"أحبّ الناس إلى الله المفتَّنون التوّابون"

"أحبّ الناس إلى الله المفتَّنون التوّابون"

صفحات في ذكرى الإمام الكاظم (ع): "أحبّ الناس إلى الله المفتَّنون التوّابون"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}، من أئمة أهل البيت (ع) الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب، أي بعد ثلاثة أيام. وهذا الإمام العظيم الذي ملأ مرحلته تلك وما بعدها علماً وفقهاً في كل مواقع الثقافة الإسلامية، بحيث كان يواجه كل المشكلات الفكرية التي كانت تعرض للمسلمين في عهده، ويؤكد الحلول الفكرية لها، وكان منفتحاً على المسلمين جميعاً، فيستقبل الذين يلتزمون إمامته والذين لا يلتزمونها، وشمل انفتاحه الناس كافة، الصغير منهم والكبير، فكان لا يتعقد من سؤال، وكان المثل الأعلى في سعة صدره، وفي سموّ أخلاقه، حتى أنه يُضرب المثل بإحسانه إلى من أساء إليه وإكرامه له، وتحمّله الغيظ من كل أعدائه بحيث كان يكظم غيظه، ولا يتحرك بردّ الفعل عندما يسيء الناس إليه، ولكنه كان يعلّم الناس كيف يحسنون إلى من أساء إليهم، وكيف يصبرون، وكان إلى جانب ذلك الإمام الذي يرعى الفقراء في بيوتهم بنفسه.

العابد .. الزاهد:

تعالوا نستمع إلى بعض النصوص التي تحدثت عنه، من شخصيتين: شخصية علمية تلتزم إمامته وهو الشيخ المفيد (رضوان الله عليه)، وشخصية أخرى لا تلتزم إمامته وهو "كمال الدين بن طلحة" صاحب كتاب "مطالب السؤول". يقول الشيخ المفيد: كان أبو الحسن موسى (ع) أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً، وروي أنه كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقّب حتى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً ويقول: "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب"، ويكرر ذلك، وكان من دعائه: "عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك"، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضّل لحيته بالدموع، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل ويحمل إليهم الزنبيل فيه العين والوَرِق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أية جهة هو.

وقال "كمال الدين بن طلحة": أبو الحسن موسى الكاظم هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكثير التهجّد، الجادّ في الاجتهاد، والمشهود له بالكرامات، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، يبيت الليل ساجداً ويقطع النهار متصدّقاً صائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني عليه بعفوه عنه، ولكثرة عباداته كان يُسمى بالعبد الصالح، ويُعرف في العراق بباب الحوائج إلى الله لنُجح المتوسلين إلى الله به، كراماته تحار فيها العقول، وتقضي بأن له عند الله قدم صدق لا تزول..

إثبات مرجعيته في الأمة:

وهكذا، استطاع الإمام الكاظم (ع) أن يفرض محبته واحترامه وعظيم مكانته على المسلمين، بالرغم من أن الخلفاء في عهده كانوا يملكون كل السلطة والسطوة في موقع الخلافة، فقد عاصر المنصور والمهدي والهادي والرشيد، والناس يرجعون إليه ويتبرّكون به ويسألونه، ويُرسلون إليه حقوقهم الشرعية، وتناهى إلى "الرشيد" ذلك، وعرف أن سعة مرجعيته في الأمة تهدد ملكه، وفي موقف لافت، ما يروى أن الرشيد قدِم إلى المدينة ووقف أمام قبر رسول الله(ص)، وقال: السلام عليك يابن العم، وكأنه أراد أن يقول للناس إني ابن عم رسول الله (ص)، ولذلك فإن موقعي في الخلافة يمثل شرعية إسلامية باعتبار قربي من النبي، فوقف الإمام الكاظم (ع) وهو المتواضع، ولكنه أراد أن يقابل هذا الجبّار الذي يستعلي على الناس ويحاول أن يوحي لهم بقربه من رسول الله (ص)، وقال: "السلام عليك يا أبي يا رسول الله"، فقال له الرشيد: كيف تقولون إنكم أبناء رسول الله وأنتم أبناء ابنته؟ فسأل الإمام الكاظم (ع): "لو كان النبي حاضراً وطلب منك أن تزوّجه ابنتك، فهل تجيبه إلى طلبه"؟ قال له: بلى وأتشرف بذلك، فقال (ع): "ولكن رسول الله لا يطلب مني ابنتي لأنها ابنته، وهذا هو الفرق بيننا وبينكم".

الرشيد يحاول التخلص منه:

وشعر الرشيد بخطورة موقع الإمام الكاظم (ع) في الأمة على ملكه، فعمل على أن يسجنه، ويُقال إنه وقف أمام قبر رسول الله (ص) وقال: إني أعتذر إليك من أمر أريد أن أفعله، أن أسجن موسى بن جعفر، فإنه قد فرّق الأمة.. وهذا هو شأن الطغاة في التعامل مع كل من يعارضهم ويبيّن للناس ظلمهم وجورهم وعدم شرعيتهم، فنقله من المدينة إلى سجن البصرة، وكان سجّانه والي البصرة الذي أرسل إلى الرشيد: خذ مني موسى بن جعفر، فإني لا أستحلّ سجنه، فقد وكّلت به جماعة فلم أره يدعو عليّ ولا عليك، ولكنه كان يقضي وقته بالعبادة.. وسمعه وهو يقول: "اللهم إني كنت أطلب منك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد".. ونُقل إلى سجن "واسط" ثم إلى بغداد وسُجن في بيت "الفضل بن ربيع"، ثم نقل إلى سجن "السندي بن شاهك" وطلب منه أن يضيّق عليه، فسجنه في سرداب لا يُعرف فيه الليل من النهار، وقضى الإمام (ع) في سجن "السندي بن شاهك" مسموماً، وجاء السندي بعلماء البلد ليقول لهم: انظروا إلى موسى بن جعفر إنه صحيح الجسم، ولكن الإمام (ع) فوّت عليه ذلك، وقال لهم: "إني صحيح الظاهر ولكني سقيم الباطن وقد سُقيت السمّ". وانتهت حياة الإمام الكاظم (ع) كحياة أجداده الذين واجهوا الظلم كما لم يواجهه أحد، لأنهم كانوا القوة التي تمثل قوة الحق في كل ما تكلّموه وفعلوه.

إمام الأسرى والشهداء:

وقد أطلقنا قبل مدة أن نجعل يوم وفاة الإمام الكاظم (ع) "يوم الأسير"، لأنه كان الإمام الذي قضى ردحاً من عمره في السجن ظلماً وعدواناً، ونحن نواجه في حياتنا الكثير من المسلمين والمظلومين في سائر أنحاء العالم الإسلامي وهم يعانون الأسر والظلم والاضطهاد من الطغاة المستكبرين، لنتذكّر الإمام الأسير الشهيد الكاظم (ع) عندما نذكر أيّ أسير في أي بلد من بلاد الإسلام، فإنه كان إمام الأسرى وإمام الشهداء.

من هدي تعاليمه:

ونحن - كعادتنا - لا بد لنا أن نقرأ شيئاً من كلماته حتى نعيش إمامته في وجداننا وعقولنا وحياتنا، لنستمر معه، ونشعر بحضوره بيننا من خلال حضور تعاليمه وكلماته التي كلها نور وخير.

الابتعاد عن المعاصي:

في الحديث عن الإمام الكاظم (ع) وقد سأله أحد أصحابه عن قول الله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً}؟ فقال (ع): "يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه"، التوبة النصوح هي التوبة التي لا يحتاج بعدها إلى توبة، هي التوبة التي تنطلق من عمق الندم على الذنب، ومن قوة الإرادة في رفض الذنب الذي أذنبه في الماضي، و"أحبّ العباد إلى الله المفتّنون التوّابون".. ونقرأ في حديث الإمام الكاظم (ع): "إن لله عزّ وجلّ في كل يوم وليلة منادياً ينادي: مهلاً مهلاً عباد الله عن معاصي الله - لا تقتحموا معاصي الله ولا تتجرأوا على الله، لأن ذلك يستوجب غضب الله الذي قد يستوجب عقابه في الدنيا قبل الآخرة - فلولا بهائم رتع وصبية رضع وشيوخ ركّع لصبّ عليكم العذاب صباً، تُرضّون به رضّاً"، كأن الله تعالى يرحمنا من خلال هؤلاء، وإلا فإن المعاصي التي تنطلق منا في الليل والنهار قد تكسبنا غضب الله الذي لا تقوم له السموات والأرض.

محاسبة النفس:

ويقول الإمام الكاظم (ع) وهو يريد منا أن نجلس مع أنفسنا في الصباح والمساء لنحاسب أنفسنا وندرسها ونعرف طبيعة ما قلناه وفعلناه وتحركنا فيه، في رضا الله عنه أو سخطه عليه، إن معنى أن تكون مسلماً أن تكون الإنسان الذي يحاسب نفسه، الذي ينقد ذاته ويعالج أمراض نفسه، يقول (ع): "ليس منا - أنت تعتبر نفسك مسلماً وموالياً لأهل البيت (ع)؟ لا يكفي في ذلك أن تنطق بالشهادة في تأكيد إسلامك، ولا يكفي أن ينبض قلبك في حب أهل البيت (ع) في تأكيد تشيّعك، لأن المطلوب منك أن تحوّل إسلامك إلى خط تسير عليه، وأن تحوّل ولايتك لأهل البيت (ع) إلى منهج تتحرك فيه - من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله منه - فإن وجد أعماله في طاعة الله فإنه يطلب من الله تعالى أن يزيده من هذه الحسنات - وإن عمل سيئة استغفر الله منه وتاب إليه".

التربية على الفضائل:

ويوجّه الإمام الكاظم (ع) الحديث إلى بعض الناس الذين إذا عملوا الخير استكثروه، فيقول (ع): "لا تستكثروا كثير الخير، ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النَصَف، وسارعوا إلى طاعة الله - فلا تؤجّل العمل بالطاعة إلى وقت آخر فقد لا توفَّق له - وأصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة، فإن ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحل لكم - في المحرّمات - فإنما ذلك عليكم".. ومن كلمات الإمام الكاظم (ع) قال "عبد المؤمن الأنصاري": دخلت على موسى بن جعفر وعنده "محمد بن عبد الله الجعفري - أحد أصحاب الإمام - فتبسّمت إليه، فقال لي: "أتحبه"؟ قلت: نعم، وما أحببته إلا لكم - انا أحبه لأنه يواليكم ويسير في منهجكم - فقال (ع): "هو أخوك - فالإيمان في خط الحق آخى بينك وبينه - والمؤمن أخو المؤمن لأمه وأبيه وإن لم يلده أبوه، ملعون من اتهم أخاه - بحيث ينسب إليه تهمة لم تثبت عليه - ملعون من غشّ أخاه - ولا فرق بين أن تغشه في البضاعة التي تبيعه إياها أو الرأي الذي تعطيه إياه - ملعون من لم ينصح أخاه - إذا جاءك مستنصحاً - ملعون من اغتاب أخاه"..

وسأله أحـد أصحابه عن رجلين يتسابّان - وكم نعاني في مجتمعاتنا من هذه الآفة - فقال (ع): "البادي منهما أظلم ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم". ويروي الإمام الكاظم (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال لـ"أبي ذر الغفاري": "كفّ أذاك عن الناس -عشمع الناس ولا تؤذي أحداً - فإنها صدقة تصدّق بها على نفسك". وعن "مسعدة" قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (ع): "إن عيال الرجل أسراؤه - أطفالك ينتظرونك كما ينتظر الأسير سجّانه لكي يقدّم له الطعام والشراب - فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسّع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول عنه تلك النعمة"، فالله تعالى ينـزل المعونة على قدر المؤونة، فكلما رزقك الله ولداً فإنه يوسّع عليك لأنه حمّلك مسؤولية أن تصرف مالك على من تعول، ولذا ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "ملعون ملعون من ضيّع من يعول"، فالإنسان ليس حراً أن يبذّر ماله ويصرفه كيفما أراد، لأنه ماله ومال عياله، ومن فعل ذلك فإنه يكون كمن سرق اللقمة من فم ولده..

هذا هو خط أهل البيت (ع)، وهذا هو منهجهم وتعاليمهم، وعلينا أن نلتزم نهج أهل البيت (ع) ونقتدي بهم ونطبّق تعاليمهم، لأنهم يمثّلون الإسلام الحق، ولأنهم يمثّلون في مواعظهم ووصاياهم سعادة الدنيا والآخرة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم أمام كل الأحداث الكبرى التي تنطلق في الواقع الإسلامي كله من ظلم الظالمين واستكبار المستكبرين، والجرائم التي توجَّه للمستضعفين. اتقوا الله في مسؤولياتكم عن أمتكم، أن لا يعرض لها أحد بسوء، أن لا يذلها الذين يذلّون الشعوب، أن لا يصادر اقتصادها من يسرقون اقتصاد الأمة، إن علينا أن نعيش مسؤوليتنا كأمة وكأفراد، لأن الأمة ليست إلا الأفراد مجتمعين، وإذا تخاذل الناس عن نصرة الحق تحرك أهل الباطل لإسقاط الحق، والله تعالى يحمّلنا مسؤولية أن نكون مع الحق والعدل دائماً، كلٌ بحسب طاقته وقدرته. إننا لا نزال نعيش في هذه المرحلة من الزمن غطرسة الاستكبار العالمي، وهمجية اليهود في فلسطين وما حولها، وعلينا أن نواجه المسألة بكل مسؤولية.

شرم الشيخ.. مساواة بين الضحية والمجرم :

الانتفاضة مستمرة، والشعب الفلسطيني لا يزال في حيويته الجهادية قوياً صامداً أمام الآلة العسكرية الصهيونية الوحشية، التي تحصد الأبرياء بين قتيل وجريح، وتدمّر البيوت.. وقد انتهت قمة "شرم الشيخ" التي قادتها أمريكا لإخراج إسرائيل من المأزق الذي وضعتها فيه الانتفاضة، وخرج "باراك" ليعلن انتصاره، لأن القمة تحدثت عن إنهاء العنف، من دون أن تحمّل العدو المسؤولية عنه، بل ساوت بين الضحية والمجرم، ولم تحقق للفلسطينيين مطلبهم في لجنة تحقيق دولية حول الأحداث، بل قررت إنشاء لجنة لتقصي الحقائق التي لن تتقصى شيئاً، بل ستغيب في كهوف لجان الأمم المتحدة..

إن المطلوب – أمريكياً – هو إعادة صورة إسرائيل المسالمة إلى الرأي العام الدولي، بعد أن ظهرت صورتها العدوانية الوحشية بشكل أوضح وهي تقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب بالطائرات والصواريخ والمدافع التي منحتها إياها أمريكا، بالإضافة إلى ما تملكه من أسلحة الدمار الشامل، لتكون أقوى قوة ضاربة في المنطقة، لتتمكّن من فرض إرادتها وسياستها عليها. وبذلك، تكون أمريكا الشريك الأكبر لإسرائيل في كل جرائمها الوحشية، لأنها هي التي تعطيها كل القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية، لتضغط على مختلف الدول – بما فيها الدول العربية والإسلامية – للابتعاد عن إدانتها ومقاطعتها، بل دفعها لإقامة الصلح والتطبيع والتنسيق معها من أجل حماية المصالح الأمريكية في المنطقة، ومواجهة القوى المضادة لها..

  الإجهاز على الانتفاضة:

لقد كانت مهمة قمة "شرم الشيخ" إيقاف الانتفاضة بحجة تخفيف الضغوط عن الشعب الفلسطيني المحاصَر اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، وهكذا تتحرك إسرائيل – بالتنسيق مع أمريكا – في تشديد قبضتها على هذا الشعب الأعزل، لتتحوّل المسألة إلى مأساة إنسانية، وتعقد الاجتماعات الدولية تحت ضغط الجانب الإنساني من جهة، والخوف على السلام من جهة أخرى، ويتجلى ذلك بإيقاف "العنف" الذي تطالب به إسرائيل باعتبار أنها تدافع عن أمنها الذاتي كما تدّعي، وتأتي القرارات لحساب إسرائيل باسم إنقاذ الشعب الفلسطيني من الحصار، كما جاء في تصريح بعض المسؤولين العرب..

ولكن إسرائيل تابعت عدوانها بجنودها ومستوطنيها، وسقط أكثر من شهيد، وأُصيب أكثر من جريح، وعندما بدأ الفلسطينيون بالدفاع عن أنفسهم، انطلقت التصريحات الأمريكية والإسرائيلية في اتهامهم بأنهم لم ينفّذوا الاتفاق، وهكذا تستمر اللعبة الدولية، وتبقى الانتفاضة قوية صامدة..

القمة العربية..إرباك الواقع:

وتقبل علينا القمة العربية، التي مهّدت لها أمريكا بقمة "شرم الشيخ" وبزيارة وزيرة خارجيتها للسعودية، وباتصالات الرئيس الأمريكي كلينتون بالمسؤولين العرب، من أجل أن تكون القرارات معتدلة لئلا تزيد المشكلة تعقيداً وتسيء إلى السلام، بحسب المنطق الأمريكي.. وتتحرك بعض التصريحات العربية لتسبق القمة بالحديث عن أن الدول العربية لا تستطيع – بحكم ظروفها المعقّدة – أن تستجيب لمطالب الشارع العربي، ويختلف وزراء الخارجية العرب حول إصدار قرار بالمقاطعة الدبلوماسية والتطبيعية والاقتصادية – كما هو مطلب البعض ومنهم سوريا ولبنان – أو التلويح بها كما هو مطلب دول أخرى، دون اللجوء إلى التنفيذ الحاسم، ولا ندري ما هو القرار الذي ستصدره القمة، ولكننا لا نتفاءل كثيراً في الارتفاع بالقرارات إلى مستوى حاجة الشعب الفلسطيني إلى الدعم والإنقاذ والمساعدة في قضية التحرير، لأن المشكلة الحالية هي نتيجة للاحتلال الذي هو سرّ المشكلة، فما هو الحل العربي لذلك؟ هل هو بالمفاوضات التي لن تنتهي إلى شيء في غياب أيّ ضغط دولي أو عربي أو إسلامي حاسم، ومع الضغط الأمريكي المضاد لحماية إسرائيل من أي ضغط مماثل؟؟

 ندعو لقرارات بمقاطعة العدو:

إن على المسؤولين العرب أن يعرفوا أنهم ليسوا السادة لشعوبهم، ولكنهم الوكلاء عنهم – إذا كانوا يملكون شرعية الوكالة – وأنهم خدّامهم، ولذلك فليست لهم أية حرية في الخضوع للضغوط الأمريكية التي تسيطر على أكثر الأنظمة العربية، بل إن واجبهم هو الاستجابة لنداء الشعب في أضعف الإيمان، وهو إنتاج قرارات مقاطعة العدو سياسياً واقتصادياً من جديد، ليعرف هذا العدو بأنه لا يملك اللعب على أوراق التناقضات العربية، وأن زمن الضعف العربي والسقوط السياسي والخوف العسكري قد ولّى..

لقد وصلت الأوضاع العربية بفعل سياسة الأنظمة إلى نقطة فقدان الوزن، فهل يعود الجميع – بفعل كل هذه الدماء الطاهرة، والمواقف البطولية، والصمود الشجاع – إلى مواقع القوة؟ إننا بانتظار القمة التي نأمل أن تكون في مستوى شعوبها، لا في مستوى ضغوط أمريكا وإسرائيل، فإن المسألة لا تمثّل مجرد موقف سياسي طارئ، بل هي قضية الوجود واللاوجود، فإن أمريكا قررت أن تمسك المنطقة بالقبضة الحديدية، وأن تدفع بإسرائيل إلى موقع الواجهة، في تحالف يستهدف إضعاف الواقع العربي والإسلامي باسم مواجهة الأصولية والراديكالية..

إننا، من موقع المسؤولية الشرعية، ندعو العرب والمسلمين للارتفاع إلى مستوى المرحلة، وذلك بالمقاطعة الاقتصادية الفاعلة للبضائع الإسرائيلية بالمطلق، وللبضائع الأمريكية قدر الإمكان، فإن هذا هو أضعف الإيمان في الرد على هذه الحرب الأمريكية – الإسرائيلية الموجَّهة ضد العرب والمسلمين.. ولا بد لنا – بالإضافة إلى ذلك – من محاصرة المصالح الأمريكية في المنطقة، لأن ذلك هو ما نملكه من وسائل القوة.

لنعمل من أجل إزالة اسرائيل:

إن علينا أن لا نكتفي بالتظاهر والتصريحات الاحتجاجية والحماس اللاهب، بل أن نتحرك على الأرض بالمقاطعة والمواجهة في نطاق خطة مدروسة متكاملة. لقد آن للشعوب أن تقوم بعمليات الضغط المباشر وغير المباشر على قوى الاستكبار العالمي، وأن تخرج من حالة الاستضعاف المفروضة عليها، وأن تضغط على حكّامها بالطريقة التي لا تؤدي إلى الفتنة الداخلية.

لقد قال رسول الله (ص): "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، و"من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"، و"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".. فلنستجب لصرخات الأطفال والنساء والشيوخ والشباب في فلسطين، ولنقف معهم بكل الوسائل الممكنة، فإن المرحلة هي مرحلة الحرب المفروضة على الأمة كلها، وقد قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}. علينا أن نقرر – في موقع الأمة – أن تزول إسرائيل ولو بعد خمسين سنة، ونعمل لذلك، وسوف ننتصر إن عاجلاً أو آجلاً بإذن الله.

صفحات في ذكرى الإمام الكاظم (ع): "أحبّ الناس إلى الله المفتَّنون التوّابون"


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}، من أئمة أهل البيت (ع) الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب، أي بعد ثلاثة أيام. وهذا الإمام العظيم الذي ملأ مرحلته تلك وما بعدها علماً وفقهاً في كل مواقع الثقافة الإسلامية، بحيث كان يواجه كل المشكلات الفكرية التي كانت تعرض للمسلمين في عهده، ويؤكد الحلول الفكرية لها، وكان منفتحاً على المسلمين جميعاً، فيستقبل الذين يلتزمون إمامته والذين لا يلتزمونها، وشمل انفتاحه الناس كافة، الصغير منهم والكبير، فكان لا يتعقد من سؤال، وكان المثل الأعلى في سعة صدره، وفي سموّ أخلاقه، حتى أنه يُضرب المثل بإحسانه إلى من أساء إليه وإكرامه له، وتحمّله الغيظ من كل أعدائه بحيث كان يكظم غيظه، ولا يتحرك بردّ الفعل عندما يسيء الناس إليه، ولكنه كان يعلّم الناس كيف يحسنون إلى من أساء إليهم، وكيف يصبرون، وكان إلى جانب ذلك الإمام الذي يرعى الفقراء في بيوتهم بنفسه.

العابد .. الزاهد:

تعالوا نستمع إلى بعض النصوص التي تحدثت عنه، من شخصيتين: شخصية علمية تلتزم إمامته وهو الشيخ المفيد (رضوان الله عليه)، وشخصية أخرى لا تلتزم إمامته وهو "كمال الدين بن طلحة" صاحب كتاب "مطالب السؤول". يقول الشيخ المفيد: كان أبو الحسن موسى (ع) أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفاً وأكرمهم نفساً، وروي أنه كان يصلي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقّب حتى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من الدعاء والتحميد حتى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً ويقول: "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب"، ويكرر ذلك، وكان من دعائه: "عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك"، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضّل لحيته بالدموع، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه، وكان يتفقّد فقراء المدينة في الليل ويحمل إليهم الزنبيل فيه العين والوَرِق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أية جهة هو.

وقال "كمال الدين بن طلحة": أبو الحسن موسى الكاظم هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكثير التهجّد، الجادّ في الاجتهاد، والمشهود له بالكرامات، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، يبيت الليل ساجداً ويقطع النهار متصدّقاً صائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين دُعي كاظماً، كان يجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني عليه بعفوه عنه، ولكثرة عباداته كان يُسمى بالعبد الصالح، ويُعرف في العراق بباب الحوائج إلى الله لنُجح المتوسلين إلى الله به، كراماته تحار فيها العقول، وتقضي بأن له عند الله قدم صدق لا تزول..

إثبات مرجعيته في الأمة:

وهكذا، استطاع الإمام الكاظم (ع) أن يفرض محبته واحترامه وعظيم مكانته على المسلمين، بالرغم من أن الخلفاء في عهده كانوا يملكون كل السلطة والسطوة في موقع الخلافة، فقد عاصر المنصور والمهدي والهادي والرشيد، والناس يرجعون إليه ويتبرّكون به ويسألونه، ويُرسلون إليه حقوقهم الشرعية، وتناهى إلى "الرشيد" ذلك، وعرف أن سعة مرجعيته في الأمة تهدد ملكه، وفي موقف لافت، ما يروى أن الرشيد قدِم إلى المدينة ووقف أمام قبر رسول الله(ص)، وقال: السلام عليك يابن العم، وكأنه أراد أن يقول للناس إني ابن عم رسول الله (ص)، ولذلك فإن موقعي في الخلافة يمثل شرعية إسلامية باعتبار قربي من النبي، فوقف الإمام الكاظم (ع) وهو المتواضع، ولكنه أراد أن يقابل هذا الجبّار الذي يستعلي على الناس ويحاول أن يوحي لهم بقربه من رسول الله (ص)، وقال: "السلام عليك يا أبي يا رسول الله"، فقال له الرشيد: كيف تقولون إنكم أبناء رسول الله وأنتم أبناء ابنته؟ فسأل الإمام الكاظم (ع): "لو كان النبي حاضراً وطلب منك أن تزوّجه ابنتك، فهل تجيبه إلى طلبه"؟ قال له: بلى وأتشرف بذلك، فقال (ع): "ولكن رسول الله لا يطلب مني ابنتي لأنها ابنته، وهذا هو الفرق بيننا وبينكم".

الرشيد يحاول التخلص منه:

وشعر الرشيد بخطورة موقع الإمام الكاظم (ع) في الأمة على ملكه، فعمل على أن يسجنه، ويُقال إنه وقف أمام قبر رسول الله (ص) وقال: إني أعتذر إليك من أمر أريد أن أفعله، أن أسجن موسى بن جعفر، فإنه قد فرّق الأمة.. وهذا هو شأن الطغاة في التعامل مع كل من يعارضهم ويبيّن للناس ظلمهم وجورهم وعدم شرعيتهم، فنقله من المدينة إلى سجن البصرة، وكان سجّانه والي البصرة الذي أرسل إلى الرشيد: خذ مني موسى بن جعفر، فإني لا أستحلّ سجنه، فقد وكّلت به جماعة فلم أره يدعو عليّ ولا عليك، ولكنه كان يقضي وقته بالعبادة.. وسمعه وهو يقول: "اللهم إني كنت أطلب منك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد".. ونُقل إلى سجن "واسط" ثم إلى بغداد وسُجن في بيت "الفضل بن ربيع"، ثم نقل إلى سجن "السندي بن شاهك" وطلب منه أن يضيّق عليه، فسجنه في سرداب لا يُعرف فيه الليل من النهار، وقضى الإمام (ع) في سجن "السندي بن شاهك" مسموماً، وجاء السندي بعلماء البلد ليقول لهم: انظروا إلى موسى بن جعفر إنه صحيح الجسم، ولكن الإمام (ع) فوّت عليه ذلك، وقال لهم: "إني صحيح الظاهر ولكني سقيم الباطن وقد سُقيت السمّ". وانتهت حياة الإمام الكاظم (ع) كحياة أجداده الذين واجهوا الظلم كما لم يواجهه أحد، لأنهم كانوا القوة التي تمثل قوة الحق في كل ما تكلّموه وفعلوه.

إمام الأسرى والشهداء:

وقد أطلقنا قبل مدة أن نجعل يوم وفاة الإمام الكاظم (ع) "يوم الأسير"، لأنه كان الإمام الذي قضى ردحاً من عمره في السجن ظلماً وعدواناً، ونحن نواجه في حياتنا الكثير من المسلمين والمظلومين في سائر أنحاء العالم الإسلامي وهم يعانون الأسر والظلم والاضطهاد من الطغاة المستكبرين، لنتذكّر الإمام الأسير الشهيد الكاظم (ع) عندما نذكر أيّ أسير في أي بلد من بلاد الإسلام، فإنه كان إمام الأسرى وإمام الشهداء.

من هدي تعاليمه:

ونحن - كعادتنا - لا بد لنا أن نقرأ شيئاً من كلماته حتى نعيش إمامته في وجداننا وعقولنا وحياتنا، لنستمر معه، ونشعر بحضوره بيننا من خلال حضور تعاليمه وكلماته التي كلها نور وخير.

الابتعاد عن المعاصي:

في الحديث عن الإمام الكاظم (ع) وقد سأله أحد أصحابه عن قول الله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً}؟ فقال (ع): "يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه"، التوبة النصوح هي التوبة التي لا يحتاج بعدها إلى توبة، هي التوبة التي تنطلق من عمق الندم على الذنب، ومن قوة الإرادة في رفض الذنب الذي أذنبه في الماضي، و"أحبّ العباد إلى الله المفتّنون التوّابون".. ونقرأ في حديث الإمام الكاظم (ع): "إن لله عزّ وجلّ في كل يوم وليلة منادياً ينادي: مهلاً مهلاً عباد الله عن معاصي الله - لا تقتحموا معاصي الله ولا تتجرأوا على الله، لأن ذلك يستوجب غضب الله الذي قد يستوجب عقابه في الدنيا قبل الآخرة - فلولا بهائم رتع وصبية رضع وشيوخ ركّع لصبّ عليكم العذاب صباً، تُرضّون به رضّاً"، كأن الله تعالى يرحمنا من خلال هؤلاء، وإلا فإن المعاصي التي تنطلق منا في الليل والنهار قد تكسبنا غضب الله الذي لا تقوم له السموات والأرض.

محاسبة النفس:

ويقول الإمام الكاظم (ع) وهو يريد منا أن نجلس مع أنفسنا في الصباح والمساء لنحاسب أنفسنا وندرسها ونعرف طبيعة ما قلناه وفعلناه وتحركنا فيه، في رضا الله عنه أو سخطه عليه، إن معنى أن تكون مسلماً أن تكون الإنسان الذي يحاسب نفسه، الذي ينقد ذاته ويعالج أمراض نفسه، يقول (ع): "ليس منا - أنت تعتبر نفسك مسلماً وموالياً لأهل البيت (ع)؟ لا يكفي في ذلك أن تنطق بالشهادة في تأكيد إسلامك، ولا يكفي أن ينبض قلبك في حب أهل البيت (ع) في تأكيد تشيّعك، لأن المطلوب منك أن تحوّل إسلامك إلى خط تسير عليه، وأن تحوّل ولايتك لأهل البيت (ع) إلى منهج تتحرك فيه - من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله منه - فإن وجد أعماله في طاعة الله فإنه يطلب من الله تعالى أن يزيده من هذه الحسنات - وإن عمل سيئة استغفر الله منه وتاب إليه".

التربية على الفضائل:

ويوجّه الإمام الكاظم (ع) الحديث إلى بعض الناس الذين إذا عملوا الخير استكثروه، فيقول (ع): "لا تستكثروا كثير الخير، ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النَصَف، وسارعوا إلى طاعة الله - فلا تؤجّل العمل بالطاعة إلى وقت آخر فقد لا توفَّق له - وأصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة، فإن ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحل لكم - في المحرّمات - فإنما ذلك عليكم".. ومن كلمات الإمام الكاظم (ع) قال "عبد المؤمن الأنصاري": دخلت على موسى بن جعفر وعنده "محمد بن عبد الله الجعفري - أحد أصحاب الإمام - فتبسّمت إليه، فقال لي: "أتحبه"؟ قلت: نعم، وما أحببته إلا لكم - انا أحبه لأنه يواليكم ويسير في منهجكم - فقال (ع): "هو أخوك - فالإيمان في خط الحق آخى بينك وبينه - والمؤمن أخو المؤمن لأمه وأبيه وإن لم يلده أبوه، ملعون من اتهم أخاه - بحيث ينسب إليه تهمة لم تثبت عليه - ملعون من غشّ أخاه - ولا فرق بين أن تغشه في البضاعة التي تبيعه إياها أو الرأي الذي تعطيه إياه - ملعون من لم ينصح أخاه - إذا جاءك مستنصحاً - ملعون من اغتاب أخاه"..

وسأله أحـد أصحابه عن رجلين يتسابّان - وكم نعاني في مجتمعاتنا من هذه الآفة - فقال (ع): "البادي منهما أظلم ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم". ويروي الإمام الكاظم (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال لـ"أبي ذر الغفاري": "كفّ أذاك عن الناس -عشمع الناس ولا تؤذي أحداً - فإنها صدقة تصدّق بها على نفسك". وعن "مسعدة" قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (ع): "إن عيال الرجل أسراؤه - أطفالك ينتظرونك كما ينتظر الأسير سجّانه لكي يقدّم له الطعام والشراب - فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسّع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول عنه تلك النعمة"، فالله تعالى ينـزل المعونة على قدر المؤونة، فكلما رزقك الله ولداً فإنه يوسّع عليك لأنه حمّلك مسؤولية أن تصرف مالك على من تعول، ولذا ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "ملعون ملعون من ضيّع من يعول"، فالإنسان ليس حراً أن يبذّر ماله ويصرفه كيفما أراد، لأنه ماله ومال عياله، ومن فعل ذلك فإنه يكون كمن سرق اللقمة من فم ولده..

هذا هو خط أهل البيت (ع)، وهذا هو منهجهم وتعاليمهم، وعلينا أن نلتزم نهج أهل البيت (ع) ونقتدي بهم ونطبّق تعاليمهم، لأنهم يمثّلون الإسلام الحق، ولأنهم يمثّلون في مواعظهم ووصاياهم سعادة الدنيا والآخرة.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم أمام كل الأحداث الكبرى التي تنطلق في الواقع الإسلامي كله من ظلم الظالمين واستكبار المستكبرين، والجرائم التي توجَّه للمستضعفين. اتقوا الله في مسؤولياتكم عن أمتكم، أن لا يعرض لها أحد بسوء، أن لا يذلها الذين يذلّون الشعوب، أن لا يصادر اقتصادها من يسرقون اقتصاد الأمة، إن علينا أن نعيش مسؤوليتنا كأمة وكأفراد، لأن الأمة ليست إلا الأفراد مجتمعين، وإذا تخاذل الناس عن نصرة الحق تحرك أهل الباطل لإسقاط الحق، والله تعالى يحمّلنا مسؤولية أن نكون مع الحق والعدل دائماً، كلٌ بحسب طاقته وقدرته. إننا لا نزال نعيش في هذه المرحلة من الزمن غطرسة الاستكبار العالمي، وهمجية اليهود في فلسطين وما حولها، وعلينا أن نواجه المسألة بكل مسؤولية.

شرم الشيخ.. مساواة بين الضحية والمجرم :

الانتفاضة مستمرة، والشعب الفلسطيني لا يزال في حيويته الجهادية قوياً صامداً أمام الآلة العسكرية الصهيونية الوحشية، التي تحصد الأبرياء بين قتيل وجريح، وتدمّر البيوت.. وقد انتهت قمة "شرم الشيخ" التي قادتها أمريكا لإخراج إسرائيل من المأزق الذي وضعتها فيه الانتفاضة، وخرج "باراك" ليعلن انتصاره، لأن القمة تحدثت عن إنهاء العنف، من دون أن تحمّل العدو المسؤولية عنه، بل ساوت بين الضحية والمجرم، ولم تحقق للفلسطينيين مطلبهم في لجنة تحقيق دولية حول الأحداث، بل قررت إنشاء لجنة لتقصي الحقائق التي لن تتقصى شيئاً، بل ستغيب في كهوف لجان الأمم المتحدة..

إن المطلوب – أمريكياً – هو إعادة صورة إسرائيل المسالمة إلى الرأي العام الدولي، بعد أن ظهرت صورتها العدوانية الوحشية بشكل أوضح وهي تقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب بالطائرات والصواريخ والمدافع التي منحتها إياها أمريكا، بالإضافة إلى ما تملكه من أسلحة الدمار الشامل، لتكون أقوى قوة ضاربة في المنطقة، لتتمكّن من فرض إرادتها وسياستها عليها. وبذلك، تكون أمريكا الشريك الأكبر لإسرائيل في كل جرائمها الوحشية، لأنها هي التي تعطيها كل القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية، لتضغط على مختلف الدول – بما فيها الدول العربية والإسلامية – للابتعاد عن إدانتها ومقاطعتها، بل دفعها لإقامة الصلح والتطبيع والتنسيق معها من أجل حماية المصالح الأمريكية في المنطقة، ومواجهة القوى المضادة لها..

  الإجهاز على الانتفاضة:

لقد كانت مهمة قمة "شرم الشيخ" إيقاف الانتفاضة بحجة تخفيف الضغوط عن الشعب الفلسطيني المحاصَر اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، وهكذا تتحرك إسرائيل – بالتنسيق مع أمريكا – في تشديد قبضتها على هذا الشعب الأعزل، لتتحوّل المسألة إلى مأساة إنسانية، وتعقد الاجتماعات الدولية تحت ضغط الجانب الإنساني من جهة، والخوف على السلام من جهة أخرى، ويتجلى ذلك بإيقاف "العنف" الذي تطالب به إسرائيل باعتبار أنها تدافع عن أمنها الذاتي كما تدّعي، وتأتي القرارات لحساب إسرائيل باسم إنقاذ الشعب الفلسطيني من الحصار، كما جاء في تصريح بعض المسؤولين العرب..

ولكن إسرائيل تابعت عدوانها بجنودها ومستوطنيها، وسقط أكثر من شهيد، وأُصيب أكثر من جريح، وعندما بدأ الفلسطينيون بالدفاع عن أنفسهم، انطلقت التصريحات الأمريكية والإسرائيلية في اتهامهم بأنهم لم ينفّذوا الاتفاق، وهكذا تستمر اللعبة الدولية، وتبقى الانتفاضة قوية صامدة..

القمة العربية..إرباك الواقع:

وتقبل علينا القمة العربية، التي مهّدت لها أمريكا بقمة "شرم الشيخ" وبزيارة وزيرة خارجيتها للسعودية، وباتصالات الرئيس الأمريكي كلينتون بالمسؤولين العرب، من أجل أن تكون القرارات معتدلة لئلا تزيد المشكلة تعقيداً وتسيء إلى السلام، بحسب المنطق الأمريكي.. وتتحرك بعض التصريحات العربية لتسبق القمة بالحديث عن أن الدول العربية لا تستطيع – بحكم ظروفها المعقّدة – أن تستجيب لمطالب الشارع العربي، ويختلف وزراء الخارجية العرب حول إصدار قرار بالمقاطعة الدبلوماسية والتطبيعية والاقتصادية – كما هو مطلب البعض ومنهم سوريا ولبنان – أو التلويح بها كما هو مطلب دول أخرى، دون اللجوء إلى التنفيذ الحاسم، ولا ندري ما هو القرار الذي ستصدره القمة، ولكننا لا نتفاءل كثيراً في الارتفاع بالقرارات إلى مستوى حاجة الشعب الفلسطيني إلى الدعم والإنقاذ والمساعدة في قضية التحرير، لأن المشكلة الحالية هي نتيجة للاحتلال الذي هو سرّ المشكلة، فما هو الحل العربي لذلك؟ هل هو بالمفاوضات التي لن تنتهي إلى شيء في غياب أيّ ضغط دولي أو عربي أو إسلامي حاسم، ومع الضغط الأمريكي المضاد لحماية إسرائيل من أي ضغط مماثل؟؟

 ندعو لقرارات بمقاطعة العدو:

إن على المسؤولين العرب أن يعرفوا أنهم ليسوا السادة لشعوبهم، ولكنهم الوكلاء عنهم – إذا كانوا يملكون شرعية الوكالة – وأنهم خدّامهم، ولذلك فليست لهم أية حرية في الخضوع للضغوط الأمريكية التي تسيطر على أكثر الأنظمة العربية، بل إن واجبهم هو الاستجابة لنداء الشعب في أضعف الإيمان، وهو إنتاج قرارات مقاطعة العدو سياسياً واقتصادياً من جديد، ليعرف هذا العدو بأنه لا يملك اللعب على أوراق التناقضات العربية، وأن زمن الضعف العربي والسقوط السياسي والخوف العسكري قد ولّى..

لقد وصلت الأوضاع العربية بفعل سياسة الأنظمة إلى نقطة فقدان الوزن، فهل يعود الجميع – بفعل كل هذه الدماء الطاهرة، والمواقف البطولية، والصمود الشجاع – إلى مواقع القوة؟ إننا بانتظار القمة التي نأمل أن تكون في مستوى شعوبها، لا في مستوى ضغوط أمريكا وإسرائيل، فإن المسألة لا تمثّل مجرد موقف سياسي طارئ، بل هي قضية الوجود واللاوجود، فإن أمريكا قررت أن تمسك المنطقة بالقبضة الحديدية، وأن تدفع بإسرائيل إلى موقع الواجهة، في تحالف يستهدف إضعاف الواقع العربي والإسلامي باسم مواجهة الأصولية والراديكالية..

إننا، من موقع المسؤولية الشرعية، ندعو العرب والمسلمين للارتفاع إلى مستوى المرحلة، وذلك بالمقاطعة الاقتصادية الفاعلة للبضائع الإسرائيلية بالمطلق، وللبضائع الأمريكية قدر الإمكان، فإن هذا هو أضعف الإيمان في الرد على هذه الحرب الأمريكية – الإسرائيلية الموجَّهة ضد العرب والمسلمين.. ولا بد لنا – بالإضافة إلى ذلك – من محاصرة المصالح الأمريكية في المنطقة، لأن ذلك هو ما نملكه من وسائل القوة.

لنعمل من أجل إزالة اسرائيل:

إن علينا أن لا نكتفي بالتظاهر والتصريحات الاحتجاجية والحماس اللاهب، بل أن نتحرك على الأرض بالمقاطعة والمواجهة في نطاق خطة مدروسة متكاملة. لقد آن للشعوب أن تقوم بعمليات الضغط المباشر وغير المباشر على قوى الاستكبار العالمي، وأن تخرج من حالة الاستضعاف المفروضة عليها، وأن تضغط على حكّامها بالطريقة التي لا تؤدي إلى الفتنة الداخلية.

لقد قال رسول الله (ص): "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، و"من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم"، و"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".. فلنستجب لصرخات الأطفال والنساء والشيوخ والشباب في فلسطين، ولنقف معهم بكل الوسائل الممكنة، فإن المرحلة هي مرحلة الحرب المفروضة على الأمة كلها، وقد قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}. علينا أن نقرر – في موقع الأمة – أن تزول إسرائيل ولو بعد خمسين سنة، ونعمل لذلك، وسوف ننتصر إن عاجلاً أو آجلاً بإذن الله.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير