فلسطين أرض الرسالات وأم القضايا وعمق العالم الإسلامي وامتداده

فلسطين أرض الرسالات وأم القضايا وعمق العالم الإسلامي وامتداده

السيد فضل الله لقناة "القدس":

فلسطين أرض الرسالات وأم القضايا وعمق العالم الإسلامي وامتداده*


من الصعوبة أن تجد تعريفاً للمرجع والمفكر الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله، فهو ليس طرف معادلة ولا طرفي معادلة، بل هو المعادلة نفسها، ومن الصعوبة أن تغوص في محيطه، فهو ذو باعٍ طويل في المعارف الإسلامية، وقارىء دقيق للماضي والراهن، ومستكشف بارع لمنحنيات السياسة وتفرعاتها، جسده في العاصمة اللبنانية بيروت، وقلبه وعقله مع كل القضايا الساخنة على خط طنجة جاكرتا، ويترافق هذا الاهتمام مع صياغته لمشروع إسلامي نهضوي قوامه الموروث الإسلامي ورؤى العصر التي لا تعارض الشريعة الإسلامية، والوحدة الإسلامية. نعم، الوحدة الإسلامية التي حمل رايتها وأفتى بوجوب توحّد المسلمين لمواجهة الانكسار العارم، وجعل وحدة المسلمين شرطاً أساساًً للنهضة الإسلامية.

وقد كان سماحته على الدوام ضمانةً لإطفاء أي صراع مذهبي يتسلل من نافذته المتربصون بهذه الأمة. بعد ظهر يوم الجمعة 8 آذار 1985، حاولت المخابرات الأمريكية استهدافه، فقد كان يشكل الهدف الثمين للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية... حصيلة عملية تفجير بئر العبد كانت ثمانين شهيداً، من جملتهم أربعون امرأةً، قال عندها سماحته: إنهم يخوفّوننا بالموت، والموت لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة.

وفي هذا الظرف الاستثنائي، وفي مفترق الطرق، خصّ سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، قناة القدس الفضائية بحوار خاص، مبيّناً أبعاد الإغارة الكبرى على فلسطين، وأبعاد مشروع فرض التسوية بقوة القرارات والدبابات، مستشرفاً مستقبل المقاومة في فلسطين.

فلسطين: الجغرافيا والقضية

س: سماحة السيد، نريد أن نعود معك قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى النجف، وبالأخص إلى سنة 1947، عندما كان عمرك 12 سنة، وقتها نظّمت قصيدةً جاء فيها:

دافعوا عن حقنا المغتصبِ              في فلسطين بحدِّ القضبِ

واذكر عهد صلاحٍ حينما             هبّ فيها طارداً الأجنبي

الآن وبعد أكثر من ستين سنة، ما زالت فلسطين مغتصبة، وما زال حلمك بطرد الأجنبي قائماً. وقبل الغوص في أبعاد الإغارة الكبرى على غزة، وعلى فلسطين كلها، نودّ أن نسألك: هل فلسطين بالنسبة إليك مجرد جغرافيا أم أنها تمثل شيئاً آخر؟

ج: منذ بداية وعيي وأنا أفكر في الإسلام في سعته وامتداده وفي كل قضاياه، وقد كنت، وما زلت، أتابع كل التعقيدات اليهودية التي انطلقت من خلال الخطة الغربية التي تتحرك في دائرتين:

الدائرة الأولى: إحساس الغرب بخطورة التواصل بين البلاد العربية والدول الإسلامية، باعتبار أن هذا التواصل يمكن أن يتحول في المستقبل إلى وحدة عربية تفتح الأفق لوحدة إسلامية بإمكانها أن تشكل خطراً على المصالح الغربية في المنطقة، باعتبار أن البلاد العربية والإسلامية تمثل الاحتياط العالمي لكل ثروات الرخاء للعالم الغربي. ولذلك قامت بريطانيا بالتحالف آنذاك مع الصهيونية، بإعطاء اليهود وعداً بأن تكون فلسطين أرضاً لهم يقيمون عليها دولتهم، وهو ما شرّع لليهود الإرهابين الذين فجّروا فندق الملك داود، وارتكبوا مجزرة دير ياسين، أن يشردوا الفلسطينيين من أرضهم، لتكون فلسطين أرضاً بلا شعب.

وهكذا استطاعوا أن يفصلوا بين البلدان العربية بهذا الجسم الأجنبي الذي تحالف الغرب معه من أجل إثارة الفوضى الأمنية والسياسية في العالم العربي كله، امتداداً إلى العالم الإسلامي.

أما الدائرة الثانية: فهي أن العالم العربي لم يكن آنذاك يملك أية أصالة في هويته، بل كان يمثل مزقاً متناثرةً استطاع الاستعمار البريطاني في المنطقة أن يحولها إلى ما يشبه السقوط السياسي، بعد أن جعل الذين يحكمون العالم العربي وبعض العالم الإسلامي خدماً للمصالح الغربية، وهو ما نعاني منه في البلاد العربية كافة، ولاسيما في البلد الذي ولدت وأقمت فيه مدة شبابي، وهو العراق.

لذلك كنت أفكر في أن فلسطين تمثل مظهر الخطة الغربية التي تختزن في داخلها الحقد على الإسلام والمسلمين، والانطلاق نحو استثمار ثرواتهم الطبيعية، لتكون لها الحرية في إدارتها بعيداً عن سلطة القائمين على شؤون هذا العالم. لذلك فإنني في نهاية طفولتي وبداية شبابي، وعندما كنت أقرأ الصحف وأستمع إلى الإذاعات، كنت أشعر بأن فلسطين تمثل البلد الذي تلتقي فيه مقدَّسات الأديان كلها، والبلد الذي يطمح اليهود في امتدادهم الغربي إلى السيطرة عليه من أجل أن تكون فلسطين هي قاعدة العالم، باعتبارها قاعدة المقدَّسات الدينية للعالم كله.

وهكذا بدأ التخطيط اليهودي، وكنا نشعر بأن فلسطين هي حقُّنا كعرب وكمسلمين، وأنّ الغرب اغتصب فلسطين بالانتداب، ثم أفسح في المجال لاغتصاب اليهود لها اغتصاباً استيطانياً. ولذلك كنت أفكر في فلسطين، وكنت أقرأ التاريخ وأتابع عقدة الغرب من اضطهاد اليهود الذين استقبلهم المسلمون في كل تاريخهم، وعقدتهم من النازية، ولكنهم بدلاً من أن يمنحوهم أرضاً في مناطقهم، ساعدوهم على اغتصاب فلسطين التي حاولوا أن يحيطوها بالأساطير اليهودية التي تجعلها وطناً قومياً لليهود في العالم.

تأييد دوليّ للاعتداءات الإسرائيلية

س: سماحة السيد، سكنتك فلسطين ولا تزال تسكنك، ولعلّك بتّ ملامساً لكلّ تضاريس الحالة الفلسطينية، ولعلّك أيضاً من الذين نبّهوا من الاجتياح الإسرائيلي لغزّة، والذي حدث يوم عطلة اليهود السبت في 27 ك1 عام 2008م قبل تحقّق هذا الاجتياح، عندما قلت: "ولهذا فإن العدو الذي يمارس كل أنواع الضغوط العسكرية في غارات الطائرات الحربية أو الطائرات من دون طيار، يحضّر الأجواء العالمية لتقبّل المجازر التي قد ترتكبها آلته العسكرية في غزة، وقد حدث ذلك؟!

ج: لعلّ المشكلة هي في المحور الدولي الذي تقوده أمريكا، وفي المحور العربي الذي سقطت أكثريته تحت أقدام السياسة الأمريكية، فنحن نلاحظ أنّ هذا المحور كان الدّاعم الأساسيّ لكلّ الإجرام الإسرائيلي، وهذا ما لاحظناه في كلّ المجازر الإسرائيليّة في لبنان ومصر وسوريا والأردن، وأيضاً في حرب تموز التي تحالفت فيها أمريكا مع إسرائيل.

س: المحاور مقاطعاً: أنا أريد أن أذكّر هنا أنّ الطائرات الإسرائيلية في حرب تموز 2006م استهدفت منـزل السيد محمد حسين فضل الله، وكذا مكاتبه، منذ الأيام الأولى في 14 تموز، حيث حوّلت هذه الأماكن إلى أطلال، لكن السيد ظلّ يتسع بفكره وما زال حياً فيما مشروعهم بدأ يتلاشى؟

ج: لقد لاحظنا في ذلك الوقت الدعم الأمريكي الكبير لهذا العدوان، والذي تمثّل بالجسر الجوي الذي كان يزوّد إسرائيل بالقنابل الذكية التي اخترقت أجواء بريطانيا ووصلت إلى فلسطين، ثم لاحظنا بعد ذلك كيف أن المسؤولين الأمريكيين الذين اعتبروا أن الحرب هي حربهم، لأنهم خطّطوا من أجل إسقاط المقاومة الإسلامية في لبنان، امتداداً إلى إسقاط المقاومة في فلسطين وفي العالم العربي كله، لاحظنا أنهم أرادوا من إسرائيل الاستمرار في الحرب، ولكن إسرائيل كانت تشعر بالإحباط وبالضعف بسبب ما واجهته من قوة المقاومة وصمود مجاهديها، وبأنها لن تستطيع أن تكمل الحرب من دون خسائر كبيرة ومن دون سقوط لعنفوانها، حتى امتدت الحرب إلى ثلاث وثلاثين يوماً، شعرت فيها أمريكا بأن إسرائيل لم تعد قادرةً على تحقيق النصر.

ولذلك تحولت الخطة الأمريكية إلى محاولة للانتصار السياسي الدبلوماسي في مجلس الأمن، وفي المؤتمرات الدولية التي حدثت في إيطاليا، والتي حشدت كل العالم، ومن ضمنه العالم العربي، للحملة على المقاومة الإسلامية وتحميلها مسؤولية هذه الحرب.

س: سماحة السيد، أنا أتذكر أنه كان لديكم دور، لا أقول فقط إنه عظيم، بل كان دوراً عملاقاً في دعم رجال المقاومة، وربما كانوا يتزوّدون بهذا الشحن المعنوي الذي جعلهم ربما لأول مرة في التاريخ العربي ينتجون نصراً، ويؤكدون على صعيد الخطاب العربي والإسلامي، أننا لسنا صنّاع هزيمة، بل إننا نستطيع أيضاً أن ننتج نصراً، لكن سماحة السيد، من الضرورة بمكان أن نعود إلى نقطة يمكنك كشاهد على العصر، وطبعاً على مرحلة بكاملها، أن ترى أنّ مشروع التحرير قد تحقق في أكثر من جغرافيا عربية وإسلامية، فالثورة الجزائرية، مثلاً، حققت التحرير من الاستعمار الفرنسي الذي استمر مئة وثلاثين سنة، وثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب أنتجت تحريراً في المغرب، وهناك ثورات عدة في المشرق العربي أيضاً حقّقت استقلالات هنا وهناك، فلماذا إلى الآن لم ينجز مشروع التحرير في فلسطين؛ هل هو خلل في آليات المواجهة التي تستخدمها الفصائل الفلسطينية مع الكيان الصهيوني، أم ترد ذلك إلى أسباب أخرى؟

ج: لقد رأينا في متابعتنا للمؤتمر الدولي الذي قادته أمريكا، والذي أيّده بعض العرب السائرين في ركابها، أن العالم الغربي كان يهودياً، لا بالمعنى الديني ولكن بالمعنى السياسي، وأن الصهيونية استطاعت بدعم وغطاء أمريكيين، أن تدخل إلى مفاصل الذهنية الغربية بشكل عام، وأن تسيطر على مشاعر الواقع العربي لتصنع في داخله قاعدة الهزيمة وتجعله يتعقد من انتصار المقاومة الإسلامية على إسرائيل، لأن هذا الانتصار قد يخلق انطباعاً عربياً إسلامياً بأن الدول العربية مجتمعةً باستطاعتها أن تصنع النصر، ولكن عنصر الهزيمة المسيطر على ذهنية القائمين على شؤون العالم العربي لا يزال قائماً في كل كياناتهم، لأنهم لا يستطيعون أن يغضبوا أمريكا.

المقاومة صانعة النّصر

س: بعبارة أوضح سماحة السيد، هل تودّ أن تقول إن إنجاز المقاومة في لبنان عرّى النظام الرسمي العربي؟

ج: صحيح، لأن إسرائيل استطاعت في كل حروبها التي هزمت فيها أكثر من جيش عربي، أن تعمّق الإحساس بعناصر الضعف في داخل العالم العربي، وأن تخلق في داخله من باب الاحتياط للمستقبل، الإحساس بأنه لا نصر له مع إسرائيل. وهكذا لاحظنا كيف أن الشباب العربي المسلم المقاوم في المقاومة الإسلامية، استطاع بإيمانه وخبرته وإخلاصه لإنسانه ولتاريخه أن يصنع تاريخ النصر.

وأنا أتابع هذه المسيرة الإسلامية العربية منذ بداياتها، لأن هذا الجيل في المقاومة الإسلامية هو جيل أبنائي الذين ربّيتهم بدماء قلبي، وبدموع عينيّ، وبكل الجهد الذي بذلته لتكوين جيل إسلامي مقاوم يعيش بين خطّين: النصر أو الشهادة ، {قل هل تربّصون بنا إلا إحدى الحسنيين} [التوبة:52]. ولم تكن الشهادة مزاجاً، بل كانت انطلاقةً في خطّ انتصار الإنسان على عدوّه، ليسقط في معركة الحرية. لذلك سعت أمريكا من خلال قرار مجلس الأمن 1701 أن لا يذكر وقف إطلاق النار في أيٍّ من بنوده، لتبقى الساحة مفتوحةً لإسرائيل للدخول إلى لبنان ومواجهة المقاومة الإسلامية في أيّ وقت على أساس قرار مجلس الأمن.

ولذلك، فإنّ المسألة هي مسألة الحرب الأمريكية الإسرائيلية على المقاومة، ولكنّ السياسيين والضباط الإسرائيليين والإعلام الإسرائيلي، خذلوا كل الذين كانوا ينظِّرون لإعلان هزيمة المقاومة الإسلامية على أساس استحضار المأساة في المجازر التي حصلت للبنانيين، وخصوصاً قتل الأطفال وتدمير البيوت على رؤوس أصحابها، لقد خذلهم الإعلام الإسرائيلي بكل أشكاله، عندما أعلن الهزيمة الإسرائيلية بالصوت العالي، والتي تعني هزيمة أمريكا عسكرياً من خلال سلاحها، وسياسياً من خلال تدمير محاولتها الإعلان بأن المقاومة خسرت وأن إسرائيل انتصرت، وقد تحدث كثير من المسؤولين العرب ومن السياسيين اللبنانيين عن المأساة أكثر مما تحدثوا عن النصر، كأنهم يريدون أن يتحدثوا عن الشخصية البكائية العربية بدلاً من الشخصية المنتصرة.

س: تأكيداً لكلامكم، يقول بعض المحللين العسكريين الإسرائيليين الاستراتيجيين، إنّ الاختراق الأخطر الذي أنجزته المقاومة الإسلامية في لبنان، هو أن المعادلة على امتداد الصراع العربي الإسرائيلي كانت أن إسرائيل تضرِب ولا تُضرَب، تصفَع ولا تُصفَع، ولكنّ حرب تموز 2006م غيّرت هذه المعادلة، فقد صارت أن إسرائيل تصفَع وتُصفَع وتضرِب وتُضرَب، بمعنى أنه بات هناك توازن في كل الحسابات السياسية والعسكرية وحتى الاستراتيجية؟
    استطاعت الصهيونية بدعم وغطاء أمريكيين، أن تدخل إلى مفاصل الذهنية الغربية والعربية لتصنع في داخله قاعدة الهزيمة وتجعله يتعقد من انتصار المقاومة الإسلامية على إسرائيل

ج: هذا صحيح، ولكن المشكلة أنّ بعض خطوط السياسة العربية الخاضعة للسياسة الأمريكية، عطّلت إرادة النصر لدى الجيوش العربية، وذلك من خلال تقديم التنازلات التي تحوّلت من: (لا مفاوضات، لا صلح، لا اعتراف) إلى تقديم التنازلات بالاعتراف وبالمفاوضات العبثية، ثم بالصلح، من خلال ما أقدمت عليه أكبر دولة عربية، ثم تبعتها دولة أخرى، من تنسيق مع إسرائيل تحت الطاولة.

ولذلك، فإنّ قيمة شباب المقاومة أنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وأنهم عندما كانوا يتألمون، كانوا يستحضرون قول الله سبحانه وتعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [النساء:104]، وقوله تعالى: {إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران:139]. وقد عرفوا أن مسألة الاحتلال والظلم ليست خالدةً، بل إن الظالم سوف يسقط، والمظلوم سوف ينتصر.

لذلك، فإنني أتصوّر أن حرب غزّة ليست حرباً إسرائيلية فحسب، بل هي حرب أمريكية تنطلق لمعاقبة الفصائل الفلسطينية بإفشال مشروعها في التسوية المذلّة التي تسمح لإسرائيل بتحقيق استراتيجيها في السيطرة على أكثر فلسطين، ليبقى القسم الباقي مسيطراً عليه بشكل غير مباشر.

وهكذا رأينا أيضاً أن دول الاعتدال العربي الذين ثقّفتهم الوزيرة رايس من جهة، وديك تشيني من جهة ثانية، باعتبار أن أمريكا هي المرجع الثقافي الذي يعلّم العرب كيف يختارون الصديق والعدو، رأينا كيف أن هذه الدول باتت تتعاطى مع إيران بأنها هي العدو، ومع إسرائيل بأنّها الصديق، وأن عليهم أن ينسّقوا مع إسرائيل، وهذا ما لاحظناه في مؤتمر "أنابوليس" وفي مؤتمر "حوار الأديان.

لذلك فإن هذه الحرب المجنونة الكارثية التي لم يعهد في الحروب العالمية حربٌ في مستوى وحشيتها وقسوتها وعدم إنسانيتها، هذه الحرب هي حرب أمريكية إسرائيلية عربية على حركة حماس، لا بلحاظ جانبها الحركي، لأن هناك حركة الجهاد الإسلامي والحركات الأخرى الشعبية التي تقف مع حماس في مواجهة العدو وفي قصفها لمناطقه، بل بلحاظ أنّ المطلوب في هذه الحرب، كما صرّح الإسرائيليون، هو إسقاط الممانعة المتمثلة بالمقاومة والانتفاضة. هذا هو المشروع الأمريكي الإسرائيلي العربي الرامي إلى القضاء على المشروع الفلسطيني الشعبي في بقاء القدس عاصمةً لفلسطين وفي حق العودة وإزالة المستوطنات والجدار الفاصل.

ولذلك، فإن المسألة تشمل كل المشروع الفلسطيني، بالرغم من أن بعض الفلسطينيين، ومنهم السلطة الفلسطينية، يتحدثون بالشعارات، ويعرفون أنها مجرد أوهام سلطوية لا تسمح لهم إسرائيل بأن يحققوا شيئاً منها، كما أن العرب الذين يتحدثون دائماً عن المبادرة العربية، يعرفون أن شارون قال: إنها لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت عليه، وإسرائيل الآن تعمل على أن لا تساوي هذه المبادرة في قيمتها أكثر من قيمة الورق.

فلسطين والعالمين الغربي والعربي الرسمي

س: سماحة السيد، عندما سألتك لماذا تأخر مشروع تحرير فلسطين، فيما هناك بلدان عربية وإسلامية تحرّرت، قلت إن النظام الرسمي العربي عطّل مشروع التحرير، وربما لأول مرة في خطابنا العربي نسمع عن مشاريع أمريكية إسرائيلية عربية بالتوازي، وكأن رقعة التحدي قد كبرت. تأكيداً لكلامكم سيدنا، هناك معلومات أنه قبيل بدء الاجتياح لغزة، طارت شخصية عربية من محور الاعتدال العربي إلى واشنطن وقابلت فريق أوباما على وجه التحديد، وأعطاهم الضوء الأخضر الأمريكي لأي عملية عسكرية ضد غزّة، واتفقوا على أنه بعد إنهاء حركة حماس في غزة، وبشكلٍ كامل، سوف يكون العمل على جعل بنود مؤتمر "أنابوليس" مرجعية خارطة الطريق، وعلى إرجاع غزة إلى حظيرة السلطة الفلسطينية، والأخطر من ذلك، أن المسؤول الإسرائيلي قال في هذا اللقاء إنه بعد انتهاء الانتخابات التشريعية الإسرائيلية سنثأر ممّا حصل في تموز 2006، وهذا ما جعل سماحة السيد حسن نصرالله يتكلم بصوتٍ عالٍ، ربما لأنه إذا ضاعت فلسطين ضاع مشروع الممانعة في العالم العربي والإسلامي وأصبحت التسوية سيدة الموقف؟

ج: أحبّ في البداية أن أعلّق تعليقاً سريعاً على ما تحدث عنه السؤال في مسألة الثورات العربية ضد الاستعمار، فما نلاحظه هو أن هذه الدول قد تخلصت من استعمار عسكري لتقع في استعمار اقتصادي سياسي، لأنّ بعض الدول العربية التي كانت مستعمرةً من قبل فرنسا وبريطانيا، وقعت في أحضان الاستعمار غير المباشر للإدارة الأمريكية في كل مراحلها، وليس في مرحلة بوش فحسب، لذلك لم تستطع هذه الثورات أن تعطي الحرية المطلقة لشعوبها...
    دول الاعتدال العربي باتت تتعاطى مع إيران بأنها هي العدو، ومع إسرائيل بأنّها الصديق

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن هناك بعض الأمور التي ينبغي الإشارة إليها في هذه المسألة، وهي أن حرباً بمستوى هذه الحرب الوحشية المجنونة التي مارست فيها إسرائيل تجاربها بواسطة طائرات الـ أف16 الأمريكية، إضافةً إلى استخدامها أسلحةً جديدةً ووسائل جديدة للتّعويض عمّا جرى معها في حرب تموز، إن حرباً مثل هذه لم تدفع العرب إلى اللقاء، لا على مستوى وزراء الخارجية ولا على مستوى القمة، في الوقت الذي نعرف أن الدول التي تحترم شعوبها وتحترم نفسها كدول الغرب، تلتقي قياداتها في الساعة الثانية مباشرةً بعد الساعة الأولى التي تحدث فيها المشكلة.

وهكذا نرى أن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي بادروا إلى الاجتماع لبحث قضية العدوان على غزة قبل أن تبادر الدول العربية التي تأخر اجتماع وزرائها إلى ما بعد مرور خمسة أيام على هذه الحرب، حتى إنهم اختلفوا على مكان انعقاد القمة، ما يوحي بأن العرب كانوا ينتظرون أن تستكمل إسرائيل خطتها في إسقاط حركة حماس والفصائل المجاهدة ريثما يقدِّمون التعازي والمساعدات التي لم يقدموها في كل التاريخ الذي سبق حرب غزّة عندما كان الفلسطينيون يعانون الجوع نتيجة الحصار وما إلى ذلك، لأنهم يعرفون أنّ فشل إسرائيل في هذه الحرب سيعني فشلاً عربياً، كما سيعني فشلاً أمريكياً إسرائيلياً.

س: سماحة السيد، ضربة غزة جاءت في وقت قيل إن المشروع الأمريكي في تراجع، وجاءت في وقت صرّح القاضي فينوغراد أن الجيش الإسرائيلي يحتاج على الأقل إلى خمس سنوات ليقوم بضربة عسكرية محتملة، وعلى هذا بنى محلِّلون عرب على أن أي سخونة في المنطقة لن تقع، ماذا جرى سماحة السيد؟

ج: إن المسؤول الإسرائيلي فينوغراد عندما أدلى بتصريحه، كان يأخذ في الاعتبار المقاومة الإسلامية في لبنان، أما بالنسبة إلى المجاهدين في فلسطين، فإنّ حركة القتل والاغتيال والاجتياح والحصار لم تهدأ طيلة هذه السنين. ولكن الأمر الجديد في هذه المسألة هو حجم الحرب التي أثيرت في غزّة، باعتبار أن الإسرائيليين والأمريكيين، وخصوصاً الإدارة الأمريكية التي سوف ترحل قريباً، أرادوا أن يسجِّلوا انتصاراً ولو بسيطاً في إسقاط حماس التي تعتبرها أمريكا حركةً إرهابية.

لذلك، فإنني أتصور أن على العالم العربي كله، وأقصد الشعوب، أن يتحرّك، لأنّ المسؤولين العرب في هذه المرحلة يخشون من صمود شعب غزة، هذا الشعب الجائع المحروم الذي يعاني من الأمراض المميتة، والذي لا يطلب من العرب مساعدات غذائية وطبية، بل يطلب منهم أن لا ينسِّقوا مع إسرائيل من أجل إسقاطه.

س: المعروف أنّ حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين فازت بانتخابات تشريعية نزيهة، حكم الاتحاد الأوروبي بنـزاهتها، ولكن عندما دخلت في منتدى السياسة الفلسطيني بدأ التآمر عليها، وبينما كان معبر رفح فضاءها الوحيد، أغلق هذا المعبر عليها جغرافياً، وبالتالي بدأ مسلسل الخنق. هل ترى أن حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين سوف تتراجع، وقد قلت سماحة السيد، إن المقاومة في فلسطين إذا انتصرت انتصر مشروع الأمة، وإذا انهزمت انهزمت الأمة كلها، واعتبرت أنه في غزة برز الإسلام كله إلى الكفر كله، فما هي رؤيتك؟
    المسؤولون العرب كانوا ينتظرون أن تستكمل إسرائيل خطتها في إسقاط حركة حماس و الفصائل المجاهدة ريثما يقدِّمون التعازي والمساعدات التي لم يقدموها قبل حرب غزّة عندما كان الفلسطينيون يعانون الجوع نتيجة الحصار

ج: إنني أعتقد أن حركة حماس، الحركة الإسلامية المجاهدة، إضافةً إلى حركة الجهاد الإسلامي والحركات الأخرى، حتى العلمانية منها، تملك إرادة الصمود، لأنها تملك إرادة الحرية وإرادة صناعة المستقبل. ولعلّ الذي يشجّعنا على الانفتاح على هذه العناوين، هو أن الشعب الفلسطيني قد وقف مع الحركات المجاهدة، وهذا ما فسّرته الانتخابات التشريعية، وأعتقد أنه لو حدثت هناك انتخابات رئاسية، فستنجح رموز المقاومة في ذلك أكثر مما تنجح رموز السلطة.

أما قضية الموقف الأمريكي والموقف الأوروبي من الانتخابات التي شهدوا بأنها انتخابات نزيهة، فهذا يدل على أنهم لا يريدون الديمقراطية إلا إذا كانت في خدمة مشاريعهم السياسية والاقتصادية والأمنية، أما إذا كانت الديمقراطية معارضةً لسياستهم، فإنهم يعملون على تطويقها بكثير من العناوين، ومنها عنوان الإرهاب، ولا يلتفتون إلى أن هذا يعني أن الشعب الفلسطيني كله إرهابي، لأنه صوّت للإرهابيين بحسب زعمهم.

مشروع الوحدة الإسلامية

س: عندما كان المسلمون أمةً واحدةً، وعندما كان همّهم واحداً وهدفهم واحداً، كان الانطلاق في المسرح الدولي، وكانت الحضارة والثقافة، ولكنّ المسلمين تفرّقوا شيعاً. نحن نرى في إسرائيل أنه قد يختلف في السياسة عضو من حزب كاديما مع عضو من حزب العمل أو الليكود، لكن عندما يتعلق الأمر بمصلحة إسرائيل، تختفي كاديما ويختفي العمل ويختفي الليكود. سماحتكم تدعون باستمرار إلى وحدة المسلمين، فما هو الدور الذي تلعبه هذه الوحدة في تحصين الأمة وإنجاز النصر؟

ج: لعلّ المشكلة أن المسلمين في أكثر المراحل التاريخية التي عاشوها، تغلّبت المذهبية عندهم على الإسلامية، حتى إنّ بعضهم قال في إيحاء كلامه، وإن لم يقله صراحةً، كما قال اليهود عن المشركين: {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} [النساء:51]. إن هناك متمذهبين ببعض المذاهب الإسلامية، سواء من ناحية كلامية أو فقهية، يعتبرون أن اختلافهم مع بعض المذاهب الإسلامية في بعض تفاصيل علم الكلام أو الفقه سبب كافٍ ليحكموا على الآخرين بالكفر أو الإيمان، ذلك لأنهم لم يحدّدوا بدقة علمية مفهوم الكفر ومفهوم الإيمان.

فنحن نرى أن المسلمين جميعاً يذهبون إلى الحجّ، وجميعهم يصلّون صلاة الجماعة، ويعيّدون جميعاً، ويصومون شهر رمضان جميعاً، ومع ذلك نرى أنّ بعضهم يكفّر البعض الآخر، وقد وصل الأمر في بعض المراحل إلى استحلال قتلهم واغتيالهم، وقد قال لي بعض الناس إننا نعتبر أن اليهود والنصارى أهل كتاب، أما بالنسبة إلى الشيعة فإننا نعتبرهم من المشركين والمرتدّين، ولذلك فحكمهم حكم المشركين والمرتدين، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، هناك تخلّف إسلامي ثقافي فقهي أصبح يسيطر على عقول الكثيرين، خصوصاً في تلك الدول التي تصرف الأموال الطائلة لتشجيع هذا الاختلاف وتثقيف العالم الإسلامي به، إضافةً إلى دخول المستكبرين على الواقع الإسلامي لتعميق هذا التفرّق وهذا التمزّق بين المسلمين على طريقة: فرّق تسُد. ولذلك فإن عملية الوحدة الإسلامية، وحتى عملية التقريب بين المذاهب الإسلامية، هي من العمليات المعقّدة التي يتداخل فيها الجانب الثقافي بالجانب السياسي والأمني وحتى الجانب الاقتصادي، ولذلك فإنه يحتاج إلى جهدٍ كبير ووقت طويل.

س: سماحة السيد، بما أننا وصلنا إلى نهاية اللقاء، ما هي الكلمة التي توجّهونها إلى فلسطين وإلى الشارع العربي والإسلامي وإلى العالم أجمع، على قاعدة هذا الاستضعاف الكبير، هذا الاجتياح الغاشم على غزة؟

ج: إنني أقول للمسلمين جميعاً في العالم، والذين لا يزالون يعيشون الجانب الروحي الإسلامي حتى مع عدم التزام بعضهم بالفروض الإسلامية، والّذين لا يزالون يحملون همّ الإسلام، أقول لهم، إن فلسطين تختصر كل التاريخ الإسلامي الحديث، فقد انطلق اليهود في احتلالهم لفلسطين ليثأروا من الإسلام ومن انتصاره عليهم في معركة الأحزاب وغيرها.

إنني أقول لهم إذا كان لا زال في داخلكم اهتمامٌ بإسلامكم وبعروبتكم وإنسانيتكم وعزتكم وكرامتكم، فإن عليكم أن تبقوا مع فلسطين؛ فلسطين القدس التي تمثّل القبلة الأولى للمسلمين ومجمع الرسالات، ونحن نروي أن الله سبحانه وتعالى جمع الرسل لرسوله بطريقة غيبية في رحلة الإسراء، وصلّى بهم في بيت المقدس.

ولذا فإن فلسطين هي أرض الرسالات، وعلى المسلمين أن لا يخونوا هذه الرسالات، وعلينا أن نعرف أن فلسطين هي أمّ القضايا، وهي عمق العالم الإسلامي وامتداده، وإذا انتصرت فلسطين انتصرت الأمة، وإذا سقطت فلسطين ـ لا سمح الله وانتصر اليهود ـ فإن الأمة سوف تسقط. لذلك، فاقول: المقاومة المقاومة، الممانعة الممانعة، لا سلم مع اليهود ولتبق الحرب، لأن اليهود ما داموا في فلسطين فلن تستقرّ المنطقة ولن يستقر العالم الإسلامي.
    فالمقاومة المقاومة، الممانعة الممانعة وإذا انتصرت فلسطين انتصرت الأمة

* مقابلة قناة "القدس" في برنامج "حوار خاص" مع سماحة السيد فضل الله، بتاريخ 34-1-1430هـ ، 1-12-2008م، أجرى الحوار الأستاذ يحي أبو زكريا

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 04 محرم 1430 هـ  الموافق: 31/12/2008 م

السيد فضل الله لقناة "القدس":

فلسطين أرض الرسالات وأم القضايا وعمق العالم الإسلامي وامتداده*


من الصعوبة أن تجد تعريفاً للمرجع والمفكر الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله، فهو ليس طرف معادلة ولا طرفي معادلة، بل هو المعادلة نفسها، ومن الصعوبة أن تغوص في محيطه، فهو ذو باعٍ طويل في المعارف الإسلامية، وقارىء دقيق للماضي والراهن، ومستكشف بارع لمنحنيات السياسة وتفرعاتها، جسده في العاصمة اللبنانية بيروت، وقلبه وعقله مع كل القضايا الساخنة على خط طنجة جاكرتا، ويترافق هذا الاهتمام مع صياغته لمشروع إسلامي نهضوي قوامه الموروث الإسلامي ورؤى العصر التي لا تعارض الشريعة الإسلامية، والوحدة الإسلامية. نعم، الوحدة الإسلامية التي حمل رايتها وأفتى بوجوب توحّد المسلمين لمواجهة الانكسار العارم، وجعل وحدة المسلمين شرطاً أساساًً للنهضة الإسلامية.

وقد كان سماحته على الدوام ضمانةً لإطفاء أي صراع مذهبي يتسلل من نافذته المتربصون بهذه الأمة. بعد ظهر يوم الجمعة 8 آذار 1985، حاولت المخابرات الأمريكية استهدافه، فقد كان يشكل الهدف الثمين للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية... حصيلة عملية تفجير بئر العبد كانت ثمانين شهيداً، من جملتهم أربعون امرأةً، قال عندها سماحته: إنهم يخوفّوننا بالموت، والموت لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة.

وفي هذا الظرف الاستثنائي، وفي مفترق الطرق، خصّ سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، قناة القدس الفضائية بحوار خاص، مبيّناً أبعاد الإغارة الكبرى على فلسطين، وأبعاد مشروع فرض التسوية بقوة القرارات والدبابات، مستشرفاً مستقبل المقاومة في فلسطين.

فلسطين: الجغرافيا والقضية

س: سماحة السيد، نريد أن نعود معك قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى النجف، وبالأخص إلى سنة 1947، عندما كان عمرك 12 سنة، وقتها نظّمت قصيدةً جاء فيها:

دافعوا عن حقنا المغتصبِ              في فلسطين بحدِّ القضبِ

واذكر عهد صلاحٍ حينما             هبّ فيها طارداً الأجنبي

الآن وبعد أكثر من ستين سنة، ما زالت فلسطين مغتصبة، وما زال حلمك بطرد الأجنبي قائماً. وقبل الغوص في أبعاد الإغارة الكبرى على غزة، وعلى فلسطين كلها، نودّ أن نسألك: هل فلسطين بالنسبة إليك مجرد جغرافيا أم أنها تمثل شيئاً آخر؟

ج: منذ بداية وعيي وأنا أفكر في الإسلام في سعته وامتداده وفي كل قضاياه، وقد كنت، وما زلت، أتابع كل التعقيدات اليهودية التي انطلقت من خلال الخطة الغربية التي تتحرك في دائرتين:

الدائرة الأولى: إحساس الغرب بخطورة التواصل بين البلاد العربية والدول الإسلامية، باعتبار أن هذا التواصل يمكن أن يتحول في المستقبل إلى وحدة عربية تفتح الأفق لوحدة إسلامية بإمكانها أن تشكل خطراً على المصالح الغربية في المنطقة، باعتبار أن البلاد العربية والإسلامية تمثل الاحتياط العالمي لكل ثروات الرخاء للعالم الغربي. ولذلك قامت بريطانيا بالتحالف آنذاك مع الصهيونية، بإعطاء اليهود وعداً بأن تكون فلسطين أرضاً لهم يقيمون عليها دولتهم، وهو ما شرّع لليهود الإرهابين الذين فجّروا فندق الملك داود، وارتكبوا مجزرة دير ياسين، أن يشردوا الفلسطينيين من أرضهم، لتكون فلسطين أرضاً بلا شعب.

وهكذا استطاعوا أن يفصلوا بين البلدان العربية بهذا الجسم الأجنبي الذي تحالف الغرب معه من أجل إثارة الفوضى الأمنية والسياسية في العالم العربي كله، امتداداً إلى العالم الإسلامي.

أما الدائرة الثانية: فهي أن العالم العربي لم يكن آنذاك يملك أية أصالة في هويته، بل كان يمثل مزقاً متناثرةً استطاع الاستعمار البريطاني في المنطقة أن يحولها إلى ما يشبه السقوط السياسي، بعد أن جعل الذين يحكمون العالم العربي وبعض العالم الإسلامي خدماً للمصالح الغربية، وهو ما نعاني منه في البلاد العربية كافة، ولاسيما في البلد الذي ولدت وأقمت فيه مدة شبابي، وهو العراق.

لذلك كنت أفكر في أن فلسطين تمثل مظهر الخطة الغربية التي تختزن في داخلها الحقد على الإسلام والمسلمين، والانطلاق نحو استثمار ثرواتهم الطبيعية، لتكون لها الحرية في إدارتها بعيداً عن سلطة القائمين على شؤون هذا العالم. لذلك فإنني في نهاية طفولتي وبداية شبابي، وعندما كنت أقرأ الصحف وأستمع إلى الإذاعات، كنت أشعر بأن فلسطين تمثل البلد الذي تلتقي فيه مقدَّسات الأديان كلها، والبلد الذي يطمح اليهود في امتدادهم الغربي إلى السيطرة عليه من أجل أن تكون فلسطين هي قاعدة العالم، باعتبارها قاعدة المقدَّسات الدينية للعالم كله.

وهكذا بدأ التخطيط اليهودي، وكنا نشعر بأن فلسطين هي حقُّنا كعرب وكمسلمين، وأنّ الغرب اغتصب فلسطين بالانتداب، ثم أفسح في المجال لاغتصاب اليهود لها اغتصاباً استيطانياً. ولذلك كنت أفكر في فلسطين، وكنت أقرأ التاريخ وأتابع عقدة الغرب من اضطهاد اليهود الذين استقبلهم المسلمون في كل تاريخهم، وعقدتهم من النازية، ولكنهم بدلاً من أن يمنحوهم أرضاً في مناطقهم، ساعدوهم على اغتصاب فلسطين التي حاولوا أن يحيطوها بالأساطير اليهودية التي تجعلها وطناً قومياً لليهود في العالم.

تأييد دوليّ للاعتداءات الإسرائيلية

س: سماحة السيد، سكنتك فلسطين ولا تزال تسكنك، ولعلّك بتّ ملامساً لكلّ تضاريس الحالة الفلسطينية، ولعلّك أيضاً من الذين نبّهوا من الاجتياح الإسرائيلي لغزّة، والذي حدث يوم عطلة اليهود السبت في 27 ك1 عام 2008م قبل تحقّق هذا الاجتياح، عندما قلت: "ولهذا فإن العدو الذي يمارس كل أنواع الضغوط العسكرية في غارات الطائرات الحربية أو الطائرات من دون طيار، يحضّر الأجواء العالمية لتقبّل المجازر التي قد ترتكبها آلته العسكرية في غزة، وقد حدث ذلك؟!

ج: لعلّ المشكلة هي في المحور الدولي الذي تقوده أمريكا، وفي المحور العربي الذي سقطت أكثريته تحت أقدام السياسة الأمريكية، فنحن نلاحظ أنّ هذا المحور كان الدّاعم الأساسيّ لكلّ الإجرام الإسرائيلي، وهذا ما لاحظناه في كلّ المجازر الإسرائيليّة في لبنان ومصر وسوريا والأردن، وأيضاً في حرب تموز التي تحالفت فيها أمريكا مع إسرائيل.

س: المحاور مقاطعاً: أنا أريد أن أذكّر هنا أنّ الطائرات الإسرائيلية في حرب تموز 2006م استهدفت منـزل السيد محمد حسين فضل الله، وكذا مكاتبه، منذ الأيام الأولى في 14 تموز، حيث حوّلت هذه الأماكن إلى أطلال، لكن السيد ظلّ يتسع بفكره وما زال حياً فيما مشروعهم بدأ يتلاشى؟

ج: لقد لاحظنا في ذلك الوقت الدعم الأمريكي الكبير لهذا العدوان، والذي تمثّل بالجسر الجوي الذي كان يزوّد إسرائيل بالقنابل الذكية التي اخترقت أجواء بريطانيا ووصلت إلى فلسطين، ثم لاحظنا بعد ذلك كيف أن المسؤولين الأمريكيين الذين اعتبروا أن الحرب هي حربهم، لأنهم خطّطوا من أجل إسقاط المقاومة الإسلامية في لبنان، امتداداً إلى إسقاط المقاومة في فلسطين وفي العالم العربي كله، لاحظنا أنهم أرادوا من إسرائيل الاستمرار في الحرب، ولكن إسرائيل كانت تشعر بالإحباط وبالضعف بسبب ما واجهته من قوة المقاومة وصمود مجاهديها، وبأنها لن تستطيع أن تكمل الحرب من دون خسائر كبيرة ومن دون سقوط لعنفوانها، حتى امتدت الحرب إلى ثلاث وثلاثين يوماً، شعرت فيها أمريكا بأن إسرائيل لم تعد قادرةً على تحقيق النصر.

ولذلك تحولت الخطة الأمريكية إلى محاولة للانتصار السياسي الدبلوماسي في مجلس الأمن، وفي المؤتمرات الدولية التي حدثت في إيطاليا، والتي حشدت كل العالم، ومن ضمنه العالم العربي، للحملة على المقاومة الإسلامية وتحميلها مسؤولية هذه الحرب.

س: سماحة السيد، أنا أتذكر أنه كان لديكم دور، لا أقول فقط إنه عظيم، بل كان دوراً عملاقاً في دعم رجال المقاومة، وربما كانوا يتزوّدون بهذا الشحن المعنوي الذي جعلهم ربما لأول مرة في التاريخ العربي ينتجون نصراً، ويؤكدون على صعيد الخطاب العربي والإسلامي، أننا لسنا صنّاع هزيمة، بل إننا نستطيع أيضاً أن ننتج نصراً، لكن سماحة السيد، من الضرورة بمكان أن نعود إلى نقطة يمكنك كشاهد على العصر، وطبعاً على مرحلة بكاملها، أن ترى أنّ مشروع التحرير قد تحقق في أكثر من جغرافيا عربية وإسلامية، فالثورة الجزائرية، مثلاً، حققت التحرير من الاستعمار الفرنسي الذي استمر مئة وثلاثين سنة، وثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب أنتجت تحريراً في المغرب، وهناك ثورات عدة في المشرق العربي أيضاً حقّقت استقلالات هنا وهناك، فلماذا إلى الآن لم ينجز مشروع التحرير في فلسطين؛ هل هو خلل في آليات المواجهة التي تستخدمها الفصائل الفلسطينية مع الكيان الصهيوني، أم ترد ذلك إلى أسباب أخرى؟

ج: لقد رأينا في متابعتنا للمؤتمر الدولي الذي قادته أمريكا، والذي أيّده بعض العرب السائرين في ركابها، أن العالم الغربي كان يهودياً، لا بالمعنى الديني ولكن بالمعنى السياسي، وأن الصهيونية استطاعت بدعم وغطاء أمريكيين، أن تدخل إلى مفاصل الذهنية الغربية بشكل عام، وأن تسيطر على مشاعر الواقع العربي لتصنع في داخله قاعدة الهزيمة وتجعله يتعقد من انتصار المقاومة الإسلامية على إسرائيل، لأن هذا الانتصار قد يخلق انطباعاً عربياً إسلامياً بأن الدول العربية مجتمعةً باستطاعتها أن تصنع النصر، ولكن عنصر الهزيمة المسيطر على ذهنية القائمين على شؤون العالم العربي لا يزال قائماً في كل كياناتهم، لأنهم لا يستطيعون أن يغضبوا أمريكا.

المقاومة صانعة النّصر

س: بعبارة أوضح سماحة السيد، هل تودّ أن تقول إن إنجاز المقاومة في لبنان عرّى النظام الرسمي العربي؟

ج: صحيح، لأن إسرائيل استطاعت في كل حروبها التي هزمت فيها أكثر من جيش عربي، أن تعمّق الإحساس بعناصر الضعف في داخل العالم العربي، وأن تخلق في داخله من باب الاحتياط للمستقبل، الإحساس بأنه لا نصر له مع إسرائيل. وهكذا لاحظنا كيف أن الشباب العربي المسلم المقاوم في المقاومة الإسلامية، استطاع بإيمانه وخبرته وإخلاصه لإنسانه ولتاريخه أن يصنع تاريخ النصر.

وأنا أتابع هذه المسيرة الإسلامية العربية منذ بداياتها، لأن هذا الجيل في المقاومة الإسلامية هو جيل أبنائي الذين ربّيتهم بدماء قلبي، وبدموع عينيّ، وبكل الجهد الذي بذلته لتكوين جيل إسلامي مقاوم يعيش بين خطّين: النصر أو الشهادة ، {قل هل تربّصون بنا إلا إحدى الحسنيين} [التوبة:52]. ولم تكن الشهادة مزاجاً، بل كانت انطلاقةً في خطّ انتصار الإنسان على عدوّه، ليسقط في معركة الحرية. لذلك سعت أمريكا من خلال قرار مجلس الأمن 1701 أن لا يذكر وقف إطلاق النار في أيٍّ من بنوده، لتبقى الساحة مفتوحةً لإسرائيل للدخول إلى لبنان ومواجهة المقاومة الإسلامية في أيّ وقت على أساس قرار مجلس الأمن.

ولذلك، فإنّ المسألة هي مسألة الحرب الأمريكية الإسرائيلية على المقاومة، ولكنّ السياسيين والضباط الإسرائيليين والإعلام الإسرائيلي، خذلوا كل الذين كانوا ينظِّرون لإعلان هزيمة المقاومة الإسلامية على أساس استحضار المأساة في المجازر التي حصلت للبنانيين، وخصوصاً قتل الأطفال وتدمير البيوت على رؤوس أصحابها، لقد خذلهم الإعلام الإسرائيلي بكل أشكاله، عندما أعلن الهزيمة الإسرائيلية بالصوت العالي، والتي تعني هزيمة أمريكا عسكرياً من خلال سلاحها، وسياسياً من خلال تدمير محاولتها الإعلان بأن المقاومة خسرت وأن إسرائيل انتصرت، وقد تحدث كثير من المسؤولين العرب ومن السياسيين اللبنانيين عن المأساة أكثر مما تحدثوا عن النصر، كأنهم يريدون أن يتحدثوا عن الشخصية البكائية العربية بدلاً من الشخصية المنتصرة.

س: تأكيداً لكلامكم، يقول بعض المحللين العسكريين الإسرائيليين الاستراتيجيين، إنّ الاختراق الأخطر الذي أنجزته المقاومة الإسلامية في لبنان، هو أن المعادلة على امتداد الصراع العربي الإسرائيلي كانت أن إسرائيل تضرِب ولا تُضرَب، تصفَع ولا تُصفَع، ولكنّ حرب تموز 2006م غيّرت هذه المعادلة، فقد صارت أن إسرائيل تصفَع وتُصفَع وتضرِب وتُضرَب، بمعنى أنه بات هناك توازن في كل الحسابات السياسية والعسكرية وحتى الاستراتيجية؟
    استطاعت الصهيونية بدعم وغطاء أمريكيين، أن تدخل إلى مفاصل الذهنية الغربية والعربية لتصنع في داخله قاعدة الهزيمة وتجعله يتعقد من انتصار المقاومة الإسلامية على إسرائيل

ج: هذا صحيح، ولكن المشكلة أنّ بعض خطوط السياسة العربية الخاضعة للسياسة الأمريكية، عطّلت إرادة النصر لدى الجيوش العربية، وذلك من خلال تقديم التنازلات التي تحوّلت من: (لا مفاوضات، لا صلح، لا اعتراف) إلى تقديم التنازلات بالاعتراف وبالمفاوضات العبثية، ثم بالصلح، من خلال ما أقدمت عليه أكبر دولة عربية، ثم تبعتها دولة أخرى، من تنسيق مع إسرائيل تحت الطاولة.

ولذلك، فإنّ قيمة شباب المقاومة أنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وأنهم عندما كانوا يتألمون، كانوا يستحضرون قول الله سبحانه وتعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [النساء:104]، وقوله تعالى: {إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران:139]. وقد عرفوا أن مسألة الاحتلال والظلم ليست خالدةً، بل إن الظالم سوف يسقط، والمظلوم سوف ينتصر.

لذلك، فإنني أتصوّر أن حرب غزّة ليست حرباً إسرائيلية فحسب، بل هي حرب أمريكية تنطلق لمعاقبة الفصائل الفلسطينية بإفشال مشروعها في التسوية المذلّة التي تسمح لإسرائيل بتحقيق استراتيجيها في السيطرة على أكثر فلسطين، ليبقى القسم الباقي مسيطراً عليه بشكل غير مباشر.

وهكذا رأينا أيضاً أن دول الاعتدال العربي الذين ثقّفتهم الوزيرة رايس من جهة، وديك تشيني من جهة ثانية، باعتبار أن أمريكا هي المرجع الثقافي الذي يعلّم العرب كيف يختارون الصديق والعدو، رأينا كيف أن هذه الدول باتت تتعاطى مع إيران بأنها هي العدو، ومع إسرائيل بأنّها الصديق، وأن عليهم أن ينسّقوا مع إسرائيل، وهذا ما لاحظناه في مؤتمر "أنابوليس" وفي مؤتمر "حوار الأديان.

لذلك فإن هذه الحرب المجنونة الكارثية التي لم يعهد في الحروب العالمية حربٌ في مستوى وحشيتها وقسوتها وعدم إنسانيتها، هذه الحرب هي حرب أمريكية إسرائيلية عربية على حركة حماس، لا بلحاظ جانبها الحركي، لأن هناك حركة الجهاد الإسلامي والحركات الأخرى الشعبية التي تقف مع حماس في مواجهة العدو وفي قصفها لمناطقه، بل بلحاظ أنّ المطلوب في هذه الحرب، كما صرّح الإسرائيليون، هو إسقاط الممانعة المتمثلة بالمقاومة والانتفاضة. هذا هو المشروع الأمريكي الإسرائيلي العربي الرامي إلى القضاء على المشروع الفلسطيني الشعبي في بقاء القدس عاصمةً لفلسطين وفي حق العودة وإزالة المستوطنات والجدار الفاصل.

ولذلك، فإن المسألة تشمل كل المشروع الفلسطيني، بالرغم من أن بعض الفلسطينيين، ومنهم السلطة الفلسطينية، يتحدثون بالشعارات، ويعرفون أنها مجرد أوهام سلطوية لا تسمح لهم إسرائيل بأن يحققوا شيئاً منها، كما أن العرب الذين يتحدثون دائماً عن المبادرة العربية، يعرفون أن شارون قال: إنها لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت عليه، وإسرائيل الآن تعمل على أن لا تساوي هذه المبادرة في قيمتها أكثر من قيمة الورق.

فلسطين والعالمين الغربي والعربي الرسمي

س: سماحة السيد، عندما سألتك لماذا تأخر مشروع تحرير فلسطين، فيما هناك بلدان عربية وإسلامية تحرّرت، قلت إن النظام الرسمي العربي عطّل مشروع التحرير، وربما لأول مرة في خطابنا العربي نسمع عن مشاريع أمريكية إسرائيلية عربية بالتوازي، وكأن رقعة التحدي قد كبرت. تأكيداً لكلامكم سيدنا، هناك معلومات أنه قبيل بدء الاجتياح لغزة، طارت شخصية عربية من محور الاعتدال العربي إلى واشنطن وقابلت فريق أوباما على وجه التحديد، وأعطاهم الضوء الأخضر الأمريكي لأي عملية عسكرية ضد غزّة، واتفقوا على أنه بعد إنهاء حركة حماس في غزة، وبشكلٍ كامل، سوف يكون العمل على جعل بنود مؤتمر "أنابوليس" مرجعية خارطة الطريق، وعلى إرجاع غزة إلى حظيرة السلطة الفلسطينية، والأخطر من ذلك، أن المسؤول الإسرائيلي قال في هذا اللقاء إنه بعد انتهاء الانتخابات التشريعية الإسرائيلية سنثأر ممّا حصل في تموز 2006، وهذا ما جعل سماحة السيد حسن نصرالله يتكلم بصوتٍ عالٍ، ربما لأنه إذا ضاعت فلسطين ضاع مشروع الممانعة في العالم العربي والإسلامي وأصبحت التسوية سيدة الموقف؟

ج: أحبّ في البداية أن أعلّق تعليقاً سريعاً على ما تحدث عنه السؤال في مسألة الثورات العربية ضد الاستعمار، فما نلاحظه هو أن هذه الدول قد تخلصت من استعمار عسكري لتقع في استعمار اقتصادي سياسي، لأنّ بعض الدول العربية التي كانت مستعمرةً من قبل فرنسا وبريطانيا، وقعت في أحضان الاستعمار غير المباشر للإدارة الأمريكية في كل مراحلها، وليس في مرحلة بوش فحسب، لذلك لم تستطع هذه الثورات أن تعطي الحرية المطلقة لشعوبها...
    دول الاعتدال العربي باتت تتعاطى مع إيران بأنها هي العدو، ومع إسرائيل بأنّها الصديق

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن هناك بعض الأمور التي ينبغي الإشارة إليها في هذه المسألة، وهي أن حرباً بمستوى هذه الحرب الوحشية المجنونة التي مارست فيها إسرائيل تجاربها بواسطة طائرات الـ أف16 الأمريكية، إضافةً إلى استخدامها أسلحةً جديدةً ووسائل جديدة للتّعويض عمّا جرى معها في حرب تموز، إن حرباً مثل هذه لم تدفع العرب إلى اللقاء، لا على مستوى وزراء الخارجية ولا على مستوى القمة، في الوقت الذي نعرف أن الدول التي تحترم شعوبها وتحترم نفسها كدول الغرب، تلتقي قياداتها في الساعة الثانية مباشرةً بعد الساعة الأولى التي تحدث فيها المشكلة.

وهكذا نرى أن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي بادروا إلى الاجتماع لبحث قضية العدوان على غزة قبل أن تبادر الدول العربية التي تأخر اجتماع وزرائها إلى ما بعد مرور خمسة أيام على هذه الحرب، حتى إنهم اختلفوا على مكان انعقاد القمة، ما يوحي بأن العرب كانوا ينتظرون أن تستكمل إسرائيل خطتها في إسقاط حركة حماس والفصائل المجاهدة ريثما يقدِّمون التعازي والمساعدات التي لم يقدموها في كل التاريخ الذي سبق حرب غزّة عندما كان الفلسطينيون يعانون الجوع نتيجة الحصار وما إلى ذلك، لأنهم يعرفون أنّ فشل إسرائيل في هذه الحرب سيعني فشلاً عربياً، كما سيعني فشلاً أمريكياً إسرائيلياً.

س: سماحة السيد، ضربة غزة جاءت في وقت قيل إن المشروع الأمريكي في تراجع، وجاءت في وقت صرّح القاضي فينوغراد أن الجيش الإسرائيلي يحتاج على الأقل إلى خمس سنوات ليقوم بضربة عسكرية محتملة، وعلى هذا بنى محلِّلون عرب على أن أي سخونة في المنطقة لن تقع، ماذا جرى سماحة السيد؟

ج: إن المسؤول الإسرائيلي فينوغراد عندما أدلى بتصريحه، كان يأخذ في الاعتبار المقاومة الإسلامية في لبنان، أما بالنسبة إلى المجاهدين في فلسطين، فإنّ حركة القتل والاغتيال والاجتياح والحصار لم تهدأ طيلة هذه السنين. ولكن الأمر الجديد في هذه المسألة هو حجم الحرب التي أثيرت في غزّة، باعتبار أن الإسرائيليين والأمريكيين، وخصوصاً الإدارة الأمريكية التي سوف ترحل قريباً، أرادوا أن يسجِّلوا انتصاراً ولو بسيطاً في إسقاط حماس التي تعتبرها أمريكا حركةً إرهابية.

لذلك، فإنني أتصور أن على العالم العربي كله، وأقصد الشعوب، أن يتحرّك، لأنّ المسؤولين العرب في هذه المرحلة يخشون من صمود شعب غزة، هذا الشعب الجائع المحروم الذي يعاني من الأمراض المميتة، والذي لا يطلب من العرب مساعدات غذائية وطبية، بل يطلب منهم أن لا ينسِّقوا مع إسرائيل من أجل إسقاطه.

س: المعروف أنّ حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين فازت بانتخابات تشريعية نزيهة، حكم الاتحاد الأوروبي بنـزاهتها، ولكن عندما دخلت في منتدى السياسة الفلسطيني بدأ التآمر عليها، وبينما كان معبر رفح فضاءها الوحيد، أغلق هذا المعبر عليها جغرافياً، وبالتالي بدأ مسلسل الخنق. هل ترى أن حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين سوف تتراجع، وقد قلت سماحة السيد، إن المقاومة في فلسطين إذا انتصرت انتصر مشروع الأمة، وإذا انهزمت انهزمت الأمة كلها، واعتبرت أنه في غزة برز الإسلام كله إلى الكفر كله، فما هي رؤيتك؟
    المسؤولون العرب كانوا ينتظرون أن تستكمل إسرائيل خطتها في إسقاط حركة حماس و الفصائل المجاهدة ريثما يقدِّمون التعازي والمساعدات التي لم يقدموها قبل حرب غزّة عندما كان الفلسطينيون يعانون الجوع نتيجة الحصار

ج: إنني أعتقد أن حركة حماس، الحركة الإسلامية المجاهدة، إضافةً إلى حركة الجهاد الإسلامي والحركات الأخرى، حتى العلمانية منها، تملك إرادة الصمود، لأنها تملك إرادة الحرية وإرادة صناعة المستقبل. ولعلّ الذي يشجّعنا على الانفتاح على هذه العناوين، هو أن الشعب الفلسطيني قد وقف مع الحركات المجاهدة، وهذا ما فسّرته الانتخابات التشريعية، وأعتقد أنه لو حدثت هناك انتخابات رئاسية، فستنجح رموز المقاومة في ذلك أكثر مما تنجح رموز السلطة.

أما قضية الموقف الأمريكي والموقف الأوروبي من الانتخابات التي شهدوا بأنها انتخابات نزيهة، فهذا يدل على أنهم لا يريدون الديمقراطية إلا إذا كانت في خدمة مشاريعهم السياسية والاقتصادية والأمنية، أما إذا كانت الديمقراطية معارضةً لسياستهم، فإنهم يعملون على تطويقها بكثير من العناوين، ومنها عنوان الإرهاب، ولا يلتفتون إلى أن هذا يعني أن الشعب الفلسطيني كله إرهابي، لأنه صوّت للإرهابيين بحسب زعمهم.

مشروع الوحدة الإسلامية

س: عندما كان المسلمون أمةً واحدةً، وعندما كان همّهم واحداً وهدفهم واحداً، كان الانطلاق في المسرح الدولي، وكانت الحضارة والثقافة، ولكنّ المسلمين تفرّقوا شيعاً. نحن نرى في إسرائيل أنه قد يختلف في السياسة عضو من حزب كاديما مع عضو من حزب العمل أو الليكود، لكن عندما يتعلق الأمر بمصلحة إسرائيل، تختفي كاديما ويختفي العمل ويختفي الليكود. سماحتكم تدعون باستمرار إلى وحدة المسلمين، فما هو الدور الذي تلعبه هذه الوحدة في تحصين الأمة وإنجاز النصر؟

ج: لعلّ المشكلة أن المسلمين في أكثر المراحل التاريخية التي عاشوها، تغلّبت المذهبية عندهم على الإسلامية، حتى إنّ بعضهم قال في إيحاء كلامه، وإن لم يقله صراحةً، كما قال اليهود عن المشركين: {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} [النساء:51]. إن هناك متمذهبين ببعض المذاهب الإسلامية، سواء من ناحية كلامية أو فقهية، يعتبرون أن اختلافهم مع بعض المذاهب الإسلامية في بعض تفاصيل علم الكلام أو الفقه سبب كافٍ ليحكموا على الآخرين بالكفر أو الإيمان، ذلك لأنهم لم يحدّدوا بدقة علمية مفهوم الكفر ومفهوم الإيمان.

فنحن نرى أن المسلمين جميعاً يذهبون إلى الحجّ، وجميعهم يصلّون صلاة الجماعة، ويعيّدون جميعاً، ويصومون شهر رمضان جميعاً، ومع ذلك نرى أنّ بعضهم يكفّر البعض الآخر، وقد وصل الأمر في بعض المراحل إلى استحلال قتلهم واغتيالهم، وقد قال لي بعض الناس إننا نعتبر أن اليهود والنصارى أهل كتاب، أما بالنسبة إلى الشيعة فإننا نعتبرهم من المشركين والمرتدّين، ولذلك فحكمهم حكم المشركين والمرتدين، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، هناك تخلّف إسلامي ثقافي فقهي أصبح يسيطر على عقول الكثيرين، خصوصاً في تلك الدول التي تصرف الأموال الطائلة لتشجيع هذا الاختلاف وتثقيف العالم الإسلامي به، إضافةً إلى دخول المستكبرين على الواقع الإسلامي لتعميق هذا التفرّق وهذا التمزّق بين المسلمين على طريقة: فرّق تسُد. ولذلك فإن عملية الوحدة الإسلامية، وحتى عملية التقريب بين المذاهب الإسلامية، هي من العمليات المعقّدة التي يتداخل فيها الجانب الثقافي بالجانب السياسي والأمني وحتى الجانب الاقتصادي، ولذلك فإنه يحتاج إلى جهدٍ كبير ووقت طويل.

س: سماحة السيد، بما أننا وصلنا إلى نهاية اللقاء، ما هي الكلمة التي توجّهونها إلى فلسطين وإلى الشارع العربي والإسلامي وإلى العالم أجمع، على قاعدة هذا الاستضعاف الكبير، هذا الاجتياح الغاشم على غزة؟

ج: إنني أقول للمسلمين جميعاً في العالم، والذين لا يزالون يعيشون الجانب الروحي الإسلامي حتى مع عدم التزام بعضهم بالفروض الإسلامية، والّذين لا يزالون يحملون همّ الإسلام، أقول لهم، إن فلسطين تختصر كل التاريخ الإسلامي الحديث، فقد انطلق اليهود في احتلالهم لفلسطين ليثأروا من الإسلام ومن انتصاره عليهم في معركة الأحزاب وغيرها.

إنني أقول لهم إذا كان لا زال في داخلكم اهتمامٌ بإسلامكم وبعروبتكم وإنسانيتكم وعزتكم وكرامتكم، فإن عليكم أن تبقوا مع فلسطين؛ فلسطين القدس التي تمثّل القبلة الأولى للمسلمين ومجمع الرسالات، ونحن نروي أن الله سبحانه وتعالى جمع الرسل لرسوله بطريقة غيبية في رحلة الإسراء، وصلّى بهم في بيت المقدس.

ولذا فإن فلسطين هي أرض الرسالات، وعلى المسلمين أن لا يخونوا هذه الرسالات، وعلينا أن نعرف أن فلسطين هي أمّ القضايا، وهي عمق العالم الإسلامي وامتداده، وإذا انتصرت فلسطين انتصرت الأمة، وإذا سقطت فلسطين ـ لا سمح الله وانتصر اليهود ـ فإن الأمة سوف تسقط. لذلك، فاقول: المقاومة المقاومة، الممانعة الممانعة، لا سلم مع اليهود ولتبق الحرب، لأن اليهود ما داموا في فلسطين فلن تستقرّ المنطقة ولن يستقر العالم الإسلامي.
    فالمقاومة المقاومة، الممانعة الممانعة وإذا انتصرت فلسطين انتصرت الأمة

* مقابلة قناة "القدس" في برنامج "حوار خاص" مع سماحة السيد فضل الله، بتاريخ 34-1-1430هـ ، 1-12-2008م، أجرى الحوار الأستاذ يحي أبو زكريا

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 04 محرم 1430 هـ  الموافق: 31/12/2008 م
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية