أسلوب الرّساليّين في حركة الصّراع مع أعداء الرّسالة

أسلوب الرّساليّين في حركة الصّراع مع أعداء الرّسالة

وما زال الحديث عن أهل الكتاب ـ تتمّةً لما مضى من الحديث عن المنهج النبويّ ـ في مواقفهم العدوانيّة ضدّ الرّسول والرّسالة. ونقف مع النّصارى، حيث تحدَّث القرآن عن انحرافهم العقيديّ، من خلال اعتقادهم بألوهيّة السيّد المسيح(ع)، أو ذهابهم إلى التّثليث، أو أنّه ابن الله، وعن قولهم إنّه لن يدخل الجنّة غيرهم، وإنّ الانتماء إليهم هو خطّ الهدى، وإنهم أبناء الله وأحبّاؤه، كما خاطبهم النبيّ(ص)، بأنهم كاليهود، لن يرضوا عنه حتى يتّبع ملتهم، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[1]، وأنهم اتخذوا أحبارهم من دون الله والمسيح ابن مريم، وأنهم خالفوا الميثاق الّذي أخذه الله عليهم، فنسوا حظّاً مما ذكِّروا به. وقد كان الأسلوب القرآنيّ عنيفاً في مناقشة أفكارهم، كما هو المنهج العلميّ في العنف الفكريّ ضدّ الأفكار الأخرى، مقارناً بالأسلوب الإنساني المبنيّ على الرفق واللّين في العلاقات الإنسانيّة.

وقد تحدَّث القرآن بإيجابيّة عن النصارى، من خلال سلوكهم الأخلاقي، وذلك هو قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}[2].

ويذكر المفسّرون أنَّ هذه الآيات نزلت في النجاشي وأصحابه، الذين استقبلوا المسلمين المهاجرين إلى الحبشة فراراً بدينهم، بكلّ رحابة، ولما استمعوا إلى الآيات القرآنيّة، تفاعلوا معها، وانفتحوا على مضمونها الروحيّ والفكريّ، وقد أكَّدت الآيات الجانب الأخلاقيّ في شخصيّتهم، من خلال تواضعهم، ومن خلال القيم الروحيّة التي يحملها القسّيسون والرّهبان الذين يعيشون في آفاق الروحانيّة المنفتحة على الله، الأمر الّذي يجعلهم في موقع الانسجام مع الوحي الإلهي الذي يفيض بالحقّ على عقول الناس وقلوبهم، فيدفعهم ذلك إلى الإيمان من دون تعصّب.

ولم يتحدّث القرآن الكريم ـ في مدى المرحلة النبويّة الشّريفة ـ عن أيّ سلوك عدوانيّ، أو أية مشكلة حادّة من قبل النصارى ضدّ الإسلام والمسلمين في الواقع الميداني، وقد أشار القرآن إلى حادثة الحوار الاحتجاجيّ بين النبيّ محمد(ص) والنصارى الّذين قدموا عليه من (نجران) حول شخصيّة عيسى ابن مريم(ع)، من خلال الاختلاف الفكري والعقيدي بين النصارى والمسلمين، الأمر الذي أدّى إلى طلب المباهلة الذي هو الأسلوب الروحي في طريقة إغلاق الحوار، إذا لم يؤدّ الجدال إلى نتيجة من خلال المرتكزات الفكريّة، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[3]. وقد استقبل رسول الله(ص) الوفد، ورحّب بهم، وأكرم وفادتهم، وحين حانت صلاتهم ضربوا بالناقوس، وصلّوا في مسجد رسول الله(ص) إلى المشرق، وأراد الصحابة منعهم، ولكنّ النبيّ(ص) قال: دعوهم، وقيل إنَّ بعضهم أسلم بعد ذلك.

حركة النفاق

وهناك فريق آخر واجه الرسالة بطريقة نفاقيّة، فقد أعلنوا الإسلام، وأبطنوا الكفر، وأربكوا الواقع الإسلاميّ بوسائلهم الملتوية، وتحالفوا مع المشركين واليهود، وأثاروا الإشاعات الكاذبة في المجتمع المسلم، من أجل إيجاد حالة اهتزاز نفسيّ وقلق أمنيّ، وكادوا للرّسول، وتجرّأوا عليه بمختلف الوسائل والأساليب. وقد تحدَّث القرآن عنهم بأكثر منه سورة، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ *يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[4]. وكانوا يواجهون المؤمنين الطيّبين بالاستعلاء، باعتبارهم يملكون الثقافة التي ترتفع بإيمانهم عن إيمان الناس، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[5]، فهم يسخرون من المؤمنين في إظهارهم الإسلام، وقبولهم لهم، ما يدلّ على السذاجة التي يتمتّع بها المسلمون، فلا يدقّقون في خلفّيات الأشخاص، ليكتشفوا حقيقة المؤمن من غير المؤمن في عمق الانتماء.

وهكذا، يستخدمون أسلوب السخرية في مواجهتهم للإسلام وأهله، ولكنّها ليست سخرية ظاهرة، بل هي سخرية باطنة في داخل مجتمعهم الذي يتحرّك من موقع خطّة خفيّة يتوزّع فيها هؤلاء الأدوار في دخولهم إلى المجتمع الإسلامي، ليملكوا حرية العبث فيه، وتمزيق وحدته، وإرباك خططه. ولكنَّ الله يردُّ عليهم بأنهم مكشوفون أمامه وأمام المسلمين، بما يكشف الله لهم من أمرهم، وذلك هو قوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}[6]، وقوله أيضاً: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[7].

ويصوّر لنا القرآن بعض أوضاعهم، من خلال بعض النماذج في ممارساتهم الحركيّة في داخل المجتمع، وذلك هو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}[8]، فهؤلاء يعلنون الإيمان، ولكنَّهم يتصرّفون بعيداً عن منهجه وشريعته، لأنهم في أوضاعهم الحقيقيّة الخاصّة، يرجعون إلى القاعدة الفكريّة التي ينتمون إليها، وهي الكفر الذي يلتزم الطّاغوت ويرفض حكم الله. وربما كانوا يبرّرون ذلك بانتقادهم للأسس الّتي يرتكز عليها حكم الشريعة، ليربكوا الإيمان العمليّ والثقة بالإسلام حكماً وشريعةً في نفوس المسلمين.

ويحدّثنا الله عن بعض منطقهم المتأرجح في مضمونه: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[9]. ويمتدّ الحديث إلى الاهتزاز في حركتهم، الّتي توحي بما تختلج به نفوسهم من عدم الجديَّة في إيمانهم الظاهريّ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[10]، وكانوا يقدِّمون الأعذار عن تخلّفهم عن الرّسول في معاركه، كما حدث معه في غزوة "تبوك"، مما تحدّثت عنه سورة التوبة، حيث كانوا يقومون بإثارة روح الهزيمة في ساحة الحرب بين المسلمين والمشركين، وكما حدّثنا الله عن ذلك في معركة "الأحزاب": {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}[11]. وتتابع السورة الحديث عن بعض أوضاعهم التخذيليّة: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}[12].

النّفاق المزدوج

ولم يقتصر نفاقهم على سلوكهم مع المسلمين، بل امتدّ إلى علاقتهم مع أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ}[13]، فهم لا ينفتحون إلا على مصالحهم الخاصّة، ولا يقفون عند عهودهم والتزاماتهم، سواء مع المسلمين أو مع غيرهم، فهم يتحرّكون من موقع إلى موقع، وينقضون العهد مع هذا الفريق إذا كان الوفاء به مضرّاً بأوضاعهم، كما أنهم يفعلون الشّيء ذاته مع الفريق الآخر. ولذلك، تحوَّلوا إلى خطرٍ على المجتمع الإسلاميّ، الذي لم يكن كلّ أفراده واعين لأوضاع هؤلاء، فربما كانت أساليبهم من الدقّة، بحيث يصعب اكتشافها من خلال الجماهير الواسعة الطيّبة، ولا سيما إذا كانت جزءاً من خطّة دقيقة خفيّة تستخدم عناوين الإثارة ووسائل الإشاعة الّتي تحرك مشاعر الناس الطيّبين.

وقد تحدّثت سورة "المنافقون" عنهم بإظهار ملامحهم الداخلية والخارجية، وذلك من خلال قوله تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} في التزامهم العقيديّ بهذه الشّهادة، لأنهم لا يعترفون برسالتك، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}، أي درعاً يقون به أنفسهم، وحفاظاً على مواقعهم في المجتمع الإسلامي، {فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، بأساليبهم الملتوية الخادعة المضلّلة المثيرة، {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}، لحلاوة منطقهم باشتماله على عناصر الاجتذاب الشعوريّ، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} في مظهرهم الهادئ الثابت، ولكنهم يعيشون القلق النفسي، بسبب الأخطار المقبلة من تحدّيات الواقع، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، لأنهم لا يركنون إلى قاعدة ثابتة، بل ينتقلون ـ تبعاً لشهواتهم ومصالحهم ـ من موقع إلى موقع، فيكيدون لهذا وذاك، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ـ فهو القريب إلى الله، الذي يستجيب الله دعاءه، لتتخلّصوا بذلك من غضب الله ـ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْـ رفضاً لهذه الدّعوة ـ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواـ في عملية ضغط اقتصادي على المؤمنين، لأنهم إذا رأوا أن علاقتهم بالرسول وبالإسلام سوف تؤثر في معائشهم، تفرّقوا عنه، واتبعوا الذين يملكون المال من المنحرفين عن الإسلام ـ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ـ فهو الذي يرزق عباده المؤمنين من حيث لا يحتسبون ـ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}.

ويتابع القرآن الحديث عنهم في مقولةٍ أخرى لهم، في التحدّي الصارخ للنبيّ(ص)، في عمليّة عرض للقوّة التي يملكونها من خلال أتباعهم، أمام القلّة التي تحيط بالنبيّ من عشيرته: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ـ والمراد به النبيّ(ص)، لأنه لم يكن من أهل يثرب، بينما كان هذا المنافق رئيس عشيرة في المدينة ـ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[14].

وهكذا، نلاحظ كيف مارس هؤلاء المنافقون أساليب العداوة الخفية المتحركة في وسائلها وأوضاعها وتحالفاتها مع أعداء الله من المشركين واليهود، ضدّ الإسلام وأهله، وربما كانوا من أخطر الأعداء، لأنهم من الدّاخل، ويرتبطون بمفاصل المجتمع، ومواقع القوّة فيه. وفي هذا الجوّ كلّه، المليء بالعداوة المتنوّعة للرّسول والرسالة وللمسلمين في اتجاهات الشّرك ضدّ التوحيد، وأهل الكتاب ضدّ أهل القرآن، والمنافقين ضدّ المخلصين، نلاحظ أنّ النبيّ(ص) واجه في ساحات الصّراع ما لم يواجهه نبيّ قبله، فقد عاش صراع الدّعوة مع القوى المضادّة على المستوى الفكري، حتى من الذين يؤمنون بالتوحيد، ولكن مع مزيج من الشّرك، وتحمّل في سبيل ذلك ـ مع المؤمنين به ـ المزيد من الاضطهاد، كما عاش الحرب المسلَّحة في أكثر المواقع، بما شغله عن تنفيذ خطّته في حركة الرّسالة في عقول الناس وقلوبهم وإدخالها الفعليّ إلى حياتهم.

الحوار الثّقافيّ

ولكنَّه بالرّغم من ذلك، واجه تنوّعات التحدّيات بالأسلوب الرّساليّ الّذي كان يتحرّك بالفعل النبويّ الَّذي يرتكز على خطّة الرّسالة في إعطاء الآخرين الفرصة الثقافيّة الروحيّة في الالتفات إلى أبعاد الجوانب الشخصيّة والماديّة في موقف الرّسول، واعتبار المسألة أنّها مسألة الرّسالة الّتي تؤكّد مواطن اللّقاء بينها وبين الاتجاهات الأخرى في مواقع هذا اللّقاء، والحوار في مواطن الخلاف، بينما تؤكّد الثّوابت العقيديّة في الاتجاه الّذي يمثّل نقاط التضادّ الفكريّ على مستوى القاعدة، عند استنفاد أساليب الحوار، فقد خاطب المشركين بالدّعوة والنظرة الموضوعيّة إلى نقاط الخلاف، بأسلوب حضاريّ يبتعد عن الحوار الّذي ينطلق من تحدّيات النظرة الذاتية الرافضة للذّات الأخرى، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[15]. وينطلق معهم ليطالبهم بالدّليل، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[16]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ}[17]. ولم يقدّم هؤلاء أيّ دليل، فيبادر إلى إقامة الدّليل على استحالة الشّرك، وذلك هو قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[18]. وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}[19]، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[20].

ويتابع التحدّي الفكريّ في اعتبار الواقع دليلاً على بطلان الشّرك: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ}[21].

أمّا الملحدون، فإنّ محور الجدال معهم كان يدور في فلك آيات الله الكونيّة وأسرار الوجود وحقائقه، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[22]، وقوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[23]، وقوله تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}[24]، وقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}[25]، ويتصعّد الموقف في نهاية المطاف بعد أن ينتهي الحوار إلى نقطة اللارجوع، فيحسم القرآن الكريم الموقف بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[26]. أما أهل الكتاب، فيدعوهم إلى اللقاء على الأرض الفكرية المشتركة في الخطّ العام ـ مع الاختلاف في التفاصيل ـ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[27]، وفي آية أخرى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[28]. وفي حالة الإعراض، ينتهي الحوار: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[29].

وقد دخل القرآن مع أهل الكتاب، ولا سيّما اليهود، في جدال عقائديّ يتناول فيه تفاصيل مسألة التوحيد، والأمور التي أثاروها في وجه الرّسول والرّسالة، بالأسلوب الحواريّ المرتكز على الحجّة الداعية والحجّة المضادَّة. أمّا المنافقون، فلم تكن المسألة معهم مسألة فكر يصادم فكراً، بل كانت المسألة مسألة انحراف عمليّ، وموقف عدائيّ، وحركة تخريبيّة في داخل المجتمع الإسلاميّ، ولذلك، كان الأسلوب القرآني يتحرّك في فضح حقيقتهم وإظهار نفاقهم، لتوعية المؤمنين في الحذر من خططهم العدائية ومن وسائلهم التخريبيّة، لأنهم لم ينطلقوا من قاعدة تنفتح على قضايا الحوار، بل من موقع ظلم للحقّ وأهله.

عدوانيّة متنوّعة

وخلاصة الكلام، أنَّ النبيَّ محمداً(ص) واجه في كلّ حركته الرساليّة التحدّيات الكبرى في حركة الصّراع مع الكفر الإلحادي والإشراكي والديني، في جدال مرير وفي حرب عدوانيّة شرسة، ومع المنافقين الّذين كانوا يعبثون بالمجتمع الإسلامي من الدّاخل، ولم يواجه أيّ نبيّ قبله مثل هذه الأجواء العدائية المتنوّعة في طبيعتها وفي نتائجها، ولكنه واجه ذلك كلّه بالكلمة الحرّة الواعية المثقّفة في الصراع، وبالموقف القويّ الحاسم في صراع المواقف، وبالخطّة الحكيمة الذكيّة في مواجهة التخريب الاجتماعي النفاقي من خلال روحيّة الرّسالة، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[30]، وذلك هو أسلوب الرساليّين في حركة الصّراع مع أعداء الرّسالة.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [البقرة: 120].

[2]  [المائدة: 82 ـ 84].

[3]  [آل عمران: 59 ـ 61].

[4]  [البقرة: 8 ـ 10].

[5]  [البقرة: 13ـ 14].

[6]  [البقرة: 9].

[7]  [البقرة: 15].

[8]  [النساء: 60 ـ 63].

[9]  [النساء: 141].

[10]  [النساء: 142ـ 143].

[11]  [الأحزاب: 12 ـ 15].

[12]  [الأحزاب: 18ـ 19].

[13]  [الحشر: 11ـ 12].

[14]  [المنافقون: 1 ـ 8].

[15]  [سبأ: 24].

[16]  [الأحقاف: 4].

[17]  [الأنعام: 148].

[18]  [الأنبياء: 21 ـ 22].

[19]  [الإسراء: 42].

[20]  [المؤمنون: 91].

[21]  [الأعراف: 191 ـ 195].

[22]  [البقرة: 164].

[23]  [النحل: 78].

[24]  [يونس: 101].

[25]  [آل عمران: 191].

[26]  [الكافرون].

[27]  [آل عمران: 64].

[28]  [العنكبوت: 46].

[29]  [آل عمران: 64]

[30]  [النحل: 25].


وما زال الحديث عن أهل الكتاب ـ تتمّةً لما مضى من الحديث عن المنهج النبويّ ـ في مواقفهم العدوانيّة ضدّ الرّسول والرّسالة. ونقف مع النّصارى، حيث تحدَّث القرآن عن انحرافهم العقيديّ، من خلال اعتقادهم بألوهيّة السيّد المسيح(ع)، أو ذهابهم إلى التّثليث، أو أنّه ابن الله، وعن قولهم إنّه لن يدخل الجنّة غيرهم، وإنّ الانتماء إليهم هو خطّ الهدى، وإنهم أبناء الله وأحبّاؤه، كما خاطبهم النبيّ(ص)، بأنهم كاليهود، لن يرضوا عنه حتى يتّبع ملتهم، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[1]، وأنهم اتخذوا أحبارهم من دون الله والمسيح ابن مريم، وأنهم خالفوا الميثاق الّذي أخذه الله عليهم، فنسوا حظّاً مما ذكِّروا به. وقد كان الأسلوب القرآنيّ عنيفاً في مناقشة أفكارهم، كما هو المنهج العلميّ في العنف الفكريّ ضدّ الأفكار الأخرى، مقارناً بالأسلوب الإنساني المبنيّ على الرفق واللّين في العلاقات الإنسانيّة.

وقد تحدَّث القرآن بإيجابيّة عن النصارى، من خلال سلوكهم الأخلاقي، وذلك هو قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}[2].

ويذكر المفسّرون أنَّ هذه الآيات نزلت في النجاشي وأصحابه، الذين استقبلوا المسلمين المهاجرين إلى الحبشة فراراً بدينهم، بكلّ رحابة، ولما استمعوا إلى الآيات القرآنيّة، تفاعلوا معها، وانفتحوا على مضمونها الروحيّ والفكريّ، وقد أكَّدت الآيات الجانب الأخلاقيّ في شخصيّتهم، من خلال تواضعهم، ومن خلال القيم الروحيّة التي يحملها القسّيسون والرّهبان الذين يعيشون في آفاق الروحانيّة المنفتحة على الله، الأمر الّذي يجعلهم في موقع الانسجام مع الوحي الإلهي الذي يفيض بالحقّ على عقول الناس وقلوبهم، فيدفعهم ذلك إلى الإيمان من دون تعصّب.

ولم يتحدّث القرآن الكريم ـ في مدى المرحلة النبويّة الشّريفة ـ عن أيّ سلوك عدوانيّ، أو أية مشكلة حادّة من قبل النصارى ضدّ الإسلام والمسلمين في الواقع الميداني، وقد أشار القرآن إلى حادثة الحوار الاحتجاجيّ بين النبيّ محمد(ص) والنصارى الّذين قدموا عليه من (نجران) حول شخصيّة عيسى ابن مريم(ع)، من خلال الاختلاف الفكري والعقيدي بين النصارى والمسلمين، الأمر الذي أدّى إلى طلب المباهلة الذي هو الأسلوب الروحي في طريقة إغلاق الحوار، إذا لم يؤدّ الجدال إلى نتيجة من خلال المرتكزات الفكريّة، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[3]. وقد استقبل رسول الله(ص) الوفد، ورحّب بهم، وأكرم وفادتهم، وحين حانت صلاتهم ضربوا بالناقوس، وصلّوا في مسجد رسول الله(ص) إلى المشرق، وأراد الصحابة منعهم، ولكنّ النبيّ(ص) قال: دعوهم، وقيل إنَّ بعضهم أسلم بعد ذلك.

حركة النفاق

وهناك فريق آخر واجه الرسالة بطريقة نفاقيّة، فقد أعلنوا الإسلام، وأبطنوا الكفر، وأربكوا الواقع الإسلاميّ بوسائلهم الملتوية، وتحالفوا مع المشركين واليهود، وأثاروا الإشاعات الكاذبة في المجتمع المسلم، من أجل إيجاد حالة اهتزاز نفسيّ وقلق أمنيّ، وكادوا للرّسول، وتجرّأوا عليه بمختلف الوسائل والأساليب. وقد تحدَّث القرآن عنهم بأكثر منه سورة، كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ *يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[4]. وكانوا يواجهون المؤمنين الطيّبين بالاستعلاء، باعتبارهم يملكون الثقافة التي ترتفع بإيمانهم عن إيمان الناس، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[5]، فهم يسخرون من المؤمنين في إظهارهم الإسلام، وقبولهم لهم، ما يدلّ على السذاجة التي يتمتّع بها المسلمون، فلا يدقّقون في خلفّيات الأشخاص، ليكتشفوا حقيقة المؤمن من غير المؤمن في عمق الانتماء.

وهكذا، يستخدمون أسلوب السخرية في مواجهتهم للإسلام وأهله، ولكنّها ليست سخرية ظاهرة، بل هي سخرية باطنة في داخل مجتمعهم الذي يتحرّك من موقع خطّة خفيّة يتوزّع فيها هؤلاء الأدوار في دخولهم إلى المجتمع الإسلامي، ليملكوا حرية العبث فيه، وتمزيق وحدته، وإرباك خططه. ولكنَّ الله يردُّ عليهم بأنهم مكشوفون أمامه وأمام المسلمين، بما يكشف الله لهم من أمرهم، وذلك هو قوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}[6]، وقوله أيضاً: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[7].

ويصوّر لنا القرآن بعض أوضاعهم، من خلال بعض النماذج في ممارساتهم الحركيّة في داخل المجتمع، وذلك هو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}[8]، فهؤلاء يعلنون الإيمان، ولكنَّهم يتصرّفون بعيداً عن منهجه وشريعته، لأنهم في أوضاعهم الحقيقيّة الخاصّة، يرجعون إلى القاعدة الفكريّة التي ينتمون إليها، وهي الكفر الذي يلتزم الطّاغوت ويرفض حكم الله. وربما كانوا يبرّرون ذلك بانتقادهم للأسس الّتي يرتكز عليها حكم الشريعة، ليربكوا الإيمان العمليّ والثقة بالإسلام حكماً وشريعةً في نفوس المسلمين.

ويحدّثنا الله عن بعض منطقهم المتأرجح في مضمونه: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[9]. ويمتدّ الحديث إلى الاهتزاز في حركتهم، الّتي توحي بما تختلج به نفوسهم من عدم الجديَّة في إيمانهم الظاهريّ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[10]، وكانوا يقدِّمون الأعذار عن تخلّفهم عن الرّسول في معاركه، كما حدث معه في غزوة "تبوك"، مما تحدّثت عنه سورة التوبة، حيث كانوا يقومون بإثارة روح الهزيمة في ساحة الحرب بين المسلمين والمشركين، وكما حدّثنا الله عن ذلك في معركة "الأحزاب": {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}[11]. وتتابع السورة الحديث عن بعض أوضاعهم التخذيليّة: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}[12].

النّفاق المزدوج

ولم يقتصر نفاقهم على سلوكهم مع المسلمين، بل امتدّ إلى علاقتهم مع أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ}[13]، فهم لا ينفتحون إلا على مصالحهم الخاصّة، ولا يقفون عند عهودهم والتزاماتهم، سواء مع المسلمين أو مع غيرهم، فهم يتحرّكون من موقع إلى موقع، وينقضون العهد مع هذا الفريق إذا كان الوفاء به مضرّاً بأوضاعهم، كما أنهم يفعلون الشّيء ذاته مع الفريق الآخر. ولذلك، تحوَّلوا إلى خطرٍ على المجتمع الإسلاميّ، الذي لم يكن كلّ أفراده واعين لأوضاع هؤلاء، فربما كانت أساليبهم من الدقّة، بحيث يصعب اكتشافها من خلال الجماهير الواسعة الطيّبة، ولا سيما إذا كانت جزءاً من خطّة دقيقة خفيّة تستخدم عناوين الإثارة ووسائل الإشاعة الّتي تحرك مشاعر الناس الطيّبين.

وقد تحدّثت سورة "المنافقون" عنهم بإظهار ملامحهم الداخلية والخارجية، وذلك من خلال قوله تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} في التزامهم العقيديّ بهذه الشّهادة، لأنهم لا يعترفون برسالتك، {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}، أي درعاً يقون به أنفسهم، وحفاظاً على مواقعهم في المجتمع الإسلامي، {فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، بأساليبهم الملتوية الخادعة المضلّلة المثيرة، {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}، لحلاوة منطقهم باشتماله على عناصر الاجتذاب الشعوريّ، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} في مظهرهم الهادئ الثابت، ولكنهم يعيشون القلق النفسي، بسبب الأخطار المقبلة من تحدّيات الواقع، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، لأنهم لا يركنون إلى قاعدة ثابتة، بل ينتقلون ـ تبعاً لشهواتهم ومصالحهم ـ من موقع إلى موقع، فيكيدون لهذا وذاك، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ـ فهو القريب إلى الله، الذي يستجيب الله دعاءه، لتتخلّصوا بذلك من غضب الله ـ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْـ رفضاً لهذه الدّعوة ـ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواـ في عملية ضغط اقتصادي على المؤمنين، لأنهم إذا رأوا أن علاقتهم بالرسول وبالإسلام سوف تؤثر في معائشهم، تفرّقوا عنه، واتبعوا الذين يملكون المال من المنحرفين عن الإسلام ـ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ـ فهو الذي يرزق عباده المؤمنين من حيث لا يحتسبون ـ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}.

ويتابع القرآن الحديث عنهم في مقولةٍ أخرى لهم، في التحدّي الصارخ للنبيّ(ص)، في عمليّة عرض للقوّة التي يملكونها من خلال أتباعهم، أمام القلّة التي تحيط بالنبيّ من عشيرته: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ـ والمراد به النبيّ(ص)، لأنه لم يكن من أهل يثرب، بينما كان هذا المنافق رئيس عشيرة في المدينة ـ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[14].

وهكذا، نلاحظ كيف مارس هؤلاء المنافقون أساليب العداوة الخفية المتحركة في وسائلها وأوضاعها وتحالفاتها مع أعداء الله من المشركين واليهود، ضدّ الإسلام وأهله، وربما كانوا من أخطر الأعداء، لأنهم من الدّاخل، ويرتبطون بمفاصل المجتمع، ومواقع القوّة فيه. وفي هذا الجوّ كلّه، المليء بالعداوة المتنوّعة للرّسول والرسالة وللمسلمين في اتجاهات الشّرك ضدّ التوحيد، وأهل الكتاب ضدّ أهل القرآن، والمنافقين ضدّ المخلصين، نلاحظ أنّ النبيّ(ص) واجه في ساحات الصّراع ما لم يواجهه نبيّ قبله، فقد عاش صراع الدّعوة مع القوى المضادّة على المستوى الفكري، حتى من الذين يؤمنون بالتوحيد، ولكن مع مزيج من الشّرك، وتحمّل في سبيل ذلك ـ مع المؤمنين به ـ المزيد من الاضطهاد، كما عاش الحرب المسلَّحة في أكثر المواقع، بما شغله عن تنفيذ خطّته في حركة الرّسالة في عقول الناس وقلوبهم وإدخالها الفعليّ إلى حياتهم.

الحوار الثّقافيّ

ولكنَّه بالرّغم من ذلك، واجه تنوّعات التحدّيات بالأسلوب الرّساليّ الّذي كان يتحرّك بالفعل النبويّ الَّذي يرتكز على خطّة الرّسالة في إعطاء الآخرين الفرصة الثقافيّة الروحيّة في الالتفات إلى أبعاد الجوانب الشخصيّة والماديّة في موقف الرّسول، واعتبار المسألة أنّها مسألة الرّسالة الّتي تؤكّد مواطن اللّقاء بينها وبين الاتجاهات الأخرى في مواقع هذا اللّقاء، والحوار في مواطن الخلاف، بينما تؤكّد الثّوابت العقيديّة في الاتجاه الّذي يمثّل نقاط التضادّ الفكريّ على مستوى القاعدة، عند استنفاد أساليب الحوار، فقد خاطب المشركين بالدّعوة والنظرة الموضوعيّة إلى نقاط الخلاف، بأسلوب حضاريّ يبتعد عن الحوار الّذي ينطلق من تحدّيات النظرة الذاتية الرافضة للذّات الأخرى، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[15]. وينطلق معهم ليطالبهم بالدّليل، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[16]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ}[17]. ولم يقدّم هؤلاء أيّ دليل، فيبادر إلى إقامة الدّليل على استحالة الشّرك، وذلك هو قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[18]. وقوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}[19]، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[20].

ويتابع التحدّي الفكريّ في اعتبار الواقع دليلاً على بطلان الشّرك: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ}[21].

أمّا الملحدون، فإنّ محور الجدال معهم كان يدور في فلك آيات الله الكونيّة وأسرار الوجود وحقائقه، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[22]، وقوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[23]، وقوله تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}[24]، وقوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}[25]، ويتصعّد الموقف في نهاية المطاف بعد أن ينتهي الحوار إلى نقطة اللارجوع، فيحسم القرآن الكريم الموقف بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[26]. أما أهل الكتاب، فيدعوهم إلى اللقاء على الأرض الفكرية المشتركة في الخطّ العام ـ مع الاختلاف في التفاصيل ـ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[27]، وفي آية أخرى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[28]. وفي حالة الإعراض، ينتهي الحوار: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[29].

وقد دخل القرآن مع أهل الكتاب، ولا سيّما اليهود، في جدال عقائديّ يتناول فيه تفاصيل مسألة التوحيد، والأمور التي أثاروها في وجه الرّسول والرّسالة، بالأسلوب الحواريّ المرتكز على الحجّة الداعية والحجّة المضادَّة. أمّا المنافقون، فلم تكن المسألة معهم مسألة فكر يصادم فكراً، بل كانت المسألة مسألة انحراف عمليّ، وموقف عدائيّ، وحركة تخريبيّة في داخل المجتمع الإسلاميّ، ولذلك، كان الأسلوب القرآني يتحرّك في فضح حقيقتهم وإظهار نفاقهم، لتوعية المؤمنين في الحذر من خططهم العدائية ومن وسائلهم التخريبيّة، لأنهم لم ينطلقوا من قاعدة تنفتح على قضايا الحوار، بل من موقع ظلم للحقّ وأهله.

عدوانيّة متنوّعة

وخلاصة الكلام، أنَّ النبيَّ محمداً(ص) واجه في كلّ حركته الرساليّة التحدّيات الكبرى في حركة الصّراع مع الكفر الإلحادي والإشراكي والديني، في جدال مرير وفي حرب عدوانيّة شرسة، ومع المنافقين الّذين كانوا يعبثون بالمجتمع الإسلامي من الدّاخل، ولم يواجه أيّ نبيّ قبله مثل هذه الأجواء العدائية المتنوّعة في طبيعتها وفي نتائجها، ولكنه واجه ذلك كلّه بالكلمة الحرّة الواعية المثقّفة في الصراع، وبالموقف القويّ الحاسم في صراع المواقف، وبالخطّة الحكيمة الذكيّة في مواجهة التخريب الاجتماعي النفاقي من خلال روحيّة الرّسالة، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[30]، وذلك هو أسلوب الرساليّين في حركة الصّراع مع أعداء الرّسالة.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [البقرة: 120].

[2]  [المائدة: 82 ـ 84].

[3]  [آل عمران: 59 ـ 61].

[4]  [البقرة: 8 ـ 10].

[5]  [البقرة: 13ـ 14].

[6]  [البقرة: 9].

[7]  [البقرة: 15].

[8]  [النساء: 60 ـ 63].

[9]  [النساء: 141].

[10]  [النساء: 142ـ 143].

[11]  [الأحزاب: 12 ـ 15].

[12]  [الأحزاب: 18ـ 19].

[13]  [الحشر: 11ـ 12].

[14]  [المنافقون: 1 ـ 8].

[15]  [سبأ: 24].

[16]  [الأحقاف: 4].

[17]  [الأنعام: 148].

[18]  [الأنبياء: 21 ـ 22].

[19]  [الإسراء: 42].

[20]  [المؤمنون: 91].

[21]  [الأعراف: 191 ـ 195].

[22]  [البقرة: 164].

[23]  [النحل: 78].

[24]  [يونس: 101].

[25]  [آل عمران: 191].

[26]  [الكافرون].

[27]  [آل عمران: 64].

[28]  [العنكبوت: 46].

[29]  [آل عمران: 64]

[30]  [النحل: 25].

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير