محطات الرسالة في مدى الزمن

محطات الرسالة في مدى الزمن

 في رحاب ذكريات أهل البيت (ع) في "شعبان": محطات الرسالة في مدى الزمن


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. في هذا الشهر - شعبان - تمرّ أكثر من ذكرى لأهل البيت(ع)، ففي الثالث منه كانت ولادة الإمام الحسين بن عليّ(ع)، وفي الرابع منه كانت ولادة أبي الفضل العباس(ع)، وفي الخامس منه كانت ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، وفي الخامس عشر منه ستمر ولادة الإمام الحجة(عج).

التفاني والإخلاص لله:

ونحن عندما نتذكّر أهل البيت(ع)، فإننا نعيش كل هذا العطر الروحي الذي يتمثّل في روحانيتهم التي تعيش الفيض في الإخلاص لله ولعباد الله، وفي التضحية للإسلام كله وللمسلمين كلهم، كما نعيش كل آفاق السمو والرفعة والعصمة المتمثلة في الأئمة(ع). وعندما نتذكّر الحسين(ع) وليداً كثاني وليد لعليّ والزهراء(ع)، فإننا نتذكّر فرح رسول الله(ص) به، كفرحه بأخيه الحسن(ع) الذي سبقه في الولادة، وكان هذا الفرح يتجاوز الجانب العاطفي إلى الجانب القيمي، فقد كان رسول الله(ص) وهو يحتضن هذين الوليدين، يتطلع إلى العناصر الروحية الكامنة في شخصيتهما، ويتطلّع إلى المستقبل الذي ينطلقان فيه ليتحركا في خط رعاية دينه وشريعته، وليعطيا كل التضحية لذلك كله بعد أبيهما عليّ(ع) الذي أخلص للإسلام بعد رسول الله(ص) كما لم يخلص له أحد، فكان الإنسان الذي باع نفسه لله فلم يكن لنفسه عند نفسه شيء، كان بكله لله، وقد أنزل الله تعالى فيه قرآناً: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، وقد ذكر المفسّرون أن هذه الآية نزلت في عليّ(ع) عندما بات على فراش رسول الله (ص) ليلة الهجرة.

الحسنان(ع) رمز الرسالة

وكان رسول الله(ص) يحتضن الحسن والحسين(ع) بكل فرح الرسالة والأبوة، وكان يحملهما على ظهره ويرعاهما رعاية خاصة، ويحدّث المسلمين عنهما وهما في سنّ الطفولة، فيقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا". وانطلق الحسنان(ع) في أحضان أمهما الزهراء(ع)، السيدة المعصومة بعصمة الطهر، طهر العقل والقلب والجسد والسلوك، وهي سيدة نساء أهل الجنة وسيدة نساء العالمين، كما جاء الحديث بذلك عن رسول الله(ص)، وعاشا مع عليّ(ع) كل روحانيته وإخلاصه لربه وطهارة عقله وقلبه وحياته، وانطلقا بعد ذلك ليواجها أصعب التحديات، وكانا في مستوى الرسالة، وانطلق الحسن(ع) ليواجه الواقع الصعب الذي فَرَض عليه من أجل مصلحة المسلمين أن يصالح عدوّه، وسقط الحسين(ع) شهيداً، لم يعطِ بيده إعطاء الذليل، ولم يقرّ إقرار العبيد، ولم يتنازل عن الرسالة عندما عُرض عليه أن يتنازل عن موقف الرسالة، وقال لهم: "ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون".

وتحوّل الحسين(ع) إلى رمز للرسالة وللجهاد ولكل القيم الروحية والأخلاقية، بحيث إننا نشعر الآن بعد أربعة عشر قرناً تقريباً بأن الحسين(ع) حاضر فينا بكل معنى الرسالة والتضحية والعطاء والجهاد في سبيل الله، وبقي الحسين(ع) يوحي لنا بالتمرد على كل الظالمين والمستكبرين، وبقي الحسين(ع) فينا ليسير بنا في كل جيل حتى نخرج دائماً في كل مواقعنا لنطلب الإصلاح في أمة جده(ص)، لنأمر بالمعروف كل من يترك المعروف، سواء كان معروفاً شرعياً أو حركياً أو سياسياً أو اجتماعياً، ولنقف ضد كل من يفعل المنكر، بقي الحسين(ع) لنا منهجاً وخطاً في كل موقع كان فيه للإسلام قضية وللمسلمين معركة.

العباس(ع) تجسيد للبطولة

وعندما نعيش مع الحسين(ع)، فإننا نعيش مع أخيه العباس بن عليّ(ع)، الذي كان الحسين(ع) بالنسبة إليه الإمام الذي يشعر بإمامته قبل أن يشعر بأخوته، ولذلك أعطاه كل نفسه وأخوته، وهذا ما عبّر عنه عندما انطلق في المعركة بعد أن قطعوا يمينه، ليؤكد الدفاع عن الإمام لا الدفاع عن الأخ من ناحية عاطفية، فيروى عنه أنه قال أو هو لسان حاله:

والله إن قطعتـم يميني إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين

إن هذين البيتين يوحيان لكل مسلم ينفتح على شخصية العباس(ع)، أن ما يملكه الإنسان من شجاعة وبطولة وقوة، عليه أن يحوّلها من أجل حماية الدين، أن نشعر أن الدين الإسلامي هو مسؤوليتنا، أن ندافع عنه أمام كل الذين يريدون الإضرار به وإضعافه والنيل منه، وأن نعمل على أن نحامي عن القيادات الإسلامية الصالحة التي تدعو إلى الله وتجاهد في سبيله، أن نحميها من أنفسنا ومن الآخرين، ومن الطبيعي أن حماية الدين تفرض حماية المسلمين، لأن الدين يتمثّل في الأمة الإسلامية، فقوته بقوة الأمة كما أن قوتها بقوته، ولذلك فإن على الإنسان المسلم أن لا يعيش ذاتياته، بل أن يعيش معنى إسلامه، أن يعيش مسؤوليته عن الإسلام في المسألة السياسية والعقيدية والشرعية والاجتماعية، أن نكون كما كان الحسين(ع)، وكما كان العباس وأخوته، وكما كان علي الأكبر وكل تلك الصفوة الطيبة من أهل بيت الحسين(ع) وأصحابه، انطلقوا من أجل حماية الإسلام في الداخل والخارج. هذا هو درس العباس(ع) إلينا، فليس العباس مجرد بطل نعتز ببطولته، ولكن بطولته الإرادية أعظم من بطولته الجسدية، لأن قضية أن يعيش الإنسان بطولة الإرادة والموقف والتضحية في سبيل مبدئه هي البطولة كل البطولة، وإن قيمة البطولة الجسدية إنما هي في أن تتحرك في خط البطولة الروحية، لأن الإنسان بعقيدته ومبدئه وموقفه، وقد قال الإمام الصادق(ع) وهو يتحدث عن العباس في وعيه وصلابة إيمانه: "كان عمنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله الحسين(ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً"..

زين العابدين (ع) إمام الثقافة الإسلامية:

وعندما نقف مع الإمام عليّ بن الحسين(ع) زين العابدين، هذا الإمام الذي عاش مع أبيه في كربلاء وشاهد كل مآسيها، وعاشها في عقله وقلبه ومشاعره، كانت المشاهد بين يديه عندما رأى كيف قتل أخوته وأعمامه وأهل بيته وأصحابه، ورأى أباه الحسين(ع) بتلك الصورة المأساوية، ثم عاش السبي مع بنات الرسالة وواجه الموقف بكل قوة وصلابة في مجلس "ابن زياد" ومجلس "يزيد"، وكأن الله تعالى أراد لهذه الشجرة المباركة أن تمتد، فكان(ع) مريضاً، ولذلك لم يبرز إلى القتال وقد منعه الإمام الحسين من الخروج للمبارزة - كما تقول السيرة الحسينية - ثم بعد كربلاء أسس الإمام زين العابدين(ع) لاستمرار كربلاء في وجدان الناس، فكان يذكّرهم بالمأساة بين وقت وآخر حتى تتعمّق في وجدانهم، وحتى يتعمّق رفض الذين صنعوا المأساة، وليتعلّموا أن عليهم أن يرفضوا كل يزيد في كل موقع، وان يكونوا مع كل حسين في كل موقع.

ولذلك، فإن الإمام زين العابدين(ع) هو الذي أسس لإقامة المجالس الحسينية التي أُريد لها أن تخلّد هذه السيرة، لتخلّد الخط الرسالي الذي انطلقت فيه. ثم انطلق الإمام زين العابدين (ع) في المجتمع الإسلامي معلّماً يعلّم الناس الإسلام في كل مواقعه العقيدية والروحية والأخلاقية والشرعية، ولو أننا درسنا تراث الإمام زين العابدين(ع)، لرأينا أنه كان إمام الثقافة الإسلامية في تلك المرحلة التي عاشها، وقد تلمّذ عليه الكثيرون ممن يُعتبرون من روّاد الثقافة الإسلامية.

المنهج الإسلامي في الدعاء:

وقد أسس الإمام زين العابدين(ع) المنهج الإسلامي في الدعاء، فإننا عندما نقرأ أدعيته، نرى أنه حشد فيها الكثير من المعارف الإسلامية في العقيدة، سواء عقيدة التوحيد أو النبوة أو المعاد، وحشد الكثير من القيم الأخلاقية التي ترتفع بالإنسان إلى المستوى الأعلى في مناقبيته وأخلاقيته، فنحن نقرأ في بعض أدعيته أنه(ع) يقول: "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واكسر شهوتي عن كل محرم، وازوِ حرصي عن كل مأثم، وامنعني عن أذى كل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة"، إنه يطلب من الله تعالى أن يتدخّل بقوته ليضغط عليه إذا بدأ يفكر في إيذاء أي مؤمن أومسلم أو مسلمة، كان يستعين بقوة الله على نفسه، يعلّمنا أن الإنسان المؤمن إذا حاولت نفسه الأمّارة بالسوء أن تأمره بأن يؤذي أي مؤمن ومؤمنة، سواء كان ذلك في بيته أو في محلته، أن يطلب من الله تعالى أن يبعده عن ذلك.. كان يعلّمنا أن على الناس الناجحين الذين ينجحون في حياتهم فيحصلون على الموقع الاجتماعي والسياسي، وأن الأشخاص الذين تهتف الناس بأسمائهم ويحملونهم على أكتافهم، أن لا يشعروا بانتفاخ شخصيتهم، فيأتي الشيطان ليثير الغرور والخيلاء في أنفسهم، فالإمام(ع) كان يطلب من ربه في دعاء "مكارم الأخلاق": "اللهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها"، كان يطلب من الله تعالى أن ينقذه من الظالمين وأن ينقذ الناس من ظلمه إذا فكّر الإنسان بالظلم، فيقول(ع): "ولا أُظلمن وأنت مطيق للدفع عني، ولا أَظلمن وأنت القادر على القبض مني".

وكان(ع) عندما يقف أمام مسألة طول العمر، وكلنا يحبّ أن يعمّر طويلاً، يعلّمنا أن على الإنسان عندما يفكّر في أن يعمَّر كثيراً أن يفكر بأن يكون عمره في طاعة الله لا في معصيته، أن يكون عمره ساحة لله لا ساحة للشيطان، فيقول في دعاء "مكارم الأخلاق": "وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك - إني أطلب منك يا ربّ أن تعطيني العمر الطويل، ما دام هذا العمر يتحرك بطاعتك، فيقوم بكل الواجبات ويبتعد عن كل معاصيك - فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان - عمر مليء بتجارة الحرام وأكل الحرام وبسياسة الحرام وبالشهوات الحرام - فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ أو يستحكم غضبك عليّ"..

التوازن في التفكير:

وكان(ع) يطلب من الله أن يجعل تفكيره تفكيراً إسلامياً، وتقويمه للناس تقويماً إسلامياً، فنحن عادة من خلال طبيعة التربية الاجتماعية السلبية، نعتبر الغني شريفاً والفقير حقيراً، نحتقر الفقير فلا نقوم له ولا نصافحه ولا نعتني به، ولكن إذا جاء الغني تأهّلنا به وفرشنا له كل الطريق بالورود؟! كان من دعائه إذا نظر إلى أصحاب الدنيا: "الحمد لله، رضيت بحكم الله، شهدت أن الله قسم معايش عباده بالعدل وأخذ على جميع خلقه بالفضل، اللهم لا تفتنهم بما منعتني - لا تجعلهم يا ربّ يتكبّرون عندما يرون الفقراء، اجعلهم يتصوّرون الأمور بطريقة متوازنة ويعتبرون أن الله عندما يعطي الغني فإن عليه أن يعتبر أنه يختبره بذلك ويدخله في الامتحان، هل يشكر أم يكفر، وهكذا عندما يمنع الفقير من المال، فإن الله لا يعاقبه بذلك، ولكن يختبره هل يصبر أو يسقط، فهل تنجح في الامتحان أيها الغني فتشكر ربك وتعمل في مالك بما فرض الله عليك، وهل تنجح أيها الفقير في الامتحان فتصبر على ذلك - ولا تفتني بما أعطيتهم فأحسد خلقك وأغمط حكمك.. واعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة - أن أرى الفقير حقيراً لأنه لا يملك موقعاً اجتماعياً - أو أظن بصاحب ثروة فضلاً، فإن الشريف من شرّفته طاعتك - لأنها ترتفع به إلى أن يكون من أهل الجنة، وما قيمة غنى الدنيا كلها إذا كانت النتيجة النار - والعزيز من أعزّته عبادتك"..

مدرسة روحية في العطاء:

لقد أعطانا الإمام زين العابدين(ع) مدرسة روحية أخلاقية اجتماعية سياسية في أدعيته، فأنت إذا كنت واعياً للدعاء الذي تقرأه، تشعر أنك تقرأ فتدرس القيمة الاجتماعية والسياسية والروحية والإيمانية، فتتعلّم بالدعاء كيف تكون المسلم الواعي المنفتح على كل قضايا الحياة. وانطلق الإمام زين العابدين(ع) ليجسّد الإسلام كله في سيرته وروحيته، وكان يدعو الله ويخشع له ويبكي بين يديه، حتى قال أحد الأشخاص: رأيت عليّ بن الحسين(ع) وهو في الكعبة في سجوده، فاقتربت منه لأرى كيف يتكلم هذا الرجل الذي هو من صلحاء أهل البيت(ع)، وإذا بي أسمعه وهو يقول: "عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك"، ويقول هذا الرجل: ما دعوت بهذا الدعاء الذي تعلّمته من الإمام زين العابدين إلا وقضيت حاجاتي، بحسب التجربة..

أهل البيت(ع) الأسوة والقدوة:

هؤلاء أهل البيت(ع)، هؤلاء أئمتنا، هؤلاء الإسلام الذي يتجسّد في كلماتهم وسيرتهم، هل تريدون أن تسيروا معهم؟ حاولوا أن تتعلّموا منهم كيف تقتربون من الله وكيف تقفون مع الحق وتتحمّلون المسؤولية في خط كل مسؤولياتكم في الحياة، هم أئمتنا في الماضي والحاضر والمستقبل، وقد قال أبوهم وسيدهم وإمامنا أمير المؤمنين(ع): "ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم - ويشير إلى نفسه - قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن - ماذا تريد منا يا أمير المؤمنين وقد أعطيت نفسك لله وللإنسان وللإسلام، ماذا تريد من أتباعك وشيعتك ومن المسلمين - أعينوني - أعينوني على أنفسكم وشياطينكم - بورع - عن الحرام - واجتهاد - في طاعة الله - وعفّة - عما يُغضب الله - وسداد" في الرأي، هل نعين الأئمة في ذلك؟ لا تزال في العمر بقية، ولا يزال الطريق إلى الله مفتوحاً، فهل نسير في طريق الله أو في طريق الشيطان؟ {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وسيروا في خط التقوى الذي أرادنا الله تعالى أن نجعله خطنا في حياتنا الخاصة والعامة، وأرادنا رسول الله(ص) أن نأخذ به، وأمرنا أهل البيت(ع) أن نسير عليه.. اتقوا الله في ما تواجهون من قضايا أمتكم لتنطلقوا مع الحسين(ع) أمام كل المستكبرين، لتقولوا لهم: لا والله لا نعطيكم بأيدينا إعطاء الذليل ولا نقرّ لكم إقرار العبيد.. إن الله تعالى يريدنا أن نكون الأحرار والأعزاء والأقوياء، هذا هو خط التقوى، وهذا ما يجب أن نواجه به كل قضايانا، لا سيما في هذه المرحلة التي نعيش فيها أكثر من زلزال أمني وسياسي، فماذا هناك؟ٍ

الانتفاضة.. صمود وتطور أساليب:

الانتفاضة في شهرها الثاني مستمرة، والشهداء والجرحى يسقطون كل يوم تحت تأثير القصف الإسرائيلي الوحشي بالطائرات والمدافع والصواريخ، ويعيشون في نطاق الحصار الاقتصادي التجويعي للشعب الفلسطيني من قِبَل العدو، والانتفاضة مع ذلك كله لا تزال صامدة، وقد استطاعت تطوير أساليبها في المواجهة مع العدو الذي كلما ازداد وحشية ازداد المنتفضون ضراوة، وهذا ما كنا نتوقعه..

لقد بدأ اليهود يتساقطون قتلى وجرحى، ولا سيما في العملية النوعية التفجيرية في القدس، التي قام بها المجاهدون في "حركة الجهاد الإسلامي"، لتكون رسالة للعدو بأنه سوف يفقد كل أمنه في داخل مواقعه في فلسطين، لأن للمجاهدين وسائلهم التدميرية بطريقة تختلف عن وسائل العدو، ولكنها تعطي النتيجة الحاسمة في إرباكه، وهذا ما ندعو إليه أهلنا في فلسطين، أن يبادروا إلى استخدام نقاط قوتهم ضد نقاط ضعف العدو الذي يستخدم نقاط قوته ضد نقاط ضعفنا المادي، وعليهم أن يربكوا المستوطنات بكل وسائل المواجهة، ليعرف العدو بأن المستوطنين لا يملكون أي أساس للأمن في داخل الأرض الفلسطينية المحتلة..

العدوّ في مأزق:

لقد استطاعت الانتفاضة البطلة أن تُدخل العدو في مأزق أمني وسياسي وإعلامي، حيث بدأ العالم يستعيد الصورة الوحشية للكيان الصهيوني، في استخدام الطائرات والمدافع والصواريخ ضد المدنيين العزّل من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب. ولذلك، بدأ وزير خارجيته يتحدث عن أن الموقف ليس موقف حرب ضد انتفاضة سلمية، بل هو موقف حرب إسرائيلية في مواجهة حرب فلسطينية، على حدّ قوله، في منطق لا يقبله أحد، لأن الشعب الفلسطيني لم يستعمل السلاح الخفيف إلا للدفاع عن نفسه ضد وحشية العدو الذي لا يزال يحتل أرضه ويمنعه من تقرير مصيره.

أين شرعة حقوق الإنسان؟!

وهذا ما نريد للعالم كله أن يعيه، ولا سيما "الاتحاد الأوروبي" الذي يحتفل بمرور نصف قرن على إعلان ميثاق حقوق الإنسان الذي لا يوافق على احتلال دولة لشعب ومنعه من تقرير مصيره. إن أبسط حقوق الإنسان الفلسطيني أن تصدر الأمم المتحدة قراراً ملزماً بإنهاء احتلال فلسطين، وإعلان الدولة الفلسطينية بإجماع دولي كأية دولة مستقلة قادرة على حماية شعبها سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وإلا فما معنى حقوق الإنسان في عالم يغض النظر عن الجرائم الوحشية التي يرتكبها العدو ضد الفلسطينيين، وأية جريمة أفظع من أن تُحتل أرض شعب ويطرد منها؟!

لقد بدأت المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والعدو حول الهدنة التي تمهّد لإيقاف الانتفاضة في خط التحرير، لتبقى حركة احتجاجية في خط التحريك، بحجة إيقاف "العنف" تطبيقاً لقرار قمة "شرم الشيخ"، وإننا نخشى أن تكون هذه الهدنة استعادة لقرارات الهدنة العربية - الإسرائيلية في بداية احتلال فلسطين، والتي استفاد منها العدو ولم يستفد منها العرب، لأنها أخرجت العدو من مأزقه الأمني والسياسي، ومكّنته من تنفيذ خطته في السيطرة على فلسطين، وإبعاد الفلسطينيين عن حقوقهم الشرعية..

ندعو لمتابعة الانتفاضة:

إننا ندعو الفلسطينيين إلى متابعة انتفاضتهم، لأنها السبيل الوحيد للحصول على حقهم في الحرية والاستقلال، لأن المفاوضات لم تؤدِّ إلى أية نتيجة إيجابية لهم، وقد سقط اتفاق "أوسلو" الذي لم تنفذ إسرائيل منه شيئاً، في الوقت الذي منحها هذا الاتفاق شرعية فلسطينية بالاعتراف بها كدولة. وإننا في الوقت نفسه، نحيي المنظمات الإسلامية الفلسطينية، ومعها المنظمات الأخرى التي رفضت الهدنة استجابة لتطلعات الشعب الفلسطيني بالاستمرار في انتفاضته التي بدأت تتحوّل إلى ثورة، ونريد للعرب أن يقفوا معه بكل قوتهم، لأن المسألة هي القيمة العربية السياسية أمام العالم. كما نريد للقمة الإسلامية التي سوف تنعقد في "قطر" أن تبادر لدعوة هذه الدولة إلى إغلاق مكتب الاتصال الصهيوني فيها، وأن تقف مع الشعب الفلسطيني موقفاً حاسماً لا يقتصر على البيانات الاحتجاجية، لأنه لا قيمة للمؤتمر الإسلامي إذا لم يكن فاعلاً في هذه القضية الإسلامية الأم، التي تختصر كل واقع الصراع الإسلامي - اليهودي..

الأمم المتحدة.. انحياز لإسرائيل:

ونصل إلى لبنان، لنلاحظ تصريح الأمين العام للأمم المتحدة الذي يحذّر لبنان بأنه سيعود ساحة صراع إذا لم يفرض سيطرته الفاعلة في الجنوب بإدخال الجيش إلى هناك، للإيحاء بأن المشكلة هي في العمليات التي قامت بها المقاومة ضد العدو، ومنها اعتقال الجنود الإسرائيليين الثلاثة على أرض لبنانية محتلة وهي "مزارع شبعا" التي لم ينسحب منها العدو، ولم تعترف الأمم المتحدة بخضوعها للقرار 425، في الوقت الذي لم يبيّن فيه الأمين العام للأمم المتحدة أن المشكلة هي في بقاء الاحتلال الإسرائيلي وراء الخط الأزرق، بالإضافة إلى "مزارع شبعا"؟!

إن المشكلة ليست من لبنان ومن المجاهدين الذين اعترف "أتان" في تصريحه بأنهم تحت سيطرة قيادة فاعلة، ويحافظون على النظام العام.. إن مسؤولية الأمم المتحدة هي أن تحافظ على تطبيق قراراتها بدقة، بعيداً عن أية ضغوط أمريكية وإسرائيلية، كما هو موقفها الآن الذي لا يحتجّ على التهديدات الإسرائيلية للبنان وسوريا، ولا يضغط لإطلاق الأسرى اللبنانيين بالإضافة إلى الأسرى العرب في الكيان الصهيوني، بل يقتصر اهتمامه على الجنود الإسرائيليين!!

الاستعداد لمواجهة العدو:

إننا ندعو اللبنانيين إلى مواصلة الاستعداد لمواجهة العدو، الذي قد تكون تهديداته إعلامية سياسية لإثارة الأجواء الدولية للضغط على لبنان، ولكنه - في الوقت نفسه - لا يتورع عن أي عدوان.. وعليهم أن يُسكتوا كل الأصوات النشاز التي لا تتحدث عن الخطر الإسرائيلي وعن بقاء الاحتلال، بل تتحدث عن الوجود السوري الذي لا يزال حاجة لبنانية لمواجهة الأخطار الأمنية الداخلية والخارجية، ولحماية الموقف العربي الرافض أمام تحديات العدو..

تحويل البيان إلى واقع:

ونريد للحكومة اللبنانية الجديدة أن تتحرك في ما يشبه حالة الطوارئ، لتحويل بيانها الوزاري إلى واقع فعلي لحل الأزمات الاقتصادية والمعيشية في نطاق خطة فاعلة، والتأكيد على الحريات العامة بالطريقة التي يشعر فيها الجميع بأن لبنان لا يزال بلد الحرية في عالم لا يملك الإنسان حريته فيه، والاهتمام بالمناطق المحرومة بطريقة فاعلة، والتركيز بالأساس على إزالة الاحتلال، وتوحيد البلد في الساحة السياسية، والاهتمام بالمغتربين، لا سيما في المناطق الأفريقية الساخنة ومنها "ساحل العاج"، ليشعر الجميع - مقيمون ومغتربون - بأن هناك حكومة مسؤولة للبنانيين جميعاً..

 في رحاب ذكريات أهل البيت (ع) في "شعبان": محطات الرسالة في مدى الزمن


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهّركم تطهيراً}. في هذا الشهر - شعبان - تمرّ أكثر من ذكرى لأهل البيت(ع)، ففي الثالث منه كانت ولادة الإمام الحسين بن عليّ(ع)، وفي الرابع منه كانت ولادة أبي الفضل العباس(ع)، وفي الخامس منه كانت ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، وفي الخامس عشر منه ستمر ولادة الإمام الحجة(عج).

التفاني والإخلاص لله:

ونحن عندما نتذكّر أهل البيت(ع)، فإننا نعيش كل هذا العطر الروحي الذي يتمثّل في روحانيتهم التي تعيش الفيض في الإخلاص لله ولعباد الله، وفي التضحية للإسلام كله وللمسلمين كلهم، كما نعيش كل آفاق السمو والرفعة والعصمة المتمثلة في الأئمة(ع). وعندما نتذكّر الحسين(ع) وليداً كثاني وليد لعليّ والزهراء(ع)، فإننا نتذكّر فرح رسول الله(ص) به، كفرحه بأخيه الحسن(ع) الذي سبقه في الولادة، وكان هذا الفرح يتجاوز الجانب العاطفي إلى الجانب القيمي، فقد كان رسول الله(ص) وهو يحتضن هذين الوليدين، يتطلع إلى العناصر الروحية الكامنة في شخصيتهما، ويتطلّع إلى المستقبل الذي ينطلقان فيه ليتحركا في خط رعاية دينه وشريعته، وليعطيا كل التضحية لذلك كله بعد أبيهما عليّ(ع) الذي أخلص للإسلام بعد رسول الله(ص) كما لم يخلص له أحد، فكان الإنسان الذي باع نفسه لله فلم يكن لنفسه عند نفسه شيء، كان بكله لله، وقد أنزل الله تعالى فيه قرآناً: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، وقد ذكر المفسّرون أن هذه الآية نزلت في عليّ(ع) عندما بات على فراش رسول الله (ص) ليلة الهجرة.

الحسنان(ع) رمز الرسالة

وكان رسول الله(ص) يحتضن الحسن والحسين(ع) بكل فرح الرسالة والأبوة، وكان يحملهما على ظهره ويرعاهما رعاية خاصة، ويحدّث المسلمين عنهما وهما في سنّ الطفولة، فيقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا". وانطلق الحسنان(ع) في أحضان أمهما الزهراء(ع)، السيدة المعصومة بعصمة الطهر، طهر العقل والقلب والجسد والسلوك، وهي سيدة نساء أهل الجنة وسيدة نساء العالمين، كما جاء الحديث بذلك عن رسول الله(ص)، وعاشا مع عليّ(ع) كل روحانيته وإخلاصه لربه وطهارة عقله وقلبه وحياته، وانطلقا بعد ذلك ليواجها أصعب التحديات، وكانا في مستوى الرسالة، وانطلق الحسن(ع) ليواجه الواقع الصعب الذي فَرَض عليه من أجل مصلحة المسلمين أن يصالح عدوّه، وسقط الحسين(ع) شهيداً، لم يعطِ بيده إعطاء الذليل، ولم يقرّ إقرار العبيد، ولم يتنازل عن الرسالة عندما عُرض عليه أن يتنازل عن موقف الرسالة، وقال لهم: "ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون".

وتحوّل الحسين(ع) إلى رمز للرسالة وللجهاد ولكل القيم الروحية والأخلاقية، بحيث إننا نشعر الآن بعد أربعة عشر قرناً تقريباً بأن الحسين(ع) حاضر فينا بكل معنى الرسالة والتضحية والعطاء والجهاد في سبيل الله، وبقي الحسين(ع) يوحي لنا بالتمرد على كل الظالمين والمستكبرين، وبقي الحسين(ع) فينا ليسير بنا في كل جيل حتى نخرج دائماً في كل مواقعنا لنطلب الإصلاح في أمة جده(ص)، لنأمر بالمعروف كل من يترك المعروف، سواء كان معروفاً شرعياً أو حركياً أو سياسياً أو اجتماعياً، ولنقف ضد كل من يفعل المنكر، بقي الحسين(ع) لنا منهجاً وخطاً في كل موقع كان فيه للإسلام قضية وللمسلمين معركة.

العباس(ع) تجسيد للبطولة

وعندما نعيش مع الحسين(ع)، فإننا نعيش مع أخيه العباس بن عليّ(ع)، الذي كان الحسين(ع) بالنسبة إليه الإمام الذي يشعر بإمامته قبل أن يشعر بأخوته، ولذلك أعطاه كل نفسه وأخوته، وهذا ما عبّر عنه عندما انطلق في المعركة بعد أن قطعوا يمينه، ليؤكد الدفاع عن الإمام لا الدفاع عن الأخ من ناحية عاطفية، فيروى عنه أنه قال أو هو لسان حاله:

والله إن قطعتـم يميني إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين

إن هذين البيتين يوحيان لكل مسلم ينفتح على شخصية العباس(ع)، أن ما يملكه الإنسان من شجاعة وبطولة وقوة، عليه أن يحوّلها من أجل حماية الدين، أن نشعر أن الدين الإسلامي هو مسؤوليتنا، أن ندافع عنه أمام كل الذين يريدون الإضرار به وإضعافه والنيل منه، وأن نعمل على أن نحامي عن القيادات الإسلامية الصالحة التي تدعو إلى الله وتجاهد في سبيله، أن نحميها من أنفسنا ومن الآخرين، ومن الطبيعي أن حماية الدين تفرض حماية المسلمين، لأن الدين يتمثّل في الأمة الإسلامية، فقوته بقوة الأمة كما أن قوتها بقوته، ولذلك فإن على الإنسان المسلم أن لا يعيش ذاتياته، بل أن يعيش معنى إسلامه، أن يعيش مسؤوليته عن الإسلام في المسألة السياسية والعقيدية والشرعية والاجتماعية، أن نكون كما كان الحسين(ع)، وكما كان العباس وأخوته، وكما كان علي الأكبر وكل تلك الصفوة الطيبة من أهل بيت الحسين(ع) وأصحابه، انطلقوا من أجل حماية الإسلام في الداخل والخارج. هذا هو درس العباس(ع) إلينا، فليس العباس مجرد بطل نعتز ببطولته، ولكن بطولته الإرادية أعظم من بطولته الجسدية، لأن قضية أن يعيش الإنسان بطولة الإرادة والموقف والتضحية في سبيل مبدئه هي البطولة كل البطولة، وإن قيمة البطولة الجسدية إنما هي في أن تتحرك في خط البطولة الروحية، لأن الإنسان بعقيدته ومبدئه وموقفه، وقد قال الإمام الصادق(ع) وهو يتحدث عن العباس في وعيه وصلابة إيمانه: "كان عمنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله الحسين(ع) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً"..

زين العابدين (ع) إمام الثقافة الإسلامية:

وعندما نقف مع الإمام عليّ بن الحسين(ع) زين العابدين، هذا الإمام الذي عاش مع أبيه في كربلاء وشاهد كل مآسيها، وعاشها في عقله وقلبه ومشاعره، كانت المشاهد بين يديه عندما رأى كيف قتل أخوته وأعمامه وأهل بيته وأصحابه، ورأى أباه الحسين(ع) بتلك الصورة المأساوية، ثم عاش السبي مع بنات الرسالة وواجه الموقف بكل قوة وصلابة في مجلس "ابن زياد" ومجلس "يزيد"، وكأن الله تعالى أراد لهذه الشجرة المباركة أن تمتد، فكان(ع) مريضاً، ولذلك لم يبرز إلى القتال وقد منعه الإمام الحسين من الخروج للمبارزة - كما تقول السيرة الحسينية - ثم بعد كربلاء أسس الإمام زين العابدين(ع) لاستمرار كربلاء في وجدان الناس، فكان يذكّرهم بالمأساة بين وقت وآخر حتى تتعمّق في وجدانهم، وحتى يتعمّق رفض الذين صنعوا المأساة، وليتعلّموا أن عليهم أن يرفضوا كل يزيد في كل موقع، وان يكونوا مع كل حسين في كل موقع.

ولذلك، فإن الإمام زين العابدين(ع) هو الذي أسس لإقامة المجالس الحسينية التي أُريد لها أن تخلّد هذه السيرة، لتخلّد الخط الرسالي الذي انطلقت فيه. ثم انطلق الإمام زين العابدين (ع) في المجتمع الإسلامي معلّماً يعلّم الناس الإسلام في كل مواقعه العقيدية والروحية والأخلاقية والشرعية، ولو أننا درسنا تراث الإمام زين العابدين(ع)، لرأينا أنه كان إمام الثقافة الإسلامية في تلك المرحلة التي عاشها، وقد تلمّذ عليه الكثيرون ممن يُعتبرون من روّاد الثقافة الإسلامية.

المنهج الإسلامي في الدعاء:

وقد أسس الإمام زين العابدين(ع) المنهج الإسلامي في الدعاء، فإننا عندما نقرأ أدعيته، نرى أنه حشد فيها الكثير من المعارف الإسلامية في العقيدة، سواء عقيدة التوحيد أو النبوة أو المعاد، وحشد الكثير من القيم الأخلاقية التي ترتفع بالإنسان إلى المستوى الأعلى في مناقبيته وأخلاقيته، فنحن نقرأ في بعض أدعيته أنه(ع) يقول: "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واكسر شهوتي عن كل محرم، وازوِ حرصي عن كل مأثم، وامنعني عن أذى كل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة"، إنه يطلب من الله تعالى أن يتدخّل بقوته ليضغط عليه إذا بدأ يفكر في إيذاء أي مؤمن أومسلم أو مسلمة، كان يستعين بقوة الله على نفسه، يعلّمنا أن الإنسان المؤمن إذا حاولت نفسه الأمّارة بالسوء أن تأمره بأن يؤذي أي مؤمن ومؤمنة، سواء كان ذلك في بيته أو في محلته، أن يطلب من الله تعالى أن يبعده عن ذلك.. كان يعلّمنا أن على الناس الناجحين الذين ينجحون في حياتهم فيحصلون على الموقع الاجتماعي والسياسي، وأن الأشخاص الذين تهتف الناس بأسمائهم ويحملونهم على أكتافهم، أن لا يشعروا بانتفاخ شخصيتهم، فيأتي الشيطان ليثير الغرور والخيلاء في أنفسهم، فالإمام(ع) كان يطلب من ربه في دعاء "مكارم الأخلاق": "اللهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها"، كان يطلب من الله تعالى أن ينقذه من الظالمين وأن ينقذ الناس من ظلمه إذا فكّر الإنسان بالظلم، فيقول(ع): "ولا أُظلمن وأنت مطيق للدفع عني، ولا أَظلمن وأنت القادر على القبض مني".

وكان(ع) عندما يقف أمام مسألة طول العمر، وكلنا يحبّ أن يعمّر طويلاً، يعلّمنا أن على الإنسان عندما يفكّر في أن يعمَّر كثيراً أن يفكر بأن يكون عمره في طاعة الله لا في معصيته، أن يكون عمره ساحة لله لا ساحة للشيطان، فيقول في دعاء "مكارم الأخلاق": "وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك - إني أطلب منك يا ربّ أن تعطيني العمر الطويل، ما دام هذا العمر يتحرك بطاعتك، فيقوم بكل الواجبات ويبتعد عن كل معاصيك - فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان - عمر مليء بتجارة الحرام وأكل الحرام وبسياسة الحرام وبالشهوات الحرام - فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليّ أو يستحكم غضبك عليّ"..

التوازن في التفكير:

وكان(ع) يطلب من الله أن يجعل تفكيره تفكيراً إسلامياً، وتقويمه للناس تقويماً إسلامياً، فنحن عادة من خلال طبيعة التربية الاجتماعية السلبية، نعتبر الغني شريفاً والفقير حقيراً، نحتقر الفقير فلا نقوم له ولا نصافحه ولا نعتني به، ولكن إذا جاء الغني تأهّلنا به وفرشنا له كل الطريق بالورود؟! كان من دعائه إذا نظر إلى أصحاب الدنيا: "الحمد لله، رضيت بحكم الله، شهدت أن الله قسم معايش عباده بالعدل وأخذ على جميع خلقه بالفضل، اللهم لا تفتنهم بما منعتني - لا تجعلهم يا ربّ يتكبّرون عندما يرون الفقراء، اجعلهم يتصوّرون الأمور بطريقة متوازنة ويعتبرون أن الله عندما يعطي الغني فإن عليه أن يعتبر أنه يختبره بذلك ويدخله في الامتحان، هل يشكر أم يكفر، وهكذا عندما يمنع الفقير من المال، فإن الله لا يعاقبه بذلك، ولكن يختبره هل يصبر أو يسقط، فهل تنجح في الامتحان أيها الغني فتشكر ربك وتعمل في مالك بما فرض الله عليك، وهل تنجح أيها الفقير في الامتحان فتصبر على ذلك - ولا تفتني بما أعطيتهم فأحسد خلقك وأغمط حكمك.. واعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة - أن أرى الفقير حقيراً لأنه لا يملك موقعاً اجتماعياً - أو أظن بصاحب ثروة فضلاً، فإن الشريف من شرّفته طاعتك - لأنها ترتفع به إلى أن يكون من أهل الجنة، وما قيمة غنى الدنيا كلها إذا كانت النتيجة النار - والعزيز من أعزّته عبادتك"..

مدرسة روحية في العطاء:

لقد أعطانا الإمام زين العابدين(ع) مدرسة روحية أخلاقية اجتماعية سياسية في أدعيته، فأنت إذا كنت واعياً للدعاء الذي تقرأه، تشعر أنك تقرأ فتدرس القيمة الاجتماعية والسياسية والروحية والإيمانية، فتتعلّم بالدعاء كيف تكون المسلم الواعي المنفتح على كل قضايا الحياة. وانطلق الإمام زين العابدين(ع) ليجسّد الإسلام كله في سيرته وروحيته، وكان يدعو الله ويخشع له ويبكي بين يديه، حتى قال أحد الأشخاص: رأيت عليّ بن الحسين(ع) وهو في الكعبة في سجوده، فاقتربت منه لأرى كيف يتكلم هذا الرجل الذي هو من صلحاء أهل البيت(ع)، وإذا بي أسمعه وهو يقول: "عبدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك"، ويقول هذا الرجل: ما دعوت بهذا الدعاء الذي تعلّمته من الإمام زين العابدين إلا وقضيت حاجاتي، بحسب التجربة..

أهل البيت(ع) الأسوة والقدوة:

هؤلاء أهل البيت(ع)، هؤلاء أئمتنا، هؤلاء الإسلام الذي يتجسّد في كلماتهم وسيرتهم، هل تريدون أن تسيروا معهم؟ حاولوا أن تتعلّموا منهم كيف تقتربون من الله وكيف تقفون مع الحق وتتحمّلون المسؤولية في خط كل مسؤولياتكم في الحياة، هم أئمتنا في الماضي والحاضر والمستقبل، وقد قال أبوهم وسيدهم وإمامنا أمير المؤمنين(ع): "ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم - ويشير إلى نفسه - قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن - ماذا تريد منا يا أمير المؤمنين وقد أعطيت نفسك لله وللإنسان وللإسلام، ماذا تريد من أتباعك وشيعتك ومن المسلمين - أعينوني - أعينوني على أنفسكم وشياطينكم - بورع - عن الحرام - واجتهاد - في طاعة الله - وعفّة - عما يُغضب الله - وسداد" في الرأي، هل نعين الأئمة في ذلك؟ لا تزال في العمر بقية، ولا يزال الطريق إلى الله مفتوحاً، فهل نسير في طريق الله أو في طريق الشيطان؟ {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وسيروا في خط التقوى الذي أرادنا الله تعالى أن نجعله خطنا في حياتنا الخاصة والعامة، وأرادنا رسول الله(ص) أن نأخذ به، وأمرنا أهل البيت(ع) أن نسير عليه.. اتقوا الله في ما تواجهون من قضايا أمتكم لتنطلقوا مع الحسين(ع) أمام كل المستكبرين، لتقولوا لهم: لا والله لا نعطيكم بأيدينا إعطاء الذليل ولا نقرّ لكم إقرار العبيد.. إن الله تعالى يريدنا أن نكون الأحرار والأعزاء والأقوياء، هذا هو خط التقوى، وهذا ما يجب أن نواجه به كل قضايانا، لا سيما في هذه المرحلة التي نعيش فيها أكثر من زلزال أمني وسياسي، فماذا هناك؟ٍ

الانتفاضة.. صمود وتطور أساليب:

الانتفاضة في شهرها الثاني مستمرة، والشهداء والجرحى يسقطون كل يوم تحت تأثير القصف الإسرائيلي الوحشي بالطائرات والمدافع والصواريخ، ويعيشون في نطاق الحصار الاقتصادي التجويعي للشعب الفلسطيني من قِبَل العدو، والانتفاضة مع ذلك كله لا تزال صامدة، وقد استطاعت تطوير أساليبها في المواجهة مع العدو الذي كلما ازداد وحشية ازداد المنتفضون ضراوة، وهذا ما كنا نتوقعه..

لقد بدأ اليهود يتساقطون قتلى وجرحى، ولا سيما في العملية النوعية التفجيرية في القدس، التي قام بها المجاهدون في "حركة الجهاد الإسلامي"، لتكون رسالة للعدو بأنه سوف يفقد كل أمنه في داخل مواقعه في فلسطين، لأن للمجاهدين وسائلهم التدميرية بطريقة تختلف عن وسائل العدو، ولكنها تعطي النتيجة الحاسمة في إرباكه، وهذا ما ندعو إليه أهلنا في فلسطين، أن يبادروا إلى استخدام نقاط قوتهم ضد نقاط ضعف العدو الذي يستخدم نقاط قوته ضد نقاط ضعفنا المادي، وعليهم أن يربكوا المستوطنات بكل وسائل المواجهة، ليعرف العدو بأن المستوطنين لا يملكون أي أساس للأمن في داخل الأرض الفلسطينية المحتلة..

العدوّ في مأزق:

لقد استطاعت الانتفاضة البطلة أن تُدخل العدو في مأزق أمني وسياسي وإعلامي، حيث بدأ العالم يستعيد الصورة الوحشية للكيان الصهيوني، في استخدام الطائرات والمدافع والصواريخ ضد المدنيين العزّل من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب. ولذلك، بدأ وزير خارجيته يتحدث عن أن الموقف ليس موقف حرب ضد انتفاضة سلمية، بل هو موقف حرب إسرائيلية في مواجهة حرب فلسطينية، على حدّ قوله، في منطق لا يقبله أحد، لأن الشعب الفلسطيني لم يستعمل السلاح الخفيف إلا للدفاع عن نفسه ضد وحشية العدو الذي لا يزال يحتل أرضه ويمنعه من تقرير مصيره.

أين شرعة حقوق الإنسان؟!

وهذا ما نريد للعالم كله أن يعيه، ولا سيما "الاتحاد الأوروبي" الذي يحتفل بمرور نصف قرن على إعلان ميثاق حقوق الإنسان الذي لا يوافق على احتلال دولة لشعب ومنعه من تقرير مصيره. إن أبسط حقوق الإنسان الفلسطيني أن تصدر الأمم المتحدة قراراً ملزماً بإنهاء احتلال فلسطين، وإعلان الدولة الفلسطينية بإجماع دولي كأية دولة مستقلة قادرة على حماية شعبها سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وإلا فما معنى حقوق الإنسان في عالم يغض النظر عن الجرائم الوحشية التي يرتكبها العدو ضد الفلسطينيين، وأية جريمة أفظع من أن تُحتل أرض شعب ويطرد منها؟!

لقد بدأت المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والعدو حول الهدنة التي تمهّد لإيقاف الانتفاضة في خط التحرير، لتبقى حركة احتجاجية في خط التحريك، بحجة إيقاف "العنف" تطبيقاً لقرار قمة "شرم الشيخ"، وإننا نخشى أن تكون هذه الهدنة استعادة لقرارات الهدنة العربية - الإسرائيلية في بداية احتلال فلسطين، والتي استفاد منها العدو ولم يستفد منها العرب، لأنها أخرجت العدو من مأزقه الأمني والسياسي، ومكّنته من تنفيذ خطته في السيطرة على فلسطين، وإبعاد الفلسطينيين عن حقوقهم الشرعية..

ندعو لمتابعة الانتفاضة:

إننا ندعو الفلسطينيين إلى متابعة انتفاضتهم، لأنها السبيل الوحيد للحصول على حقهم في الحرية والاستقلال، لأن المفاوضات لم تؤدِّ إلى أية نتيجة إيجابية لهم، وقد سقط اتفاق "أوسلو" الذي لم تنفذ إسرائيل منه شيئاً، في الوقت الذي منحها هذا الاتفاق شرعية فلسطينية بالاعتراف بها كدولة. وإننا في الوقت نفسه، نحيي المنظمات الإسلامية الفلسطينية، ومعها المنظمات الأخرى التي رفضت الهدنة استجابة لتطلعات الشعب الفلسطيني بالاستمرار في انتفاضته التي بدأت تتحوّل إلى ثورة، ونريد للعرب أن يقفوا معه بكل قوتهم، لأن المسألة هي القيمة العربية السياسية أمام العالم. كما نريد للقمة الإسلامية التي سوف تنعقد في "قطر" أن تبادر لدعوة هذه الدولة إلى إغلاق مكتب الاتصال الصهيوني فيها، وأن تقف مع الشعب الفلسطيني موقفاً حاسماً لا يقتصر على البيانات الاحتجاجية، لأنه لا قيمة للمؤتمر الإسلامي إذا لم يكن فاعلاً في هذه القضية الإسلامية الأم، التي تختصر كل واقع الصراع الإسلامي - اليهودي..

الأمم المتحدة.. انحياز لإسرائيل:

ونصل إلى لبنان، لنلاحظ تصريح الأمين العام للأمم المتحدة الذي يحذّر لبنان بأنه سيعود ساحة صراع إذا لم يفرض سيطرته الفاعلة في الجنوب بإدخال الجيش إلى هناك، للإيحاء بأن المشكلة هي في العمليات التي قامت بها المقاومة ضد العدو، ومنها اعتقال الجنود الإسرائيليين الثلاثة على أرض لبنانية محتلة وهي "مزارع شبعا" التي لم ينسحب منها العدو، ولم تعترف الأمم المتحدة بخضوعها للقرار 425، في الوقت الذي لم يبيّن فيه الأمين العام للأمم المتحدة أن المشكلة هي في بقاء الاحتلال الإسرائيلي وراء الخط الأزرق، بالإضافة إلى "مزارع شبعا"؟!

إن المشكلة ليست من لبنان ومن المجاهدين الذين اعترف "أتان" في تصريحه بأنهم تحت سيطرة قيادة فاعلة، ويحافظون على النظام العام.. إن مسؤولية الأمم المتحدة هي أن تحافظ على تطبيق قراراتها بدقة، بعيداً عن أية ضغوط أمريكية وإسرائيلية، كما هو موقفها الآن الذي لا يحتجّ على التهديدات الإسرائيلية للبنان وسوريا، ولا يضغط لإطلاق الأسرى اللبنانيين بالإضافة إلى الأسرى العرب في الكيان الصهيوني، بل يقتصر اهتمامه على الجنود الإسرائيليين!!

الاستعداد لمواجهة العدو:

إننا ندعو اللبنانيين إلى مواصلة الاستعداد لمواجهة العدو، الذي قد تكون تهديداته إعلامية سياسية لإثارة الأجواء الدولية للضغط على لبنان، ولكنه - في الوقت نفسه - لا يتورع عن أي عدوان.. وعليهم أن يُسكتوا كل الأصوات النشاز التي لا تتحدث عن الخطر الإسرائيلي وعن بقاء الاحتلال، بل تتحدث عن الوجود السوري الذي لا يزال حاجة لبنانية لمواجهة الأخطار الأمنية الداخلية والخارجية، ولحماية الموقف العربي الرافض أمام تحديات العدو..

تحويل البيان إلى واقع:

ونريد للحكومة اللبنانية الجديدة أن تتحرك في ما يشبه حالة الطوارئ، لتحويل بيانها الوزاري إلى واقع فعلي لحل الأزمات الاقتصادية والمعيشية في نطاق خطة فاعلة، والتأكيد على الحريات العامة بالطريقة التي يشعر فيها الجميع بأن لبنان لا يزال بلد الحرية في عالم لا يملك الإنسان حريته فيه، والاهتمام بالمناطق المحرومة بطريقة فاعلة، والتركيز بالأساس على إزالة الاحتلال، وتوحيد البلد في الساحة السياسية، والاهتمام بالمغتربين، لا سيما في المناطق الأفريقية الساخنة ومنها "ساحل العاج"، ليشعر الجميع - مقيمون ومغتربون - بأن هناك حكومة مسؤولة للبنانيين جميعاً..

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير