منهج أهل البيت(ع): تأصيل مفاهيم الإسلام وحمل الرسالة

منهج أهل البيت(ع): تأصيل مفاهيم الإسلام وحمل الرسالة

منهج أهل البيت(ع): تأصيل مفاهيم الإسلام وحمل الرسالة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

في الثالث من شهر شعبان كانت ولادة الإمام الحسين(ع)، وفي الرابع منه كانت ولادة أبي الفضل العباس (ع)، وفي الخامس منه كانت ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع). هذه الأسماء المشرقة الصافية التي إذا ذكرتها ذكرت القمم العالية في الإمامة والبطولة والإيمان والإخلاص لله ولرسوله، ولذلك، فلا بد لنا عندما نتذكّر هذه النماذج الإسلامية الرائعة التي ارتبطت برسول الله (ص) وبعليّ (ع) برباط قوي من النسب، وارتبطت برباط قوي من الإخلاص للإسلام وأهله، أن تكون مصدر غنىً لنا في مختلف قضايانا.

الإمامة امتدادٌ للرسالة

عندما نتذكر الإمام الحسين (ع)، فإننا نتذكره بما يغني حياتنا الآن في كلِّ قضاياها وأوضاعها، لأنّ حركة الإمام الحسين (ع) لم تكن مجرَّد حركة ترتبط بالمأساة لنغسلها بالدموع، ولكنها حركة ترتبط بالخطِّ الإسلامي الأصيل الذي حمل الإمام الحسين (ع) أمانته في معنى إمامته، لأن الإمامة تمثل الامتداد الرسالي لحماية المسيرة الإسلامية من أيّ انحراف يمكن أن يحدث فيها، على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق، ولذلك كانت حركة الإمامة حركة من أجل مراقبة المسيرة الإسلامية في الواقع.

مراقبة الواقع المنحرف

وهذا ما نتمثله في خطاب الإمام الحسين (ع)، في مراقبته للواقع المنحرف، بعدما أراد بنو أمية أن ينحرفوا بالإسلام عن أصالته وخطه المستقيم، ليحوّلوا الخلافة إلى ملك، وليحوّلوا الملك إلى مصادرة لحرية الإنسان وإرادته، ولكل موارده وثرواته، وهذا ما عبّر عنه الإمام الحسين (ع) في بعض كلماته وهو يصف حكم يزيد، يقول: "اتخذوا مال الله دولاً"، أي يتداولونه ويعبثون به ويتقاسمونه ويصرفونه في حاجاتهم الشخصية، ومعنى أن يكون المال مال الله أنه مال الأمة، والله تعالى عندما ينسب المال إلى نفسه، فإنما ينسبه إليه ليقول لكل من يصادر الأموال العامة إنه لا يجوز لك أن تصرف هذا المال لأهلك وأولادك وقضاياك الخاصة وشهواتك، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ(ع)، عندما طُلب إليه إذا أراد أن ينجح في حكمه أن يقرّب زعماء العشائر من خلال المال، قال: "أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً، ولو كان المال مالي لساويت بينهم فكيف والمال مال الله".

وهذه هي كلمة الإمام الحسين (ع) في تصوير الموارد المالية التي وقعت بيد المسيطرين على الدولة الإسلامية: "اتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً"، ولذلك رأى الإمام الحسين(ع) أن هذا الواقع يمثل اعتداءً على الأمة كلها، وبالتالي فهو اعتداء على الإسلام كله، لأن الإسلام يريد لمال الأمة أن يُصرف في مصالح الأمة، ويريد لعباد الله أن يعيشوا الحرية في كل مواقع حياتهم. والإسلام يريد لأي إنسان في الكون أن لا يكون عبداً لإنسان آخر يخضع له، ليصادر إرادته وحريته، بل أن يكون عبداً لله وحده.

الدعوة إلى تغيير الانحراف

وكان الإمام الحسين (ع) يراقب حركة الحكم في الواقع، فكان يخاطب الناس بكلمات رسول الله (ص)، التي تحدد الحاكم الذي لا بد للأمة من أن تبدّله وتغيّره، قال (ع) في أول خطبة له: "أيها الناس، إن رسول الله (ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله ـ يهتك حرمة المؤمنين والضعفاء والفقراء ـ ناكثاً لعهده ـ يعطي الناس المواثيق والعهود على نفسه أنه سوف يعدل بينهم وأن لا ينحرف بهم عن الخط المستقيم، ولكنه ينقض عهده ـ مخالفاً لسنّة رسول الله ـ لما سنّه (ص) في مسألة نظام الحكم والدستور وكل القضايا التي أراد النبي(ص) للناس أن يسيروا عليها ـ يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ـ ما هو التكليف أمام هذا الظالم ـ ولم يغر عليه ـ وفي رواية "ولم يغيّر ما عليه ـ بقول أو فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".

إن الإنسان الذي يسكت عن الظالم وهو قادر على الاعتراض عليه بالكلمة أو الفعل، فإن الله يدخله مدخله، لأن السكوت عن الواقع المنحرف رضى به، وقد ورد في حديث عليّ (ع): "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى الداخل إثمان؛ إثم الرضى وإثم العمل".

وبعد أن حمّل الإمام الحسين (ع) الأمة المسؤولية؛ مسوؤلية أن ترفض هذا الحكم وتغيّره، وأراد أن يبيّن مسؤوليته أمام هذا الواقع، قال(ع): "ألا وإن هؤلاء القوم ـ وهم يزيد وجماعته ـ قد تركوا طاعة الرحمن ولزموا طاعة الشيطان، واستأثروا بالفيء ـ مال الأمة ـ وأحلوا حرام الله وحرّموا حلاله وعطّلوا الحدود ـ لم يطبقوا القانون على المجرمين ـ وأنا أحقّ من غيّر". ومن هنا نفهم أن الإمام الحسين (ع) عندما بدأ حركته، رسم الخطة ووضع العناوين التي تتحرك من خلالها، وأعطى الشرعية لحركته من خلال رسول الله (ص) الذي أراد للناس أن لا يقفوا مع الظالم بل أن يغيّروه.

أهداف حركته(ع)

ولهذا، فإن حركة الإمام الحسين (ع) هي حركة تتصل بالجانب السياسي والاجتماعي والقانوني للإسلام في ذلك كله، وهي حركة متعددة الجوانب، ومن الظلم الكبير لهذه الحركة أن نجعلها مجرد حركة للدموع لا حركة للوعي وللتغيير للواقع كله. لقد ظلمنا الحسين (ع) في ذلك. العاطفة مقدّسة، ونحن نرفض أن نبتعد بالمأساة في كربلاء عن العاطفة، ولكن للعاطفة جانباً خاصاً، أما المسألة الأساس، فهي أن نجعل من كل مرحلة من مراحل الزمن، وكل واقع مشابه للواقع الفاسد الذي ثار الإمام الحسين (ع) عليه، أن نجعل منه ثورة جديدة وحركة جديدة، حتى يبقى الإمام الحسين (ع) في كل حركة تغييرية، وفي كل ثورة من أجل الحق والعدل وحماية الإنسان من كل عدوان.

وهكذا، كانت كلمته الأخيرة: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينه والله خير الحاكمين". وهكذا، لا بد أن نولد في ذكرى الإمام الحسين (ع) حركياً وثورياً وتغييرياً وإسلامياً، لأن ولادة الإمام الحسين (ع) في أحضان عليّ وفاطمة (عليها السلام)، وفي إشراف رسول الله(ص)، كانت تشير إلى مستقبل الحسين (ع) في مواجهته للظلم والظالمين، وفي إخلاصه للخط الإسلامي الأصيل، ومن ذلك قال رسول الله (ص) وهو يشير إلى هذا الارتباط العضوي بينه وبين الإمام الحسين (ع)، لا ارتباط النسب فحسب، بل ارتباط الرسالة أيضاً: "حسين مني وأنا من حسين"، لأن الرسالة واحدة والهدف واحد؛ وهو أن يقوم الناس بالقسط.

العباس(ع): نفاذ البصيرة وصلابة الإيمان

أمّا العباس (ع)، فإننا نتذكر في ذكرى مولده كلمة الإمام الصادق (ع) وهو يتحدث عنه، قال: "كان عمنا العباس نافذ البصيرة ـ كان يملك البصيرة التي تمثل العقل الواسع المنفتح، والوعي للأشياء في عمقها وامتدادها، كان يملك البصيرة التي تنفتح على كل ما حوله ومن حوله، وتلاحق كل التطورات والمتغيرات لتنفذ إليها وتحللها لتفهمها، لتتخذ الموقف الحق ـ صلب الإيمان ـ كان إيمانه الإيمان الصلب الذي لا يهتز أمام أيّ إغراء أو ترهيب يوجّه إليه، وهذا ما لاحظناه في سيرته في كربلاء من موقفه من شمر بن ذي الجوشن، الذي كانت بينه وبين العباس وأخوته قرابة خؤولة، والذي وقف وهو ينادي: أين بنو أختنا، أين العباس وأخوته؟ وأبى العباس أن يجيبه، فقال لهم الإمام الحسين (ع): "أجيبوه فإنه بعض أخوالكم"، فقالوا: ما تريد؟ قال: لقد أخذنا لكم الأمان وبإمكانكم أن تعتزلوا، فأجابه العباس بطريقة مفعمة بالعنفوان والحزم: "ويلك، أتعطينا الأمان وابن بنت رسول الله لا أمان له"، لأن إيمانه أصلب من كل رغبته في الحياة. وهذه هي الصفة التي يرتفع بها الإنسان المؤمن ليكون صاحب البصيرة المنفتحة والإيمان الصلب ـ وقد أبلى بلاءً حسناً واستشهد في سبيل الله".

ونحن نتحدث عن العباس(ع)، نتذكر ما قيل عن لسانه، عندما قُطعت يمينه:

والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين

ليست مشكلة أن تقطع يميني التي أحمل بها السيف، لأنني في خط الجهاد وفي خط الحماية للإسلام وأهله، لأن ديني أعظم من نفسي، إنني أضحي بنفسي في سبيل حماية ديني، وإني هنا لأحامي عن القيادة الشرعية التي تمثل الإمامة في شخص الإمام الحسين (ع)، فلم يقل "إني أدافع عن أخي"، لأن المسألة هنا ليست مسألة عصبية للنسب، وإن كان النسب عظيماً عظيماً، ولكنها رسالية العلاقة بالحسين (ع).

السجاد(ع): الأدعية منهج حياة

وهكذا، عندما ننفتح على الإمام زين العابدين (ع)، فإننا نجد هذا الإمام العظيم الذي ملأ الحياة الإسلامية علماً في كل تراثه الفكري والشرعي والأخلاقي، وفي كل هذا المنهج الجديد من الأدعية التي حشد فيها الكثير من المفاهيم الأخلاقية والروحية والاجتماعية والإنسانية، ولذلك فإن من يقرأ الصحيفة السجادية، فإنه يعيش المعنى الروحي بين يدي الله تعالى كما يعيش الجانب الأخلاقي والإنساني والاجتماعي الذي يربطه بالناس من حوله.

ونحن نقرأ في بعض أدعية الصحيفة السجادية، هذا البرنامج اليومي الذي أراد الإمام (ع) أن يوحي به لكلِّ مسلم ومسلمة، كيف يستقبل صباحه ومساءه وكيف يمكن له أن يبرمج ليلته هذه أو نهاره هذا، ليكون ليله ونهاره إسلامياً، يقول (ع) في دعاء الصباح والمساء: "اللهم وفقنا في يومنا هذا وفي ليلتنا هذه لاستعمال الخير، وهجران الشر، وشكر النعم، واتّباع السنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام ـ أن نحوط الإسلام لنحميه ونحفظه في كل عقائده وشرائعه وأهله، لنواجه كل من يريد إسقاطه ـ وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف".

هؤلاء هم أهل البيت (ع)، هؤلاء هم أهل الخط الحضاري الذين يؤصّلون مفاهيم الإسلام، وهم الذين حملوا رسالة الإسلام وضحُّوا بكل شيء عندهم في سبيل انتصاره. فإذا كنا نريد جميعاً أن نكون جماهير أهل البيت (ع) وشيعتهم، فعلينا أن نكون جماهير الإسلام وشيعته على كل المستويات وفي كل المجالات. لقد حفظ أئمة أهل البيت (ع) الوحدة الإسلامية للمسلمين، ولم يرخّصوا في أيّ فتنة تحمل الحقد والمشاعر السلبية ضد المسلمين. لذلك، ونحن نطل على مستقبل يتحرك فيه الكفر من جهة، والاستكبار من جهة في تحالفهما غير المقدّس، إن علينا أن نسير مع الخط المستقيم، خط أهل البيت(ع)، الذين هم سفن النجاة التي تؤدي بنا إلى الشاطئ الأمين، الشاطئ الذي نجد الله تعالى عنده ليوفينا حسابه.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل ما يقبل عليكم مما حمّلكم الله مسؤوليته، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وعلينا أن نعرف مواطئ أقدامنا في كل هذه الفتن، لنعرف كيف نثبت أقدامنا من الاهتزاز، وكيف نحفظ مسيرتنا من السقوط، وكيف ننفذ ببصيرتنا إلى كل الخلفيات التي تختفي وراء خطط الاستكبار العالمي والإقليمي، لأن المشكلة أن ما قد نسمعه من كلمات وتصريحات وشعارات قد يكون ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، لأن هؤلاء الناس ـ لا سيما المستكبرون منهم ـ أدمنوا الكذب والغش والخداع والتلاعب بالألفاظ واستغلال المشاعر والعواطف وما إلى ذلك، وعلينا أن ننفذ ببصائرنا لنتعرف ماذا هناك وماذا نفعل، لأن التحدي كبير كبير وخطير خطير.

ولنبدأ بالسؤال: ما هي صورة أمريكا في العالمين العربي والإسلامي؟

إقرار أمريكي بالسمعة السلبية

إن تقريراً صادراً عن هيئة استشارية أمريكية، برعاية من وزارة الخارجية والكونغرس الأمريكي، يؤكد على السمعة الأمريكية السلبية في المجتمعات العربية والمسلمة، حيث وصل العداء لأمريكا إلى مستويات مذهلة، ويشير إلى أن سياسة الإدارة الأمريكية "تركتنا ـ أي الأمريكيين ـ معرّضين للتهديدات الفتّاكة لمصالحنا وسلامتنا"، بحسب ما جاء في التقرير..

إننا نرحّب بالإدلاء بهذه الحقيقة السياسية السلبية لأمريكا في علاقتها بالعرب والمسلمين بشكل عام، ولكننا لا نوافق هؤلاء المستشارين عندما يوصون بزيادة الإمكانية المالية المرصودة للأجهزة الدبلوماسية المعنية لتلميع صورتهم، بل إن المسألة نابعة من الموقف الأمريكي المنحاز بالمطلق لمصلحة إسرائيل في كل خططها، حتى إنها تتحرك من جهة في موقف سرّي يشجع إسرائيل على تنفيذ خططها الاستراتيجية في مواصلة حصارها على الفلسطينيين، واغتيال قياداتهم، وقتل مدنييهم، ومصادرة أراضيهم، وإسقاط البنية التحتية لاقتصادهم.. وموقف علنيّ من جهة أخرى في تصريحات الإدارة العلنية لانتقاد بعض الممارسات الإسرائيلية، وتقديم النصيحة الخجولة لهم في التخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني، وإبقاء الاحتلال في الضفة الغربية وغزة، إلا بالشروط الأمريكية والإسرائيلية غير المعقولة..

الاتحاد الأوروبي: الموقف المصادر

وقد استطاعت الإدارة الأمريكية أن تصادر الموقف الأوروبي الذي اقترب من الموقف الأمريكي، في اعتبار الحرب الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، في عمليات العقاب الجماعي الذي يصيب المدنيين، دفاعاً عن النفس، واعتبار عمليات التحرير الفلسطينية ضد الاحتلال إرهاباً، مع بعض النفاق السياسي الذي يقوم به بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي في الاتصال بالفلسطينيين من خلال السلطة من دون فائدة على مستوى حلّ المشكلة.. وهكذا رأينا كيف نجحت أمريكا في محاصرة الشعب الفلسطيني بأكثر من موقف دولي..

وعليه، فإننا نستطيع أن نؤكد أن الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ـ ومعهما الاتحاد الروسي والأمم المتحدة ـ يؤيدان الاحتلال الإسرائيلي ويدعمانه في المواقف الحاسمة لمصلحة إسرائيل، مع بعض الكلمات التي لا معنى لها الموجَّهة للفلسطينيين.. والسؤال الموجَّه للّجنة الرباعية: ما هو معنى الحرية وحقوق الإنسان؟؟ وما معنى خارطة الطريق الإسرائيلية من خلال التعديلات التي وافقت عليها أمريكا، ولم تعترض عليها اللجنة الرباعية؟؟ وما معنى هذا التدرّج الأمريكي في الاعتراض على الجدار، ثم في اعتباره مشكلة، ثم في القبول مع التحفّظ، ثم في إزالة التحفّظ في نهاية المطاف؟!

إننا لا نريد الحديث من موقع العقدة عن هذا النفاق السياسي الدولي الذي يتميّز بأكثر من ذهنية عنصرية، بل من موقع الواقع الذي يتخبّط فيه المستضعفون من خلال خطط المستكبرين.. إننا كعرب وكمسلمين نحبّ أن نكون أصدقاء العالم كله، ولسنا معقّدين من الشعوب الغربية أو من أيّ شعب آخر، ولكن مشكلتنا كمشكلة بعض هذه الشعوب من الإدارات التي تحكمها.. وإننا ندعو إلى الحوار بين الشرق والغرب، بين الإسلام والأديان الأخرى، لأن الحوار هو الذي يقرّب الشعوب من بعضها البعض، ويحقق التفاهم والتواصل.

ولذلك قلنا للجنة الرباعية: إن القوة التي تدعمونها، وهي إسرائيل، لن تستطيع أن تصل إلى حلّ لمشكلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل هو الحوار الذي ينبغي أن لا يقتصر على طريق واحد، وهذا ما لم يفعلوه في المسألة الفلسطينية.

الإدارة الأمريكية: إدمان الخداع والكذب

ومن جانب آخر، فإن وزير الخارجية الأمريكية يتحدث إلى العرب عن "التقدّم المدهش" الذي حققته الإدارة الأمريكية في الأوضاع في العراق، وليطلب منهم "المساعدة في بناء شرق أوسط جديد مسالم مزدهر يكون حرّاً".. والسؤال: ماذا عن المصالح الأمريكية الاقتصادية السياسية الأمنية التي تضغط على مصالح شعوب المنطقة لحساب الشركات الاحتكارية؟ وهل تقبل الإدارة الأمريكية أن يقف هذا الشرق الأوسط "الجديد الحرّ" ليمارس حقه في رفض السياسة الأمريكية بشروطه المنطلقة من مصالحه؟ وهل توافق هذه الإدارة على الديمقراطية المنفتحة على قرار الأمة في تقرير مصيرها، بعيداً عن أيّ ضغط استكباري؟ وهل ترضى عن وقوف الشعب الفلسطيني مع قيادته السياسية والجهادية، بعيداً عن الموقف الأمريكي؟؟

لقد أدمنت هذه الإدارة وما قبلها الخداع والكذب والضغط على الشعوب باسم الشعارات المطلقة التي كان آخرها "الحرب ضد الإرهاب"، المتمثّل في الحرب على كل الأنظمة والشعوب التي تريد أن تتوازن وتفكّر لتفصل بين الإرهاب والمقاومة.. ثم محاربة أسلحة الدمار الشامل التي تتّهم بها دول المنطقة كسوريا وإيران، في الوقت الذي تبرِّر فيه لإسرائيل امتلاكها من أجل "الدفاع عن نفسها" ـ بحسب التعبير الأمريكي ـ كما لو كانت المنطقة العربية الإسلامية هي المعتدية واليهود هم الضحايا، مع أن التاريخ البعيد والقريب لا يزال يتذكّر المجازر الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ولا سيما مجزرة "صبرا وشاتيلا" التي قادها شارون "رجل السلام" ـ بحسب تعبير الرئيس "بوش" ـ ومجزرة "قانا"، إلى المجازر المتحركة في كل يوم في مناطق الاحتلال في فلسطين..

السياسة الأمريكية تنتج العداء

إن القضية هي أن السياسة الأمريكية المعادية للشعوب، والتي تعمل لحساب الشركات الاحتكارية التي ينتمي إليها رجال هذه الإدارة، سوف تنتج في كل مرحلة عداءً جديداً للأمريكيين، ينقله جيل إلى الجيل الآخر، وسوف يتطوّر "الإرهاب" بفعل بقاء جذوره في الواقع من دون أن تستطيع القوة أن تعالجه..

إننا نحبّ السلام مع العدل، ولكن الاستكبار العالمي يريد الحرب باسم السلام، ويخطط للظلم باسم العدل، ويتحرك بالدكتاتورية باسم الديمقراطية.. وسيبقى الصراع بين الحرية والاستعباد، وبين الشعوب وقوى الاستكبار، وسوف تبقى فلسطين والعراق وأفغانستان إلى جانب القائمة الجديدةK مشكلة متحركة تفتح في كل يوم جرحاً جديداً ومقاومة جديدة.

الإصلاح ـ الشعار: مراوحة المكان

أما في لبنان، فيبقى الإصلاح ـ الشعار يراوح مكانه، بفعل التجاذبات السياسية الغارقة في ضباب الخلفيات الشخصانية والطائفية. إن المسألة ليست في الحاجة إلى قانون جديد، أو دستور جديد، بل في تفعيل القوانين، وإبعاد المفسدين والفاسدين والمعرقلين عن الدولة.. إن الشعب يصرخ مطالباً بأن يعيش بإنسانيته لا بطائفيته، وبأن تؤكد الدولة معنى الوطن في معنى المواطن..

إن المنطقة تهتز أمام العواصف الإقليمية والدولية، وإن الدولة تهتز أمام المديونية والمحسوبية، والسؤال: إلى أين؟ وهل يمكن للبنان أن يكون دولة الإنسان لا دولة اللاعبين ومزرعة "للحرامية"؟؟ اللهم اجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً، واستبدلنا بالعسر يسراً، واهدنا للخير والعمل به يا أرحم الراحمين.

منهج أهل البيت(ع): تأصيل مفاهيم الإسلام وحمل الرسالة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

في الثالث من شهر شعبان كانت ولادة الإمام الحسين(ع)، وفي الرابع منه كانت ولادة أبي الفضل العباس (ع)، وفي الخامس منه كانت ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع). هذه الأسماء المشرقة الصافية التي إذا ذكرتها ذكرت القمم العالية في الإمامة والبطولة والإيمان والإخلاص لله ولرسوله، ولذلك، فلا بد لنا عندما نتذكّر هذه النماذج الإسلامية الرائعة التي ارتبطت برسول الله (ص) وبعليّ (ع) برباط قوي من النسب، وارتبطت برباط قوي من الإخلاص للإسلام وأهله، أن تكون مصدر غنىً لنا في مختلف قضايانا.

الإمامة امتدادٌ للرسالة

عندما نتذكر الإمام الحسين (ع)، فإننا نتذكره بما يغني حياتنا الآن في كلِّ قضاياها وأوضاعها، لأنّ حركة الإمام الحسين (ع) لم تكن مجرَّد حركة ترتبط بالمأساة لنغسلها بالدموع، ولكنها حركة ترتبط بالخطِّ الإسلامي الأصيل الذي حمل الإمام الحسين (ع) أمانته في معنى إمامته، لأن الإمامة تمثل الامتداد الرسالي لحماية المسيرة الإسلامية من أيّ انحراف يمكن أن يحدث فيها، على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق، ولذلك كانت حركة الإمامة حركة من أجل مراقبة المسيرة الإسلامية في الواقع.

مراقبة الواقع المنحرف

وهذا ما نتمثله في خطاب الإمام الحسين (ع)، في مراقبته للواقع المنحرف، بعدما أراد بنو أمية أن ينحرفوا بالإسلام عن أصالته وخطه المستقيم، ليحوّلوا الخلافة إلى ملك، وليحوّلوا الملك إلى مصادرة لحرية الإنسان وإرادته، ولكل موارده وثرواته، وهذا ما عبّر عنه الإمام الحسين (ع) في بعض كلماته وهو يصف حكم يزيد، يقول: "اتخذوا مال الله دولاً"، أي يتداولونه ويعبثون به ويتقاسمونه ويصرفونه في حاجاتهم الشخصية، ومعنى أن يكون المال مال الله أنه مال الأمة، والله تعالى عندما ينسب المال إلى نفسه، فإنما ينسبه إليه ليقول لكل من يصادر الأموال العامة إنه لا يجوز لك أن تصرف هذا المال لأهلك وأولادك وقضاياك الخاصة وشهواتك، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ(ع)، عندما طُلب إليه إذا أراد أن ينجح في حكمه أن يقرّب زعماء العشائر من خلال المال، قال: "أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً، ولو كان المال مالي لساويت بينهم فكيف والمال مال الله".

وهذه هي كلمة الإمام الحسين (ع) في تصوير الموارد المالية التي وقعت بيد المسيطرين على الدولة الإسلامية: "اتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً"، ولذلك رأى الإمام الحسين(ع) أن هذا الواقع يمثل اعتداءً على الأمة كلها، وبالتالي فهو اعتداء على الإسلام كله، لأن الإسلام يريد لمال الأمة أن يُصرف في مصالح الأمة، ويريد لعباد الله أن يعيشوا الحرية في كل مواقع حياتهم. والإسلام يريد لأي إنسان في الكون أن لا يكون عبداً لإنسان آخر يخضع له، ليصادر إرادته وحريته، بل أن يكون عبداً لله وحده.

الدعوة إلى تغيير الانحراف

وكان الإمام الحسين (ع) يراقب حركة الحكم في الواقع، فكان يخاطب الناس بكلمات رسول الله (ص)، التي تحدد الحاكم الذي لا بد للأمة من أن تبدّله وتغيّره، قال (ع) في أول خطبة له: "أيها الناس، إن رسول الله (ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله ـ يهتك حرمة المؤمنين والضعفاء والفقراء ـ ناكثاً لعهده ـ يعطي الناس المواثيق والعهود على نفسه أنه سوف يعدل بينهم وأن لا ينحرف بهم عن الخط المستقيم، ولكنه ينقض عهده ـ مخالفاً لسنّة رسول الله ـ لما سنّه (ص) في مسألة نظام الحكم والدستور وكل القضايا التي أراد النبي(ص) للناس أن يسيروا عليها ـ يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ـ ما هو التكليف أمام هذا الظالم ـ ولم يغر عليه ـ وفي رواية "ولم يغيّر ما عليه ـ بقول أو فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".

إن الإنسان الذي يسكت عن الظالم وهو قادر على الاعتراض عليه بالكلمة أو الفعل، فإن الله يدخله مدخله، لأن السكوت عن الواقع المنحرف رضى به، وقد ورد في حديث عليّ (ع): "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى الداخل إثمان؛ إثم الرضى وإثم العمل".

وبعد أن حمّل الإمام الحسين (ع) الأمة المسؤولية؛ مسوؤلية أن ترفض هذا الحكم وتغيّره، وأراد أن يبيّن مسؤوليته أمام هذا الواقع، قال(ع): "ألا وإن هؤلاء القوم ـ وهم يزيد وجماعته ـ قد تركوا طاعة الرحمن ولزموا طاعة الشيطان، واستأثروا بالفيء ـ مال الأمة ـ وأحلوا حرام الله وحرّموا حلاله وعطّلوا الحدود ـ لم يطبقوا القانون على المجرمين ـ وأنا أحقّ من غيّر". ومن هنا نفهم أن الإمام الحسين (ع) عندما بدأ حركته، رسم الخطة ووضع العناوين التي تتحرك من خلالها، وأعطى الشرعية لحركته من خلال رسول الله (ص) الذي أراد للناس أن لا يقفوا مع الظالم بل أن يغيّروه.

أهداف حركته(ع)

ولهذا، فإن حركة الإمام الحسين (ع) هي حركة تتصل بالجانب السياسي والاجتماعي والقانوني للإسلام في ذلك كله، وهي حركة متعددة الجوانب، ومن الظلم الكبير لهذه الحركة أن نجعلها مجرد حركة للدموع لا حركة للوعي وللتغيير للواقع كله. لقد ظلمنا الحسين (ع) في ذلك. العاطفة مقدّسة، ونحن نرفض أن نبتعد بالمأساة في كربلاء عن العاطفة، ولكن للعاطفة جانباً خاصاً، أما المسألة الأساس، فهي أن نجعل من كل مرحلة من مراحل الزمن، وكل واقع مشابه للواقع الفاسد الذي ثار الإمام الحسين (ع) عليه، أن نجعل منه ثورة جديدة وحركة جديدة، حتى يبقى الإمام الحسين (ع) في كل حركة تغييرية، وفي كل ثورة من أجل الحق والعدل وحماية الإنسان من كل عدوان.

وهكذا، كانت كلمته الأخيرة: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينه والله خير الحاكمين". وهكذا، لا بد أن نولد في ذكرى الإمام الحسين (ع) حركياً وثورياً وتغييرياً وإسلامياً، لأن ولادة الإمام الحسين (ع) في أحضان عليّ وفاطمة (عليها السلام)، وفي إشراف رسول الله(ص)، كانت تشير إلى مستقبل الحسين (ع) في مواجهته للظلم والظالمين، وفي إخلاصه للخط الإسلامي الأصيل، ومن ذلك قال رسول الله (ص) وهو يشير إلى هذا الارتباط العضوي بينه وبين الإمام الحسين (ع)، لا ارتباط النسب فحسب، بل ارتباط الرسالة أيضاً: "حسين مني وأنا من حسين"، لأن الرسالة واحدة والهدف واحد؛ وهو أن يقوم الناس بالقسط.

العباس(ع): نفاذ البصيرة وصلابة الإيمان

أمّا العباس (ع)، فإننا نتذكر في ذكرى مولده كلمة الإمام الصادق (ع) وهو يتحدث عنه، قال: "كان عمنا العباس نافذ البصيرة ـ كان يملك البصيرة التي تمثل العقل الواسع المنفتح، والوعي للأشياء في عمقها وامتدادها، كان يملك البصيرة التي تنفتح على كل ما حوله ومن حوله، وتلاحق كل التطورات والمتغيرات لتنفذ إليها وتحللها لتفهمها، لتتخذ الموقف الحق ـ صلب الإيمان ـ كان إيمانه الإيمان الصلب الذي لا يهتز أمام أيّ إغراء أو ترهيب يوجّه إليه، وهذا ما لاحظناه في سيرته في كربلاء من موقفه من شمر بن ذي الجوشن، الذي كانت بينه وبين العباس وأخوته قرابة خؤولة، والذي وقف وهو ينادي: أين بنو أختنا، أين العباس وأخوته؟ وأبى العباس أن يجيبه، فقال لهم الإمام الحسين (ع): "أجيبوه فإنه بعض أخوالكم"، فقالوا: ما تريد؟ قال: لقد أخذنا لكم الأمان وبإمكانكم أن تعتزلوا، فأجابه العباس بطريقة مفعمة بالعنفوان والحزم: "ويلك، أتعطينا الأمان وابن بنت رسول الله لا أمان له"، لأن إيمانه أصلب من كل رغبته في الحياة. وهذه هي الصفة التي يرتفع بها الإنسان المؤمن ليكون صاحب البصيرة المنفتحة والإيمان الصلب ـ وقد أبلى بلاءً حسناً واستشهد في سبيل الله".

ونحن نتحدث عن العباس(ع)، نتذكر ما قيل عن لسانه، عندما قُطعت يمينه:

والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين

ليست مشكلة أن تقطع يميني التي أحمل بها السيف، لأنني في خط الجهاد وفي خط الحماية للإسلام وأهله، لأن ديني أعظم من نفسي، إنني أضحي بنفسي في سبيل حماية ديني، وإني هنا لأحامي عن القيادة الشرعية التي تمثل الإمامة في شخص الإمام الحسين (ع)، فلم يقل "إني أدافع عن أخي"، لأن المسألة هنا ليست مسألة عصبية للنسب، وإن كان النسب عظيماً عظيماً، ولكنها رسالية العلاقة بالحسين (ع).

السجاد(ع): الأدعية منهج حياة

وهكذا، عندما ننفتح على الإمام زين العابدين (ع)، فإننا نجد هذا الإمام العظيم الذي ملأ الحياة الإسلامية علماً في كل تراثه الفكري والشرعي والأخلاقي، وفي كل هذا المنهج الجديد من الأدعية التي حشد فيها الكثير من المفاهيم الأخلاقية والروحية والاجتماعية والإنسانية، ولذلك فإن من يقرأ الصحيفة السجادية، فإنه يعيش المعنى الروحي بين يدي الله تعالى كما يعيش الجانب الأخلاقي والإنساني والاجتماعي الذي يربطه بالناس من حوله.

ونحن نقرأ في بعض أدعية الصحيفة السجادية، هذا البرنامج اليومي الذي أراد الإمام (ع) أن يوحي به لكلِّ مسلم ومسلمة، كيف يستقبل صباحه ومساءه وكيف يمكن له أن يبرمج ليلته هذه أو نهاره هذا، ليكون ليله ونهاره إسلامياً، يقول (ع) في دعاء الصباح والمساء: "اللهم وفقنا في يومنا هذا وفي ليلتنا هذه لاستعمال الخير، وهجران الشر، وشكر النعم، واتّباع السنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحياطة الإسلام ـ أن نحوط الإسلام لنحميه ونحفظه في كل عقائده وشرائعه وأهله، لنواجه كل من يريد إسقاطه ـ وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحق وإعزازه، وإرشاد الضال، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف".

هؤلاء هم أهل البيت (ع)، هؤلاء هم أهل الخط الحضاري الذين يؤصّلون مفاهيم الإسلام، وهم الذين حملوا رسالة الإسلام وضحُّوا بكل شيء عندهم في سبيل انتصاره. فإذا كنا نريد جميعاً أن نكون جماهير أهل البيت (ع) وشيعتهم، فعلينا أن نكون جماهير الإسلام وشيعته على كل المستويات وفي كل المجالات. لقد حفظ أئمة أهل البيت (ع) الوحدة الإسلامية للمسلمين، ولم يرخّصوا في أيّ فتنة تحمل الحقد والمشاعر السلبية ضد المسلمين. لذلك، ونحن نطل على مستقبل يتحرك فيه الكفر من جهة، والاستكبار من جهة في تحالفهما غير المقدّس، إن علينا أن نسير مع الخط المستقيم، خط أهل البيت(ع)، الذين هم سفن النجاة التي تؤدي بنا إلى الشاطئ الأمين، الشاطئ الذي نجد الله تعالى عنده ليوفينا حسابه.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل ما يقبل عليكم مما حمّلكم الله مسؤوليته، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وعلينا أن نعرف مواطئ أقدامنا في كل هذه الفتن، لنعرف كيف نثبت أقدامنا من الاهتزاز، وكيف نحفظ مسيرتنا من السقوط، وكيف ننفذ ببصيرتنا إلى كل الخلفيات التي تختفي وراء خطط الاستكبار العالمي والإقليمي، لأن المشكلة أن ما قد نسمعه من كلمات وتصريحات وشعارات قد يكون ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، لأن هؤلاء الناس ـ لا سيما المستكبرون منهم ـ أدمنوا الكذب والغش والخداع والتلاعب بالألفاظ واستغلال المشاعر والعواطف وما إلى ذلك، وعلينا أن ننفذ ببصائرنا لنتعرف ماذا هناك وماذا نفعل، لأن التحدي كبير كبير وخطير خطير.

ولنبدأ بالسؤال: ما هي صورة أمريكا في العالمين العربي والإسلامي؟

إقرار أمريكي بالسمعة السلبية

إن تقريراً صادراً عن هيئة استشارية أمريكية، برعاية من وزارة الخارجية والكونغرس الأمريكي، يؤكد على السمعة الأمريكية السلبية في المجتمعات العربية والمسلمة، حيث وصل العداء لأمريكا إلى مستويات مذهلة، ويشير إلى أن سياسة الإدارة الأمريكية "تركتنا ـ أي الأمريكيين ـ معرّضين للتهديدات الفتّاكة لمصالحنا وسلامتنا"، بحسب ما جاء في التقرير..

إننا نرحّب بالإدلاء بهذه الحقيقة السياسية السلبية لأمريكا في علاقتها بالعرب والمسلمين بشكل عام، ولكننا لا نوافق هؤلاء المستشارين عندما يوصون بزيادة الإمكانية المالية المرصودة للأجهزة الدبلوماسية المعنية لتلميع صورتهم، بل إن المسألة نابعة من الموقف الأمريكي المنحاز بالمطلق لمصلحة إسرائيل في كل خططها، حتى إنها تتحرك من جهة في موقف سرّي يشجع إسرائيل على تنفيذ خططها الاستراتيجية في مواصلة حصارها على الفلسطينيين، واغتيال قياداتهم، وقتل مدنييهم، ومصادرة أراضيهم، وإسقاط البنية التحتية لاقتصادهم.. وموقف علنيّ من جهة أخرى في تصريحات الإدارة العلنية لانتقاد بعض الممارسات الإسرائيلية، وتقديم النصيحة الخجولة لهم في التخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني، وإبقاء الاحتلال في الضفة الغربية وغزة، إلا بالشروط الأمريكية والإسرائيلية غير المعقولة..

الاتحاد الأوروبي: الموقف المصادر

وقد استطاعت الإدارة الأمريكية أن تصادر الموقف الأوروبي الذي اقترب من الموقف الأمريكي، في اعتبار الحرب الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، في عمليات العقاب الجماعي الذي يصيب المدنيين، دفاعاً عن النفس، واعتبار عمليات التحرير الفلسطينية ضد الاحتلال إرهاباً، مع بعض النفاق السياسي الذي يقوم به بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي في الاتصال بالفلسطينيين من خلال السلطة من دون فائدة على مستوى حلّ المشكلة.. وهكذا رأينا كيف نجحت أمريكا في محاصرة الشعب الفلسطيني بأكثر من موقف دولي..

وعليه، فإننا نستطيع أن نؤكد أن الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ـ ومعهما الاتحاد الروسي والأمم المتحدة ـ يؤيدان الاحتلال الإسرائيلي ويدعمانه في المواقف الحاسمة لمصلحة إسرائيل، مع بعض الكلمات التي لا معنى لها الموجَّهة للفلسطينيين.. والسؤال الموجَّه للّجنة الرباعية: ما هو معنى الحرية وحقوق الإنسان؟؟ وما معنى خارطة الطريق الإسرائيلية من خلال التعديلات التي وافقت عليها أمريكا، ولم تعترض عليها اللجنة الرباعية؟؟ وما معنى هذا التدرّج الأمريكي في الاعتراض على الجدار، ثم في اعتباره مشكلة، ثم في القبول مع التحفّظ، ثم في إزالة التحفّظ في نهاية المطاف؟!

إننا لا نريد الحديث من موقع العقدة عن هذا النفاق السياسي الدولي الذي يتميّز بأكثر من ذهنية عنصرية، بل من موقع الواقع الذي يتخبّط فيه المستضعفون من خلال خطط المستكبرين.. إننا كعرب وكمسلمين نحبّ أن نكون أصدقاء العالم كله، ولسنا معقّدين من الشعوب الغربية أو من أيّ شعب آخر، ولكن مشكلتنا كمشكلة بعض هذه الشعوب من الإدارات التي تحكمها.. وإننا ندعو إلى الحوار بين الشرق والغرب، بين الإسلام والأديان الأخرى، لأن الحوار هو الذي يقرّب الشعوب من بعضها البعض، ويحقق التفاهم والتواصل.

ولذلك قلنا للجنة الرباعية: إن القوة التي تدعمونها، وهي إسرائيل، لن تستطيع أن تصل إلى حلّ لمشكلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل هو الحوار الذي ينبغي أن لا يقتصر على طريق واحد، وهذا ما لم يفعلوه في المسألة الفلسطينية.

الإدارة الأمريكية: إدمان الخداع والكذب

ومن جانب آخر، فإن وزير الخارجية الأمريكية يتحدث إلى العرب عن "التقدّم المدهش" الذي حققته الإدارة الأمريكية في الأوضاع في العراق، وليطلب منهم "المساعدة في بناء شرق أوسط جديد مسالم مزدهر يكون حرّاً".. والسؤال: ماذا عن المصالح الأمريكية الاقتصادية السياسية الأمنية التي تضغط على مصالح شعوب المنطقة لحساب الشركات الاحتكارية؟ وهل تقبل الإدارة الأمريكية أن يقف هذا الشرق الأوسط "الجديد الحرّ" ليمارس حقه في رفض السياسة الأمريكية بشروطه المنطلقة من مصالحه؟ وهل توافق هذه الإدارة على الديمقراطية المنفتحة على قرار الأمة في تقرير مصيرها، بعيداً عن أيّ ضغط استكباري؟ وهل ترضى عن وقوف الشعب الفلسطيني مع قيادته السياسية والجهادية، بعيداً عن الموقف الأمريكي؟؟

لقد أدمنت هذه الإدارة وما قبلها الخداع والكذب والضغط على الشعوب باسم الشعارات المطلقة التي كان آخرها "الحرب ضد الإرهاب"، المتمثّل في الحرب على كل الأنظمة والشعوب التي تريد أن تتوازن وتفكّر لتفصل بين الإرهاب والمقاومة.. ثم محاربة أسلحة الدمار الشامل التي تتّهم بها دول المنطقة كسوريا وإيران، في الوقت الذي تبرِّر فيه لإسرائيل امتلاكها من أجل "الدفاع عن نفسها" ـ بحسب التعبير الأمريكي ـ كما لو كانت المنطقة العربية الإسلامية هي المعتدية واليهود هم الضحايا، مع أن التاريخ البعيد والقريب لا يزال يتذكّر المجازر الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ولا سيما مجزرة "صبرا وشاتيلا" التي قادها شارون "رجل السلام" ـ بحسب تعبير الرئيس "بوش" ـ ومجزرة "قانا"، إلى المجازر المتحركة في كل يوم في مناطق الاحتلال في فلسطين..

السياسة الأمريكية تنتج العداء

إن القضية هي أن السياسة الأمريكية المعادية للشعوب، والتي تعمل لحساب الشركات الاحتكارية التي ينتمي إليها رجال هذه الإدارة، سوف تنتج في كل مرحلة عداءً جديداً للأمريكيين، ينقله جيل إلى الجيل الآخر، وسوف يتطوّر "الإرهاب" بفعل بقاء جذوره في الواقع من دون أن تستطيع القوة أن تعالجه..

إننا نحبّ السلام مع العدل، ولكن الاستكبار العالمي يريد الحرب باسم السلام، ويخطط للظلم باسم العدل، ويتحرك بالدكتاتورية باسم الديمقراطية.. وسيبقى الصراع بين الحرية والاستعباد، وبين الشعوب وقوى الاستكبار، وسوف تبقى فلسطين والعراق وأفغانستان إلى جانب القائمة الجديدةK مشكلة متحركة تفتح في كل يوم جرحاً جديداً ومقاومة جديدة.

الإصلاح ـ الشعار: مراوحة المكان

أما في لبنان، فيبقى الإصلاح ـ الشعار يراوح مكانه، بفعل التجاذبات السياسية الغارقة في ضباب الخلفيات الشخصانية والطائفية. إن المسألة ليست في الحاجة إلى قانون جديد، أو دستور جديد، بل في تفعيل القوانين، وإبعاد المفسدين والفاسدين والمعرقلين عن الدولة.. إن الشعب يصرخ مطالباً بأن يعيش بإنسانيته لا بطائفيته، وبأن تؤكد الدولة معنى الوطن في معنى المواطن..

إن المنطقة تهتز أمام العواصف الإقليمية والدولية، وإن الدولة تهتز أمام المديونية والمحسوبية، والسؤال: إلى أين؟ وهل يمكن للبنان أن يكون دولة الإنسان لا دولة اللاعبين ومزرعة "للحرامية"؟؟ اللهم اجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً، واستبدلنا بالعسر يسراً، واهدنا للخير والعمل به يا أرحم الراحمين.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير