقول(ع): "ولقد قرن الله به ـ بالنبيّ ـ من لَدُن كان فطيماً، أعظم مَلَك من ملائكته، يَسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليلهُ ونهارهُ ـ بحيث كان هذا المَلَك الَّذي اختاره الله لتربية رسوله، يعيش معه في اللّيل والنّهار ليربّي له فكره وعاداته وأخلاقه وكلّ أعماله ـ ولقد كنتُ أتّبعه اتّباع الفصيل ـ ولد النّاقة ـ أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلِّ سنة بـحراء، فأراه ولا يراه غيري ـ لأنَّه كان يأخذ عليّاً معه إلى الغار ليتعبَّد لله ويتأمَّل في عظمته، وكان عليّ معه يتأمَّل بما يتأمَّل به، ويتعبَّد بما يتعبّد به ـ ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة. ولقد سمعت رنّة ـ صرخة ـ الشّيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشّيطان قد أَيِسَ من عبادته، إنك ـ يا عليّ ـ تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ، ولكنَّك الوزير وإنّك على خير"..[1].

صفات أهل البيت(ع)

ثم يقول أمير المؤمنين(ع) وهو يصوِّر أهل البيت(ع) في صفاتهم الرساليَّة وفي قوَّتهم في ذات الله سبحانه، فيقول: "وإنّي لمن قومٍ لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم ـ صفتهم ـ سيما الصِّدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عُمَّار اللّيل ـ بالعبادة ـ ومنار النّهار ـ بإضاءة الطَّريق للنّاس ـ متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سُنَنَ الله وسُنَنَ رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون ـ لا يخونون ـ ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل"[2].. يعملون وهم يفكّرون في الجنَّة، وذلك بأن ينطلق بهم عملهم إلى الجنّة في نهاية المطاف. وهذه اللّفتة العلويّة الرّائعة تختصر للإنسان المؤمن كلَّ حياته.. أيّها الإنسان المؤمن، لتكن الجنَّة نصب عينيك في كلّ حياتك، إذا تكلَّمت، فليكن كلامك مؤدِّياً بك إلى الجنَّة، وإذا تعاملت، فليكن عملك مؤدّياً بك إلى الجنَّة، وإذا أردت أن تنشئ علاقة بإنسان، فلتكن علاقة تقرّبك إلى الجنّة، وإذا أردت أن تقف موقف تأييد أو رفض، فليكن الموقف الّذي يسير بك نحو الجنّة..

ويتحدَّث(ع) عن آل محمَّد(ص)، كأنّه يريد أن يقول لنا: أيُّها النَّاس، اتّبعوهم لأنَّهم "كسفينة نوحٍ، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"[3]، اتبعوهم في هذه الصّفات، وعظّموهم من أجل هذه الصّفات، ليست علاقتكم بآل محمد علاقة نسب، ولكنَّها علاقة رسالةٍ وخطٍّ ومنهج وعمل، فيقول(ع): "هم ـ آل محمد ـ عَيْش العِلْم وموتُ الجهل ـ فالعلم يعيش بهم من خلال ما يعلّمونه للنّاس، والجهل يموت عندما يتحركون في السّاحة لأنهم يطردون بعلمهم كلّ جهل ـ يخبركم حِلْمُهُم عن عِلْمهم ـ لأنَّ الإنسان العالِم يبقى الإنسان الهادئ في طبعه ومزاجه، لأنَّه ينظر إلى الأشياء والمشاكل والتحدّيات من موقع العلم والحقيقة ـ وظاهرهم عن باطنهم ـ لأنَّ ظاهرهم لا يخالف باطنهم ـ وصمتهم عن حكم منطقهم ـ إذا صمتوا فإنّك تستطيع أن تأخذ من صمتهم الحكمة فيما يعبّر عنه صمتهم من كلِّ الأجواء الَّتي يعيشون فيها ـلا يخالفون الحقَّ ـ فهم مع الحقّ دائماً، وهذا ما عبّر عنه رسول الله(ص) عندما قال: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"[4] ـ ولا يختلفون فيه ـ لأنَّ الحقَّ واحد، فلا يمكن أن تكون هناك وجهتا نظر في الحقّ في نفسه ـ وهم دعائم الإسلام ـ لأنَّهم يمثّلون أئمَّة الإسلام وركائزه وقواعده في الفكر والرّوح والعمل ـوولائج الاعتصام. بهم عاد الحقّ إلى نصابه ـ لأنهم عاشوا في حماية الحقّ، فإذا جاء الباطل ليقتحمه، ردّوا الحقّ إلى مواقعه ـ وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدّين عقل وعايةٍ ورعاية، لا عقل سماعٍ ورواية ـ فلم يكن الدّين بالنّسبة إليهم مجرّد كلمات يطلقونها، ولكنَّه كان وعياً وعقلاً ورعاية ـ فإنَّ رواة العلم كثير، ورُعاته قليل"[5].

هذا هو حديث عليّ(ع) عن أهل بيت الرّسالة، ومن خلال ذلك نعرف أنَّ علينا عندما نلتزم أهل هذا البيت الَّذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً، أن نلتزم علمهم وحلمهم وهدايتهم، وأن نتحرَّك معهم من أجل أن يكونوا القادة لنا في حياتهم وبعد موتهم، ومن أجل أن يكونوا الهداة لنا من خلال ما تركوه لنا من مناهج الهدى. ليست علاقتنا بالنبيّ(ص) وآله(ع) مجرَّد علاقة حبٍّ ينبض به القلب، وإن كان حبّنا لهم كبيراً كبيراً، ولكنَّها الرِّسالة التي عانوا في سبيلها، والّتي عملوا الكثير من أجل أن يؤكِّدوها؛ أن نحمل رسالة رسول الله وأئمَّة الهدى في عقولنا ليكون عقلنا عقلاً رساليّاً، وفي قلوبنا لتكون قلوبنا قلوباً رساليَّة، وفي كلِّ حياتنا لتكون حياتنا حياة رساليَّة، فإنَّ الله تعالى أراد للإسلام أن يكون عيش النّاس، وأراد للنّاس أن يموتوا على الإسلام.

أوَّل المؤمنين

ولذلك، فإنَّ من لم يعِش الإسلام فكراً في فكره، وعاطفةً في قلبه، وحركةً في طاقاته، فكيف يضمن لنفسه أن يموت مسلماً في نهاية المطاف؟ كان عليّ(ع) في كلّ هذه الأجواء الإنسانَ الَّذي عاش للإسلام كلِّه منذ طفولته. عندما ندرس عليّاً(ع) منذ كان طفلاً، فإنّنا لا نجد هذا الإنسان يعيش أيّة فرصةٍ لراحةٍ في جسده أو في بيته أو في مجتمعه، كان الإنسان الَّذي عاشت طفولته الهمَّ الكبير، لم تكن طفولته(ع) في حجم طفولة الأطفال في عمره، ولكنّها كانت طفولة يعيش صاحبها الهمّ الكبير. قبل الإسلام، كان يعيش مع رسول الله هموم الإيمان وعبادة الله والتّفكير فيها، لأنَّ رسول الله عاش عمق الإسلام في أخلاقه وروحه وتأمّلاته، قبل أن يلقي الله عليه الإسلام قرآناً، وهكذا كان عليّ يتعلَّم منه.

ولذلك، عندما أراد الله لرسوله أن ينطلق بالرّسالة، خاطب عليّاً، وقال عليّ دون أن يتردّد أو يستشير أباه: "أشهد أن لا إله إلا الله"، لأنّه عاش الوحدانيّة علماً وقلباً وروحاً، "وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله"، لأنّه رأى محمّداً رسولاً قبل أن يبعثه الله بالرّسالة، ورأى فيه كلّ روح الرّسالة وعقلها وفكرها. ولذلك فقد كان إيمان عليٍّ إيماناً ناضجاً في عقله وقلبه.. وهكذا بدأ عليّ يصلّي مع رسول الله، وهو القائل: "اللّهمّ إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني بالصّلاة إلا رسول الله"[6].. وبقيت الصّلاة قرّة عينه، كان يسجد لله فيذوب مع الله، حتى إذا حرّكه شخص وهو في سجوده، خُيِّل إليه أنّه مات، وجاء بعض النّاس إلى فاطمة(ع) وقد رأى عليّاً لا حراك به، قال لها: عظَّم الله أجرك بعليّ! فقالت(ع): "كيف رأيته؟"، فذكر لها ذلك، فقالت: إنها الغشية الّتي تحدث له عندما يعيش مع الله ويناجي ربّه، وقد جاء النبيّ(ص) ورآه والتراب في جبهته من سجوده، فكنَّاه "أبا تراب"، وكانت أحبّ كناه إليه.

كان عليّ(ع) يعيش الصَّلاة لأنّه يتقوّى بالصّلاة، وقد حدَّثنا عليّ(ع) في معركة "بدر" كيف كان يقاتل وقلبه موزّع بين المعركة وبين رسول الله وهو يحمل همّه، كان(ع) يقاتل ويقاتل ثم يأتي ليطمئنّ على رسول الله ويراه ساجداً وهو يقول: "يا عليّ يا عظيم"، لأنَّ النبيّ(ص) يستمدّ القوّة من الله، وعليّ كان يستمدّ القوّة من الله، ولذلك رُوي عنه أنّه قال: "والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانيَّة، ولكن بقوّة ربانيَّة"[7].. وتلك قصَّة الصّلاة في حياتنا. عيشوها في كلّ مواقعكم، لا تهملوها أو تتهاونوا فيها أو تسهوا عنها، لا تغفلوها ولا يشغلكم أيّ شيءٍ عنها، لأنها موعدكم مع الله، وعندما يعطينا الله موعداً للّقاء معه والدّعاء إليه ولطلب حاجاتنا بين يديه، فأيّ موعدٍ تحافظون عليه أقرب وأهمّ من موعدكم مع الله؟! افتح قلبك لربّك ليفتح لك ربّك قلوب النّاس، وإذا أغلقت قلبك عن ربّك فمن الّذي يضمن لك أن تُفتح قلوب النّاس لك؟!

لذلك، نحن نقول إنَّنا نحبُّ عليّاً(ع)، ولكن من لا يحبّ رسول الله فلا يحبّ عليّاً، ومن لا يحبّ الله فلا يحبّ عليّاً، ومن لم يكن الله أحبّ إليه من نفسه ومن كلِّ النّاس، ومن لم يكن الله أقرب إليه من نفسه ومن كلِّ النّاس، فأية علاقة بينه وبين عليّ، لأنَّ عليّاً لا علاقة له بأحدٍ إلا من خلال الله! وعليّ(ع) هو كما حدَّث عنه رسول الله(ص): "لأعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ اللهَ ورسولَه، ويحبّه اللهُ ورسولُه"[8]؛ هذه المحبّة المتبادلة ما أعظمها وما أسعدها وما أروعها! أن تحبَّ ربَّ العالمين بعقلك وبقلبك وبعملك ليحبّك ربّك، فأيّة عظمة أكبر من أن تحصل على محبَّة الله الّتي هي محبَّة البقاء؟!

عليّ الحقّ والعدل

وهكذا، رأيناه ينتقل(ع) من حربٍ إلى حرب، وهو في ذلك كلّه لا تشغله حربه عن عبادته لربّه والجلوس بين يدي رسول الله ليتعلَّم منه في كلّ يوم، حتى قال(ع): "علَّمني ألف بابٍ من العلم يفتح كلّ بابٍ ألف باب"[9]. لهذا، كان عليّ الأعلم والأزهد والأتقى والأشجع والأكثر جهاداً وعملاً وعلماً، ولذلك كان المتعيّن للخلافة بعد رسول الله(ص) من قِبل الله تعالى، ولم يكن هناك أحد يملك ما يملك عليّ في كلّ ذلك، ومن هنا، أخذ رسول الله بيده في يوم "الغدير" وقال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله..."[10].

كان عليّ(ع) حقّاً كلّه، فمن أراد أن يكون مع عليّ فليكن مع الحقّ، وكان عليّ عدلاً كلّه، فمن أراد أن يكون قريباً من عليّ فليكن مع العدل كلّه، فلا يكون فيه شيء من الظّلم، وكان عليّ العلم كلّه، فمن أراد العلم من عليّ، فليكن علمه أقرب إليه من جهله. وهكذا، نلتقي بعليّ(ع) في حياته الّتي عاش فيها المعاناة؛ في حياته الّتي عاش فيها الحقّ كأوضح وكأصلب ما يكون الحقّ، كان النّاس يريدون له أن يجاملهم في الحقّ، وأن يهادنهم في الباطل، ليتحدَّث معهم بما يحبّون، حتى لو كان ما يحبّون باطلاً، ولكنّ عليّاً(ع) كان يقول: "ما ترك لي الحقّ من صديق"، أي أنَّ مشكلتي أني أقول الحقّ، وأنّ النّاس قد اعتادوا الباطل، وأنَّ هناك من النّاس من يجامل النّاس في الباطل.

وهذا ما نلاحظه في الكثير من الدَّعوات في الماضي والحاضر، عندما يأتيك النّاس ليقولوا لك: لا تصدم النَّاس فيما لديهم من خرافاتٍ وأباطيل ومن جهالات، لأنَّهم سوف يسبّونك ويلعنونك ويضطهدونك، وسوف يتَّخذون منك موقفاً سلبيّاً، وعليّ كان يراقب الله ولا يراقب النّاس. ومن يرد السَّير في خطِّ عليّ(ع)، فعليه أن يصدم الباطل بكلِّ قوّة، حتى لو كلَّفته صدمة الباطل حياته، لأنَّ الإنسان الَّذي يعيش مع الحقّ، لا بدَّ له من أن يدفع ثمن الوقوف مع الحقّ، لأنَّ المسير مع الباطل والخرافات سهل جدّاً، وقد يحملك الناس على أكتافهم، ولكنَّ عليّاً(ع) كان يقول: "قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيِه، فيدعها رأي عينٍ بعد القدرة عليها، وينتهزُ فرصتها من لا حريجةَ له في الدِّين" .[11]

عاش وعاش وعاش، وأُبْعِد عن حقِّه، وصبر من أجل مصلحة الإسلام، وتحمَّل الكثير، وواجه التحدّيات عندما حكم، ثم في الصَّباح، والفجر يطلّ في السّماء، وعليٌّ يناجي ربّه، وهو في محرابه، ضربه ابن ملجم، فشعر بأنَّ حياته كانت لله، وها هو بين يدي الله يدفع ثمن كلّ الحقّ الَّذي عاشه، ولذلك قال: "بسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، فزت وربِّ الكعبة"[12].

هذا عليّ الّذي كان يعيش الفرح الرّوحيّ في قلب المأساة.. هذا عليّ الّذي كان يعيش الحقّ في أقسى مواقعه.. هذا عليّ الّذي حمل الرّسالة كما يجب أن تُحمل، يقول لكم: "ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمريه، ومن طُعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسَداد"[13]. هذا ما يريده منّا عليّ، وهذه هي معنى ذكرى عليّ، وهذه هي معنى ولاية عليّ(ع).

يا سماء اشهدي ويا أرض اخشعي      وقرّي إنّني ذكرت عليّا

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله تعالى في كلِّ ما أوكل الله إليكم أمره، وكما قال عليّ(ع): "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلَّة أهله، فإنَّ النّاس قد اجتمعوا على مائدةٍ شبَعُها قصير، وجوعها طويل. أيّها النّاس.. إنَّ ما يجمع النّاس الرّضى والسّخط، فقد عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرّضى"[14]، فإنَّ "الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم، وعلى كلِّ داخلٍ في باطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرّضى به"[15].. لذلك، علينا أن نظلَّ في طريق الهدى، وإن كان أهله قليلين، وعلينا أن نظلَّ في طريق الحقّ والعدل، وإن كان الَّذين يتّبعونه قليلين، لأنَّ الله هو الأكبر والأعظم، فمن كان مع الله في كلّ قوله وعمله، فليس به حاجة إلى أحدٍ من الناس.

لذلك، لا بدَّ من أن ننظر إلى الأمور دائماً بمنظار الحقِّ والعدل، لتكون المسألة عندنا ماذا يُرضي الله من ذلك، وماذا يُغضب الله من ذلك، وماذا يكلِّفنا الله من مسؤوليَّةٍ أمام هذا الأمر أو أمام ذلك الأمر.. ليكن تفكيرنا دائماً في رضى الله، لأنَّ المسألة هي أن تكون حياتنا صورةً لما يحبّه الله ويرضاه، حتى نفد على الله وقد حصلنا على رضوانه في الأمور كلِّها.. وهذا ما نريد أن نعيشه في كلِّ قضايا الإسلام والمسلمين، مما يهمّنا أمره، ومما يهمّ كلّ المسلمين أمره في قضاياهم العامَّة والخاصَّة. فماذا هناك؟

تراجع النّفوذ الأميركيّ

لا يزال الصِّراع العربيّ ـ الإسرائيليّ يمرّ بأصعب المراحل على المستوى السياسيّ والأمنيّ، بفعل الوحشيَّة الصّهيونيَّة الّتي تستغلّ التّأييد المطلق لليهود من قِبَل أميركا، الَّتي تحاول الظّهور بمظهر الوقوف بشكلٍ سلبيّ ضدّ الموقف الإسرائيلي، ولكن من دون جدّيّة، فــهي لا تزال تمنع ـ بكلّ قوّة ـ عرض مسألة الاستيطان على مجلس الأمن وإدانة إسرائيل على موقفها الاستيطانيّ، وتتحرَّك للضَّغط على العرب بطريقةٍ وبأخرى.. وعلى العرب ـ والفلسطينيّين بالخصوص ـ أن يواجهوا الموقف بالوحدة والتّضامن والعزّة والكرامة في هذه المرحلة الصَّعبة في خطِّ التّحدّيات.

وعلى صعيدٍ آخر، فإنَّنا نلاحظ تراجعاً في النّفوذ الأميركيّ في المنطقة، مما قد يوحي بأنَّ الواقع السياسيَّ قد بدأ يتمرَّد على محاولة السَّيطرة الأميركيَّة على السَّاحة العربيَّة والإسلاميَّة، وذلك يعود إلى عدَّة عوامل، أهمّها:

أوّلاً: فشل مؤتمر "الدّوحة" في الدائرة العربيّة، بامتناع أكثر الدّول العربيّة والجامعة العربيّة عن حضوره، احتجاجاً على حضور إسرائيل فيه، وعلى الموقف الإسرائيلي ضدّ العرب في حقوقهم المشروعة.

ثانياً: النّجاح المتواصل على صعيد تعزيز العلاقات الإسلاميَّة بين إيران وجاراتها العربيَّة، وبخاصّة السعوديّة، الَّتي صرّح وزير خارجيّتها قائلاً: "لدى إيران والسعوديّة رغبة في أن تسود علاقات التّعاون بين دول المنطقة، وإنَّ الدَّولتين أبدتا الحرص المشترك على إنجاح القمَّة الإسلاميَّة المقرَّرة في طهران الشّهر القادم، لتحقيق التّضامن الإسلامي المطلوب"...

ثالثاً: لقد قامت أميركا بهزِّ العصا أمام الدّول الرافضة للمشاركة في مؤتمر "الدّوحة"، ولكنّ الضّغط الأميركي باء بالفشل، ما قد يدفع أميركا إلى القيام بأعمال سلبيَّة ضدّ انعقاد القمَّة الإسلاميَّة في طهران.

رابعاً: لقد فشلت أميركا في الحصار الاقتصاديّ ضدّ إيران في اتــّفــاقيَّـة "تــوتــال"، وفي المشروع الَّذي تعدّه شركة "شل" الهولندية ـ البريطانيّة، والّذي قد يتجاوز السّبعة مليارات من الدّولارات، الأمر الَّذي يعني أنّ أوروبا قد خرجت من الطوق الاقتصاديّ الأميركيّ الّذي تفرضه أميركا على دول العالم في علاقاتها الاقتصاديَّة بإيران، لأنَّ الدول معنيّة بمصالحها الاقتصادية الحيوية التي تجد في إيران موقعاً متقدِّماً للاستثمار.

وفي خطٍّ موازٍ، يحاول الإعلام الاستكباريّ الإيحاء بأنَّ هناك اهتزازاً في الوضع الداخليّ في إيران، واضطراباً بين الشعب وقيادته، ولكنّ الحقيقة هي أنّ هناك حريّة سياسيَّة في إيران بطريقةٍ منفتحةٍ يُطلق فيها الشّعب أفكاره بصوتٍ عالٍ، ليكون الموقف موقف الحوار والبحث عن السَّبيل الأفضل، مع الاحتفاظ باحترام الشّعب لقيادته، واحترام القيادة لشعبها.. فعلينا أن نكون حذرين في مواجهتنا لهذا التّزوير الإعلاميّ المشبوه.

أمّا على صعيد الوضع في الخليج، فإنَّنا نلاحظ أنَّ أميركا تدقّ ـ من جديد ـ طبول الحرب ضدّ العراق، بفعل امتناعه عن استقبال الأميركيّين في لجنة مراقبة الأسلحة، وإنّنا في الوقت الذي نختلف مع النّظام العراقي، نجد أنّ أميركا تعمل من جديد على تدمير هذا البلد العربي المسلم الّذي يمثّل الموقع القويّ في المنطقة، من خلال شعبه الأبيّ الّذي عاش المعاناة بأقسى صورها والجوع بأشدِّ حالاته.

إنَّ على الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة أن تقف ضدّ هذا العدوان الأميركيّ المرتقب الّذي لا يريد حلاً لمشكلة العراق، بل يعمل على زيادة المعاناة لشعبه، وتحريك الخطّة من أجل السيطرة على اقتصاده وسياسته وأمنه بشكلٍ مباشر.

لبنان: حماية السّلم الأهليّ

ونصل إلى لبنان، لنؤكِّد أنّ علينا أن نقف مع المعتقلين في سجون العدوّ، ونتذكّرهم ونطالب بإطلاق سراحهم، ونثير حملة عالميّة ضدّ الكيان الصهيوني الذي يستخدم كلّ صنوف التعذيب والمعاملة السيّئة لهم، وهذا ما تؤكّده "منظّمة العفو الدّولية".. كما نؤكّد أنّ علينا أن نقف في "يوم الشّهيد" مع الشّهداء، ولا سيّما الاستشهاديين، الذين نقلوا الأمّة من موقع الضعف والضياع، إلى موقع القوّة والثّبات بعزيمتهم، لندعمهم بكلِّ ألوان الدّعم الماديّ والمعنويّ، من أجل مواجهة العدوّ الغاشم الّذي لا يزال يواصل عدوانه في كلّ أرضنا، من خلال الغارات الجويّة والقصف المتكرِّر والعبوّات المزروعة في الطّرقات، والتي تستهدف المدنيّين.

أمّا على الصَّعيد الداخليّ، فإنّنا في الوقت الّذي نؤكّد ـ بكلّ قوّة ـ على التفاف الجميع حول السِّلم الأهليّ، لأنّه يمثّل المصلحة العليا للمواطنين جميعاً في مختلف مواقعهم وانتماءاتهم وقضاياهم، فإنّنا نؤكِّد أنَّ الأمن لن يتحقَّق بشكلٍ كبيرٍ، إلا إذا رافقه الأمن المعيشيّ والتربويّ، لأنَّ ذلك هو الّذي يمنح المواطن استقراره وطمأنينته، وهذا هو الَّذي يحفظ للدّولة هيبتها ومكانتها في نفوس المواطنين.

لقد كنّا ننتظر من الدّولة أن تصدر قراراتها الاقتصاديّة ـ في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة ـ في تنفيذ المشاريع الإنمائيّة التي تحدّثت عنها للمناطق المنكوبة، ولا سيّما بعلبك ـ الهرمل، ولكنَّها أجّلت ذلك بقرار نشر الجيش هناك.

إنَّنا نعتقد أنَّ من الطَّبيعيّ أن ينتشر الجيش في كلِّ مكان من لبنان، للحفاظ على أمن النّاس الَّذين يحترمونه ولا يمكن أن يقفوا في مواجهته، ولكنَّ القضايا لا تحلّ بالعنف، بل تحلّ بالوسائل السِّلميَّة، ومنها الحوار الموضوعيّ الهادئ حول كلّ الأمور.. إنَّ من المفروض أن تكون للدّولة هيبتها، ولكنّ الهيبة هي في أن تمنح الدّولة المواطن حاجاته الحيويّة الّتي توحي إليه بمسؤوليّتها عنه.

إنَّ الدَّولة الّتي تحترم نفسها، هي الَّتي تدخل في حوارٍ مع مواطنيها، ليتحركوا في خطِّ الانضباط الأمنيّ طواعيةً واختياراً، من موقع اقتناعهم بأنَّ الأمن مسؤوليَّتهم قبل أن يكون مسؤوليَّة الدَّولة، لأنّه سرّ حياتهم في الحاضر والمستقبل، ولا سيّما في ظروف الاحتلال الصّهيوني.


[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 157.

[2] المصدر نفسه، ج 2، ص 160.

[3] وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 27، ص 34.

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 30، ص 352.

[5] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 13، ص 317.

[6] بحار الأنوار، ج 34، ص 111

[7] المصدر نفسه، ج 55، ص 47.

[8] الكافي، ج 8، ص 351.

[9] بحار الأنوار، ج 31، ص 433.

[10] المصدر نفسه، ج 21، ص 387.

[11] نهج البلاغة، ج 1، ص 92.

[12] شجرة طوبى، الشيخ محمد مهدي الحائري، ج 1، ص 64.

[13] المصدر نفسه، ج 3، ص 71.

[14] المصدر نفسه، ج 2، ص 181.

[15]  المصدر نفسه، ج 4، ص 41.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة آية الله العظمى السيّد محمَّد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ: 13 رجـــب 1418هـ/ الموافق:14  تشرين الثاني 1997م، بحضور حشدٍ من الشَّخصيات العلمائيَّة والسياسيَّة والاجتماعيّة، وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

الخطبة الأولى

في هذا اليوم، وُلد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، وفتح عينيه في أقدس مكان في الأرض؛ في الكعبة، حيث كان أوّل مولودٍ في بيت الله وآخر مولودٍ فيه، فلم يولد في الكعبة أحد قبله أو بعده. لقد كانت ولادته في الكعبة الّتي تمثِّل موقع القداسة لكلِّ المسلمين في الأرض، حيث أراد الله لهذا البيت أن يكون بيت الطّهر والقداسة والعبادة، وأن يتَّجه النَّاس إليه بصلاتهم وفي طوافهم.

عليّ(ع) كعبة العقل والرّوح

إنَّ ولادته(ع) في هذا البيت تعني أنَّ عليّاً(ع) يأخذ من الكعبة رمزها، فهو الكعبة في العقل يتَّجه النّاس إليه ليأخذوا من عقله عقلاً لهم، وهو الكعبة في الرّوح، فإنَّ النّاس ينطلقون إلى روحانيَّته في كلِّ علاقته بربّه، ليأخذوا من روحانيّته روحانيَّةً يعيشون فيها مع الله، وهو الكعبة في الجهاد يتطلَّع المجاهدون إليه فيستقبلون حياته ليروا أنَّ هذا الإنسان العظيم كان إنسان الجهاد في الكلمة والمال والسَّيف والعلم، فقد كان مجاهداً في سبيل الله بكلّ طاقاته، لأنّه أعطى كلّ ما عنده لله تعالى.

إنّنا عندما نستقبل ذكرى أمير المؤمنين(ع)، فإنّنا نستقبله فيها من أجل أن نتعلَّم منه ونكبر به ونهتدي به، ومن أجل أن تكون ولايتنا له ـ وهو وليّ الله ـ ولاية فكر ومحبَّة وعمل في خطّه، لأنه أراد لنا أن نعمل معه وأن نجاهد معه، وأن نكون المنفتحين على الله معه. إنّنا عندما ندرس حياته، فإنَّ حياته بدأت في الكعبة كما ذكرنا، ثم انطلقت مع رسول الله(ص)، فكانت نشأته على يديه، وكانت تربيته من خلاله في كلّ ما انطلق فيه، فهو صنع رسول الله(ص) عقلاً وروحاً وخُلُقاً وخطّاً ومنهجاً في الحياة. تعالوا نستمع إليه(ع) كيف يحدِّثنا عن نفسه في "نهج البلاغة"، فيقول(ع):

"أنا وُضعت في الصّغَر بكلاكل العرب ـ كناية عن كِبارهم ـ وكسرت نواجم قرون "ربيعة" و"مضر" ـ استطعت أن أحطِّم عنفوان هؤلاء الكافرين الَّذين وقفوا ضدّ الإسلام ـ وقد علمتم موضعي من رسول الله(ص) بالقرابة القريبة ـ فأنا ابن عمّه ـ والمنزلة الخصّيصة ـ فأنا أقرب النّاس إليه في حياته ـ وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني إلى صدره، ويَكْنُفُني إلى فراشه ـ يرقد معه في الفراش ـ ويُمِسُّني جسده ـ يعتنقه وهو طفل كما تعتنق الأمّ والأب ولدهما عندما ينام إلى جانبهما ـ ويُشِمُّني عَرْفَه ـ عطره ورائحته ـوكان يمضغ الشّيء ثم يُلْقِمُنِيه، وما وجد لي كَذْبةً في قولٍ ـ فقد رآني الصَّادق لأقوالي معه ـ ولا خَطْلَةً ـ خطأً ـ في فعلٍ".

ثم يحدِّثنا الإمام عليّ(ع) عن تربية رسول الله(ص) من قِبَل الله تعالى، فيقول(ع): "ولقد قرن الله به ـ بالنبيّ ـ من لَدُن كان فطيماً، أعظم مَلَك من ملائكته، يَسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليلهُ ونهارهُ ـ بحيث كان هذا المَلَك الَّذي اختاره الله لتربية رسوله، يعيش معه في اللّيل والنّهار ليربّي له فكره وعاداته وأخلاقه وكلّ أعماله ـ ولقد كنتُ أتّبعه اتّباع الفصيل ـ ولد النّاقة ـ أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلِّ سنة بـحراء، فأراه ولا يراه غيري ـ لأنَّه كان يأخذ عليّاً معه إلى الغار ليتعبَّد لله ويتأمَّل في عظمته، وكان عليّ معه يتأمَّل بما يتأمَّل به، ويتعبَّد بما يتعبّد به ـ ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة. ولقد سمعت رنّة ـ صرخة ـ الشّيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشّيطان قد أَيِسَ من عبادته، إنك ـ يا عليّ ـ تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ، ولكنَّك الوزير وإنّك على خير"..[1].

صفات أهل البيت(ع)

ثم يقول أمير المؤمنين(ع) وهو يصوِّر أهل البيت(ع) في صفاتهم الرساليَّة وفي قوَّتهم في ذات الله سبحانه، فيقول: "وإنّي لمن قومٍ لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم ـ صفتهم ـ سيما الصِّدّيقين، وكلامهم كلام الأبرار، عُمَّار اللّيل ـ بالعبادة ـ ومنار النّهار ـ بإضاءة الطَّريق للنّاس ـ متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سُنَنَ الله وسُنَنَ رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون ـ لا يخونون ـ ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل"[2].. يعملون وهم يفكّرون في الجنَّة، وذلك بأن ينطلق بهم عملهم إلى الجنّة في نهاية المطاف. وهذه اللّفتة العلويّة الرّائعة تختصر للإنسان المؤمن كلَّ حياته.. أيّها الإنسان المؤمن، لتكن الجنَّة نصب عينيك في كلّ حياتك، إذا تكلَّمت، فليكن كلامك مؤدِّياً بك إلى الجنَّة، وإذا تعاملت، فليكن عملك مؤدّياً بك إلى الجنَّة، وإذا أردت أن تنشئ علاقة بإنسان، فلتكن علاقة تقرّبك إلى الجنّة، وإذا أردت أن تقف موقف تأييد أو رفض، فليكن الموقف الّذي يسير بك نحو الجنّة..

ويتحدَّث(ع) عن آل محمَّد(ص)، كأنّه يريد أن يقول لنا: أيُّها النَّاس، اتّبعوهم لأنَّهم "كسفينة نوحٍ، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"[3]، اتبعوهم في هذه الصّفات، وعظّموهم من أجل هذه الصّفات، ليست علاقتكم بآل محمد علاقة نسب، ولكنَّها علاقة رسالةٍ وخطٍّ ومنهج وعمل، فيقول(ع): "هم ـ آل محمد ـ عَيْش العِلْم وموتُ الجهل ـ فالعلم يعيش بهم من خلال ما يعلّمونه للنّاس، والجهل يموت عندما يتحركون في السّاحة لأنهم يطردون بعلمهم كلّ جهل ـ يخبركم حِلْمُهُم عن عِلْمهم ـ لأنَّ الإنسان العالِم يبقى الإنسان الهادئ في طبعه ومزاجه، لأنَّه ينظر إلى الأشياء والمشاكل والتحدّيات من موقع العلم والحقيقة ـ وظاهرهم عن باطنهم ـ لأنَّ ظاهرهم لا يخالف باطنهم ـ وصمتهم عن حكم منطقهم ـ إذا صمتوا فإنّك تستطيع أن تأخذ من صمتهم الحكمة فيما يعبّر عنه صمتهم من كلِّ الأجواء الَّتي يعيشون فيها ـلا يخالفون الحقَّ ـ فهم مع الحقّ دائماً، وهذا ما عبّر عنه رسول الله(ص) عندما قال: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"[4] ـ ولا يختلفون فيه ـ لأنَّ الحقَّ واحد، فلا يمكن أن تكون هناك وجهتا نظر في الحقّ في نفسه ـ وهم دعائم الإسلام ـ لأنَّهم يمثّلون أئمَّة الإسلام وركائزه وقواعده في الفكر والرّوح والعمل ـوولائج الاعتصام. بهم عاد الحقّ إلى نصابه ـ لأنهم عاشوا في حماية الحقّ، فإذا جاء الباطل ليقتحمه، ردّوا الحقّ إلى مواقعه ـ وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدّين عقل وعايةٍ ورعاية، لا عقل سماعٍ ورواية ـ فلم يكن الدّين بالنّسبة إليهم مجرّد كلمات يطلقونها، ولكنَّه كان وعياً وعقلاً ورعاية ـ فإنَّ رواة العلم كثير، ورُعاته قليل"[5].

هذا هو حديث عليّ(ع) عن أهل بيت الرّسالة، ومن خلال ذلك نعرف أنَّ علينا عندما نلتزم أهل هذا البيت الَّذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً، أن نلتزم علمهم وحلمهم وهدايتهم، وأن نتحرَّك معهم من أجل أن يكونوا القادة لنا في حياتهم وبعد موتهم، ومن أجل أن يكونوا الهداة لنا من خلال ما تركوه لنا من مناهج الهدى. ليست علاقتنا بالنبيّ(ص) وآله(ع) مجرَّد علاقة حبٍّ ينبض به القلب، وإن كان حبّنا لهم كبيراً كبيراً، ولكنَّها الرِّسالة التي عانوا في سبيلها، والّتي عملوا الكثير من أجل أن يؤكِّدوها؛ أن نحمل رسالة رسول الله وأئمَّة الهدى في عقولنا ليكون عقلنا عقلاً رساليّاً، وفي قلوبنا لتكون قلوبنا قلوباً رساليَّة، وفي كلِّ حياتنا لتكون حياتنا حياة رساليَّة، فإنَّ الله تعالى أراد للإسلام أن يكون عيش النّاس، وأراد للنّاس أن يموتوا على الإسلام.

أوَّل المؤمنين

ولذلك، فإنَّ من لم يعِش الإسلام فكراً في فكره، وعاطفةً في قلبه، وحركةً في طاقاته، فكيف يضمن لنفسه أن يموت مسلماً في نهاية المطاف؟ كان عليّ(ع) في كلّ هذه الأجواء الإنسانَ الَّذي عاش للإسلام كلِّه منذ طفولته. عندما ندرس عليّاً(ع) منذ كان طفلاً، فإنّنا لا نجد هذا الإنسان يعيش أيّة فرصةٍ لراحةٍ في جسده أو في بيته أو في مجتمعه، كان الإنسان الَّذي عاشت طفولته الهمَّ الكبير، لم تكن طفولته(ع) في حجم طفولة الأطفال في عمره، ولكنّها كانت طفولة يعيش صاحبها الهمّ الكبير. قبل الإسلام، كان يعيش مع رسول الله هموم الإيمان وعبادة الله والتّفكير فيها، لأنَّ رسول الله عاش عمق الإسلام في أخلاقه وروحه وتأمّلاته، قبل أن يلقي الله عليه الإسلام قرآناً، وهكذا كان عليّ يتعلَّم منه.

ولذلك، عندما أراد الله لرسوله أن ينطلق بالرّسالة، خاطب عليّاً، وقال عليّ دون أن يتردّد أو يستشير أباه: "أشهد أن لا إله إلا الله"، لأنّه عاش الوحدانيّة علماً وقلباً وروحاً، "وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله"، لأنّه رأى محمّداً رسولاً قبل أن يبعثه الله بالرّسالة، ورأى فيه كلّ روح الرّسالة وعقلها وفكرها. ولذلك فقد كان إيمان عليٍّ إيماناً ناضجاً في عقله وقلبه.. وهكذا بدأ عليّ يصلّي مع رسول الله، وهو القائل: "اللّهمّ إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني بالصّلاة إلا رسول الله"[6].. وبقيت الصّلاة قرّة عينه، كان يسجد لله فيذوب مع الله، حتى إذا حرّكه شخص وهو في سجوده، خُيِّل إليه أنّه مات، وجاء بعض النّاس إلى فاطمة(ع) وقد رأى عليّاً لا حراك به، قال لها: عظَّم الله أجرك بعليّ! فقالت(ع): "كيف رأيته؟"، فذكر لها ذلك، فقالت: إنها الغشية الّتي تحدث له عندما يعيش مع الله ويناجي ربّه، وقد جاء النبيّ(ص) ورآه والتراب في جبهته من سجوده، فكنَّاه "أبا تراب"، وكانت أحبّ كناه إليه.

كان عليّ(ع) يعيش الصَّلاة لأنّه يتقوّى بالصّلاة، وقد حدَّثنا عليّ(ع) في معركة "بدر" كيف كان يقاتل وقلبه موزّع بين المعركة وبين رسول الله وهو يحمل همّه، كان(ع) يقاتل ويقاتل ثم يأتي ليطمئنّ على رسول الله ويراه ساجداً وهو يقول: "يا عليّ يا عظيم"، لأنَّ النبيّ(ص) يستمدّ القوّة من الله، وعليّ كان يستمدّ القوّة من الله، ولذلك رُوي عنه أنّه قال: "والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانيَّة، ولكن بقوّة ربانيَّة"[7].. وتلك قصَّة الصّلاة في حياتنا. عيشوها في كلّ مواقعكم، لا تهملوها أو تتهاونوا فيها أو تسهوا عنها، لا تغفلوها ولا يشغلكم أيّ شيءٍ عنها، لأنها موعدكم مع الله، وعندما يعطينا الله موعداً للّقاء معه والدّعاء إليه ولطلب حاجاتنا بين يديه، فأيّ موعدٍ تحافظون عليه أقرب وأهمّ من موعدكم مع الله؟! افتح قلبك لربّك ليفتح لك ربّك قلوب النّاس، وإذا أغلقت قلبك عن ربّك فمن الّذي يضمن لك أن تُفتح قلوب النّاس لك؟!

لذلك، نحن نقول إنَّنا نحبُّ عليّاً(ع)، ولكن من لا يحبّ رسول الله فلا يحبّ عليّاً، ومن لا يحبّ الله فلا يحبّ عليّاً، ومن لم يكن الله أحبّ إليه من نفسه ومن كلِّ النّاس، ومن لم يكن الله أقرب إليه من نفسه ومن كلِّ النّاس، فأية علاقة بينه وبين عليّ، لأنَّ عليّاً لا علاقة له بأحدٍ إلا من خلال الله! وعليّ(ع) هو كما حدَّث عنه رسول الله(ص): "لأعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ اللهَ ورسولَه، ويحبّه اللهُ ورسولُه"[8]؛ هذه المحبّة المتبادلة ما أعظمها وما أسعدها وما أروعها! أن تحبَّ ربَّ العالمين بعقلك وبقلبك وبعملك ليحبّك ربّك، فأيّة عظمة أكبر من أن تحصل على محبَّة الله الّتي هي محبَّة البقاء؟!

عليّ الحقّ والعدل

وهكذا، رأيناه ينتقل(ع) من حربٍ إلى حرب، وهو في ذلك كلّه لا تشغله حربه عن عبادته لربّه والجلوس بين يدي رسول الله ليتعلَّم منه في كلّ يوم، حتى قال(ع): "علَّمني ألف بابٍ من العلم يفتح كلّ بابٍ ألف باب"[9]. لهذا، كان عليّ الأعلم والأزهد والأتقى والأشجع والأكثر جهاداً وعملاً وعلماً، ولذلك كان المتعيّن للخلافة بعد رسول الله(ص) من قِبل الله تعالى، ولم يكن هناك أحد يملك ما يملك عليّ في كلّ ذلك، ومن هنا، أخذ رسول الله بيده في يوم "الغدير" وقال: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله..."[10].

كان عليّ(ع) حقّاً كلّه، فمن أراد أن يكون مع عليّ فليكن مع الحقّ، وكان عليّ عدلاً كلّه، فمن أراد أن يكون قريباً من عليّ فليكن مع العدل كلّه، فلا يكون فيه شيء من الظّلم، وكان عليّ العلم كلّه، فمن أراد العلم من عليّ، فليكن علمه أقرب إليه من جهله. وهكذا، نلتقي بعليّ(ع) في حياته الّتي عاش فيها المعاناة؛ في حياته الّتي عاش فيها الحقّ كأوضح وكأصلب ما يكون الحقّ، كان النّاس يريدون له أن يجاملهم في الحقّ، وأن يهادنهم في الباطل، ليتحدَّث معهم بما يحبّون، حتى لو كان ما يحبّون باطلاً، ولكنّ عليّاً(ع) كان يقول: "ما ترك لي الحقّ من صديق"، أي أنَّ مشكلتي أني أقول الحقّ، وأنّ النّاس قد اعتادوا الباطل، وأنَّ هناك من النّاس من يجامل النّاس في الباطل.

وهذا ما نلاحظه في الكثير من الدَّعوات في الماضي والحاضر، عندما يأتيك النّاس ليقولوا لك: لا تصدم النَّاس فيما لديهم من خرافاتٍ وأباطيل ومن جهالات، لأنَّهم سوف يسبّونك ويلعنونك ويضطهدونك، وسوف يتَّخذون منك موقفاً سلبيّاً، وعليّ كان يراقب الله ولا يراقب النّاس. ومن يرد السَّير في خطِّ عليّ(ع)، فعليه أن يصدم الباطل بكلِّ قوّة، حتى لو كلَّفته صدمة الباطل حياته، لأنَّ الإنسان الَّذي يعيش مع الحقّ، لا بدَّ له من أن يدفع ثمن الوقوف مع الحقّ، لأنَّ المسير مع الباطل والخرافات سهل جدّاً، وقد يحملك الناس على أكتافهم، ولكنَّ عليّاً(ع) كان يقول: "قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيِه، فيدعها رأي عينٍ بعد القدرة عليها، وينتهزُ فرصتها من لا حريجةَ له في الدِّين" .[11]

عاش وعاش وعاش، وأُبْعِد عن حقِّه، وصبر من أجل مصلحة الإسلام، وتحمَّل الكثير، وواجه التحدّيات عندما حكم، ثم في الصَّباح، والفجر يطلّ في السّماء، وعليٌّ يناجي ربّه، وهو في محرابه، ضربه ابن ملجم، فشعر بأنَّ حياته كانت لله، وها هو بين يدي الله يدفع ثمن كلّ الحقّ الَّذي عاشه، ولذلك قال: "بسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، فزت وربِّ الكعبة"[12].

هذا عليّ الّذي كان يعيش الفرح الرّوحيّ في قلب المأساة.. هذا عليّ الّذي كان يعيش الحقّ في أقسى مواقعه.. هذا عليّ الّذي حمل الرّسالة كما يجب أن تُحمل، يقول لكم: "ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمريه، ومن طُعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسَداد"[13]. هذا ما يريده منّا عليّ، وهذه هي معنى ذكرى عليّ، وهذه هي معنى ولاية عليّ(ع).

يا سماء اشهدي ويا أرض اخشعي      وقرّي إنّني ذكرت عليّا

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله.. اتّقوا الله تعالى في كلِّ ما أوكل الله إليكم أمره، وكما قال عليّ(ع): "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلَّة أهله، فإنَّ النّاس قد اجتمعوا على مائدةٍ شبَعُها قصير، وجوعها طويل. أيّها النّاس.. إنَّ ما يجمع النّاس الرّضى والسّخط، فقد عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرّضى"[14]، فإنَّ "الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم، وعلى كلِّ داخلٍ في باطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرّضى به"[15].. لذلك، علينا أن نظلَّ في طريق الهدى، وإن كان أهله قليلين، وعلينا أن نظلَّ في طريق الحقّ والعدل، وإن كان الَّذين يتّبعونه قليلين، لأنَّ الله هو الأكبر والأعظم، فمن كان مع الله في كلّ قوله وعمله، فليس به حاجة إلى أحدٍ من الناس.

لذلك، لا بدَّ من أن ننظر إلى الأمور دائماً بمنظار الحقِّ والعدل، لتكون المسألة عندنا ماذا يُرضي الله من ذلك، وماذا يُغضب الله من ذلك، وماذا يكلِّفنا الله من مسؤوليَّةٍ أمام هذا الأمر أو أمام ذلك الأمر.. ليكن تفكيرنا دائماً في رضى الله، لأنَّ المسألة هي أن تكون حياتنا صورةً لما يحبّه الله ويرضاه، حتى نفد على الله وقد حصلنا على رضوانه في الأمور كلِّها.. وهذا ما نريد أن نعيشه في كلِّ قضايا الإسلام والمسلمين، مما يهمّنا أمره، ومما يهمّ كلّ المسلمين أمره في قضاياهم العامَّة والخاصَّة. فماذا هناك؟

تراجع النّفوذ الأميركيّ

لا يزال الصِّراع العربيّ ـ الإسرائيليّ يمرّ بأصعب المراحل على المستوى السياسيّ والأمنيّ، بفعل الوحشيَّة الصّهيونيَّة الّتي تستغلّ التّأييد المطلق لليهود من قِبَل أميركا، الَّتي تحاول الظّهور بمظهر الوقوف بشكلٍ سلبيّ ضدّ الموقف الإسرائيلي، ولكن من دون جدّيّة، فــهي لا تزال تمنع ـ بكلّ قوّة ـ عرض مسألة الاستيطان على مجلس الأمن وإدانة إسرائيل على موقفها الاستيطانيّ، وتتحرَّك للضَّغط على العرب بطريقةٍ وبأخرى.. وعلى العرب ـ والفلسطينيّين بالخصوص ـ أن يواجهوا الموقف بالوحدة والتّضامن والعزّة والكرامة في هذه المرحلة الصَّعبة في خطِّ التّحدّيات.

وعلى صعيدٍ آخر، فإنَّنا نلاحظ تراجعاً في النّفوذ الأميركيّ في المنطقة، مما قد يوحي بأنَّ الواقع السياسيَّ قد بدأ يتمرَّد على محاولة السَّيطرة الأميركيَّة على السَّاحة العربيَّة والإسلاميَّة، وذلك يعود إلى عدَّة عوامل، أهمّها:

أوّلاً: فشل مؤتمر "الدّوحة" في الدائرة العربيّة، بامتناع أكثر الدّول العربيّة والجامعة العربيّة عن حضوره، احتجاجاً على حضور إسرائيل فيه، وعلى الموقف الإسرائيلي ضدّ العرب في حقوقهم المشروعة.

ثانياً: النّجاح المتواصل على صعيد تعزيز العلاقات الإسلاميَّة بين إيران وجاراتها العربيَّة، وبخاصّة السعوديّة، الَّتي صرّح وزير خارجيّتها قائلاً: "لدى إيران والسعوديّة رغبة في أن تسود علاقات التّعاون بين دول المنطقة، وإنَّ الدَّولتين أبدتا الحرص المشترك على إنجاح القمَّة الإسلاميَّة المقرَّرة في طهران الشّهر القادم، لتحقيق التّضامن الإسلامي المطلوب"...

ثالثاً: لقد قامت أميركا بهزِّ العصا أمام الدّول الرافضة للمشاركة في مؤتمر "الدّوحة"، ولكنّ الضّغط الأميركي باء بالفشل، ما قد يدفع أميركا إلى القيام بأعمال سلبيَّة ضدّ انعقاد القمَّة الإسلاميَّة في طهران.

رابعاً: لقد فشلت أميركا في الحصار الاقتصاديّ ضدّ إيران في اتــّفــاقيَّـة "تــوتــال"، وفي المشروع الَّذي تعدّه شركة "شل" الهولندية ـ البريطانيّة، والّذي قد يتجاوز السّبعة مليارات من الدّولارات، الأمر الَّذي يعني أنّ أوروبا قد خرجت من الطوق الاقتصاديّ الأميركيّ الّذي تفرضه أميركا على دول العالم في علاقاتها الاقتصاديَّة بإيران، لأنَّ الدول معنيّة بمصالحها الاقتصادية الحيوية التي تجد في إيران موقعاً متقدِّماً للاستثمار.

وفي خطٍّ موازٍ، يحاول الإعلام الاستكباريّ الإيحاء بأنَّ هناك اهتزازاً في الوضع الداخليّ في إيران، واضطراباً بين الشعب وقيادته، ولكنّ الحقيقة هي أنّ هناك حريّة سياسيَّة في إيران بطريقةٍ منفتحةٍ يُطلق فيها الشّعب أفكاره بصوتٍ عالٍ، ليكون الموقف موقف الحوار والبحث عن السَّبيل الأفضل، مع الاحتفاظ باحترام الشّعب لقيادته، واحترام القيادة لشعبها.. فعلينا أن نكون حذرين في مواجهتنا لهذا التّزوير الإعلاميّ المشبوه.

أمّا على صعيد الوضع في الخليج، فإنَّنا نلاحظ أنَّ أميركا تدقّ ـ من جديد ـ طبول الحرب ضدّ العراق، بفعل امتناعه عن استقبال الأميركيّين في لجنة مراقبة الأسلحة، وإنّنا في الوقت الذي نختلف مع النّظام العراقي، نجد أنّ أميركا تعمل من جديد على تدمير هذا البلد العربي المسلم الّذي يمثّل الموقع القويّ في المنطقة، من خلال شعبه الأبيّ الّذي عاش المعاناة بأقسى صورها والجوع بأشدِّ حالاته.

إنَّ على الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة أن تقف ضدّ هذا العدوان الأميركيّ المرتقب الّذي لا يريد حلاً لمشكلة العراق، بل يعمل على زيادة المعاناة لشعبه، وتحريك الخطّة من أجل السيطرة على اقتصاده وسياسته وأمنه بشكلٍ مباشر.

لبنان: حماية السّلم الأهليّ

ونصل إلى لبنان، لنؤكِّد أنّ علينا أن نقف مع المعتقلين في سجون العدوّ، ونتذكّرهم ونطالب بإطلاق سراحهم، ونثير حملة عالميّة ضدّ الكيان الصهيوني الذي يستخدم كلّ صنوف التعذيب والمعاملة السيّئة لهم، وهذا ما تؤكّده "منظّمة العفو الدّولية".. كما نؤكّد أنّ علينا أن نقف في "يوم الشّهيد" مع الشّهداء، ولا سيّما الاستشهاديين، الذين نقلوا الأمّة من موقع الضعف والضياع، إلى موقع القوّة والثّبات بعزيمتهم، لندعمهم بكلِّ ألوان الدّعم الماديّ والمعنويّ، من أجل مواجهة العدوّ الغاشم الّذي لا يزال يواصل عدوانه في كلّ أرضنا، من خلال الغارات الجويّة والقصف المتكرِّر والعبوّات المزروعة في الطّرقات، والتي تستهدف المدنيّين.

أمّا على الصَّعيد الداخليّ، فإنّنا في الوقت الّذي نؤكّد ـ بكلّ قوّة ـ على التفاف الجميع حول السِّلم الأهليّ، لأنّه يمثّل المصلحة العليا للمواطنين جميعاً في مختلف مواقعهم وانتماءاتهم وقضاياهم، فإنّنا نؤكِّد أنَّ الأمن لن يتحقَّق بشكلٍ كبيرٍ، إلا إذا رافقه الأمن المعيشيّ والتربويّ، لأنَّ ذلك هو الّذي يمنح المواطن استقراره وطمأنينته، وهذا هو الَّذي يحفظ للدّولة هيبتها ومكانتها في نفوس المواطنين.

لقد كنّا ننتظر من الدّولة أن تصدر قراراتها الاقتصاديّة ـ في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة ـ في تنفيذ المشاريع الإنمائيّة التي تحدّثت عنها للمناطق المنكوبة، ولا سيّما بعلبك ـ الهرمل، ولكنَّها أجّلت ذلك بقرار نشر الجيش هناك.

إنَّنا نعتقد أنَّ من الطَّبيعيّ أن ينتشر الجيش في كلِّ مكان من لبنان، للحفاظ على أمن النّاس الَّذين يحترمونه ولا يمكن أن يقفوا في مواجهته، ولكنَّ القضايا لا تحلّ بالعنف، بل تحلّ بالوسائل السِّلميَّة، ومنها الحوار الموضوعيّ الهادئ حول كلّ الأمور.. إنَّ من المفروض أن تكون للدّولة هيبتها، ولكنّ الهيبة هي في أن تمنح الدّولة المواطن حاجاته الحيويّة الّتي توحي إليه بمسؤوليّتها عنه.

إنَّ الدَّولة الّتي تحترم نفسها، هي الَّتي تدخل في حوارٍ مع مواطنيها، ليتحركوا في خطِّ الانضباط الأمنيّ طواعيةً واختياراً، من موقع اقتناعهم بأنَّ الأمن مسؤوليَّتهم قبل أن يكون مسؤوليَّة الدَّولة، لأنّه سرّ حياتهم في الحاضر والمستقبل، ولا سيّما في ظروف الاحتلال الصّهيوني.


[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 157.

[2] المصدر نفسه، ج 2، ص 160.

[3] وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 27، ص 34.

[4] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 30، ص 352.

[5] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 13، ص 317.

[6] بحار الأنوار، ج 34، ص 111

[7] المصدر نفسه، ج 55، ص 47.

[8] الكافي، ج 8، ص 351.

[9] بحار الأنوار، ج 31، ص 433.

[10] المصدر نفسه، ج 21، ص 387.

[11] نهج البلاغة، ج 1، ص 92.

[12] شجرة طوبى، الشيخ محمد مهدي الحائري، ج 1، ص 64.

[13] المصدر نفسه، ج 3، ص 71.

[14] المصدر نفسه، ج 2، ص 181.

[15]  المصدر نفسه، ج 4، ص 41.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية