في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين(ع): لنكن السائرين على نهجه في الوحدة والورع والاجتهاد

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين(ع): لنكن السائرين على نهجه في الوحدة والورع والاجتهاد

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين(ع): لنكن السائرين على نهجه في الوحدة والورع والاجتهاد


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

علي(ع) صورة عن رسول الله(ص)

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. ذلك هو عليّ (ع)، هذا الإنسان الذي شرى نفسه وباعها لله، فكان كله لله، كان عقله عقل الإنسان الذي ينفتح على الله من خلال انفتاحه على الحق، وكان قلبه هو القلب الذي يتسع للناس جميعاً بعدما اتسع لله سبحانه، وكانت طاقاته هي للحق كله. كان سرّ عليّ أنه لم يفكر في نفسه، وإنما فكر في الله، ولذلك، فقد كان عندما يتحدث مع الناس عن الفرق بينه وبينهم يقول: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".

كان عليّ (ع) صورةً عن رسول الله (ص)، احتضنه الرسول منذ طفولته الأولى، وأعطاه من نوره نوراً، فكان من رسول الله كالضوء من الضوء، وأعطاه من شخصيته شخصية، فكان كالصنو من الصنو، كان عقله من عقل رسول الله، لأن النبي احتضن عقله منذ طفولته الأولى، وهو يلقي إليه في كل يوم عقلاً من عقله، وروحاً من روحه.

كان علي(ع) الذي عاش مع رسول الله يتحدث إلى الناس في خلافته، والناس آنذاك مختلفون عليه، كان يقول لهم: "أيتها النفوس المختلفة ـ التي لم تتوحَّد عند القاعدة التي تربطهم بالله وتنفتح بهم على الحق ـ والقلوب المتشتتة ـ فكل قلب يتجه اتجاهاً مختلفاً، فلا وحدة ولا تآلف بين القلوب ـ الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحق ـ أدعوكم إلى الحق ـ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد ـ فعندما ينطلق الحق لتعيشوا في ظله وتسيروا في خطه فإنّكم تنفرون منه، لأن الحق مرٌّ وكريه الطعم ـ هيهات أن أُطلع بكم سرار العدل ـ أنتم لستم المجتمع الذي أستطيع أن أحقق العدل من خلاله ـ أو أقيم اعوجاج الحق". وتلك كانت مأساة عليّ(ع)، التي تتمثل في أنه كان يريد أن يرفع الأمة التي عاشت معه إلى القمة، ولكنها كانت تنحدر إلى الحضيض، لا تستمع إليه ولا تتعلّم منه...

الخلافة لإظهار معالم الدين

ثم يتحدث عليّ (ع) عن دوره في خطِّ الحكم والخلافة، لماذا قبل بها، هل هو كالآخرين الذين يريدون الخلافة أو الإمارة من أجل إرضاء العنفوان الذاتي أو الحصول على مكتسبات؟ كان عليّ (ع) رسالياً، كان كل شيء عنده للرسالة، وهو الذي قال لابن عباس عندما رآه يخصف نعله: "ما قيمة هذا النعل؟" قال: "لا قيمة لها" فقال(ع): "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"، إنني أقبل بالإمرة لا من ناحية ذاتية، ولكن من أجل إقامة الحق الذي أنا مسؤول عنه ومن أجل إزهاق الباطل...

وبعد أن تحدث مع الناس قال (ع): "اللهم إنك تعلم ـ توجه إلى الله ليقدّم حسابه إليه، وهذه هي سيرة الأنبياء والأولياء، أنهم عندما يتحركون في أية مسؤولية من مسؤولياتهم، فإنهم يقدمون حسابهم لله قبل أن يقدموه للأمة. وهذا درس لا بد لنا أن نتعلمه أياً كانت مسؤولياتنا ومواقعنا، أن نقدّم حسابنا لله تعالى قبل أن نقدّمه للناس، أن نعبِّر لله عن كل ما يختفي وراء هذا العمل، هل هو للحق أم للباطل، هل هو للذات أم للرسالة. هكذا كان عليّ (ع) وهو يقدم حسابه لله في عملية اعتراف وخشوع وخضوع له ـ أنه لم يكن الذي كان منا ـ في مسألة الخلافة ـ منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام ـ وليس هذا من أجل أن نحصل على مال أو ما يرغب الناس فيه من الحصول على المكاسب المادية ـ ولكن لنرد المعالم من دينك ـ حتى نحرك معالم الدين في المجتمع ونردها إلى الخط المستقيم، حتى يأخذ الناس بها فتتحرك في حياتهم ـ ونظهر الإصلاح في بلادك ـ فالمسؤولية في الخلافة إنما هي وسيلة من وسائل إظهار الإصلاح ـ فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله (ص) بالصلاة"، كنت مسلماً مع إسلام رسول الله قبل أن يُبعث بالرسالة، وعشت الإسلام في نفسي قبل أن يُبعث النبي بالرسالة، فكان الإسلام الذي دعاني إليه رسول الله في عقلي وقلبي، لأنني عشته فكراً وروحاً لله تعالى.

الداعية والمجاهد

وعندما عاش علي(ع) الإسلام، امتزجت طفولته بالإسلام وتحرك شبابه به، نذر نفسه لله على أن يكون الداعية إلى الإسلام والمجاهد في سبيل الله تعالى، ورافق النبي (ص) في بيته، وكان يقول علي(ع) "لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وأنا ثالثهما"، وعندما أراد رسول الله منه أن يبيت على فراشه سأله: "أوتسلم يا رسول الله؟" قال (ص): "بلى"، فقال (ع): "إذهب راشداً مهدياً".

وكان عليّ (ع) الإنسان الذي استودعه رسول الله (ص) كل أماناته التي هي للناس وكل ودائعه، ولم يهاجر(ع) حتى أدى ودائع رسول الله وأماناته، كان الأمين على الحق والمال وعلى كل ما يتصل بالإسلام والمسلمين، وكان (ع) الفارس الأول في "بدر"، فقتل نصف قتلى المشركين في المعركة، وشارك المسلمين في النصف الآخر، حتى قيل إن جبرائيل (ع) كان يهتف والملائكة يحيطون بالمسلمين ليرفعوا معنوياتهم: "لا فتى إلا عليّ، لا سيف إلا ذو الفقار"، كانت فتوته فتوة الإسلام في أن يعطيه شبابه ليعيش الإسلام شباب القوة والعزة والكرامة، وكان سيفه هو سيف الإسلام، كان سيفاً لا يظلم، ولكنه سيف يقيم العدل.

وكان(ع) ينتقل من حرب إلى حرب، ولم يكن يحب الحرب لأجل الحرب، ولكنه كان يحارب من أجل أن يدفع الناس الذين يريدون أن يسقطوا الإسلام ويبعدوه عن الحياة، فكان (ع) في "أحد" و"خيبر" و"الأحزاب" و"حنين"...، السيف الذي يدافع عن الإسلام أمام رسول الله (ص). وكان عليّ (ع) الداعية الذي امتلأ عقله بكل علم رسول الله، حتى قال (ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها". ورأينا كيف أن رسول الله (ص) يجد أن عليّاً(ع) يمثل جيشاً بأكمله، وذلك عندما برز عليّ إلى عمر بن عبد ود في معركة الأحزاب، ورسول الله (ص) يقول: "من لعمرٍ وأنا ضامن له على الله الجنة"، والمسلمون لا يجيبون خوفاً من عمرٍ، لأنه كان يمثل القوة في الواقع العربي، وكان (ع) يقول: "أنا له يا رسول الله"، ثلاث مرات، وعندما نزل (ع) إلى المبارزة قال (ص): "ربي لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين".

وفي معركة "خيبر" قال (ص): "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، هذا الوسام الذي لم يتحدث به رسول الله عن أحد يدل على أن عليّاً(ع) يجمع في قلبه حبّ الله والرسول، وأن الله والرسول يلتقيان في حبّ علي(ع)... وقال رسول الله (ص) وهو يشير إلى المسلمين بأن هذا الإنسان هو الحق كله، فلا يمكن أن يحيد عن الحق في كل مكان؛ في بيته وحكمه وحربه وسلمه وكل مواقفه: "عليّ مع الحق والحق مع عليّ، اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار".

وعندما جمع رسول الله (ص) المسلمين في يوم الغدير بعد رجوعه من حجة الوداع، بعد أن نزلت الآية: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس}، وقف رسول الله (ص) ورفع يد عليّ (ع) حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال (ص): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: بلى، فقال (ص): "اللهم فاشهد، من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ـ من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه ـ اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار"...

رائد الوحدة الإسلامية

ولكن الأحداث تغيّرت وانحرفت عن خطها، وبقي عليّ مخلصاً للإسلام، وصبر (ع) وفي العين قذى وفي الحلق شجى، ولكنه قال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة". كان همّ عليّ كيف يحفظ المسلمين ويمنع الفتنة والتمزق في داخلهم، كان (ع) يرى أن وحدة المسلمين ـ حتى لو اختلفوا في بعض التفاصيل ـ هي التي تحفظ للمسلمين قوتهم وعزتهم. كان عليّ (ع) رجل الوحدة الإسلامية الذي عاون الذين تقدّموه وأبعدوه، لأن القضية لم تعد مجرد قضية شخصية، ولكنها كانت قضية الرسالة.

وعندما انطلق بالخلاقة، زرعوا الألغام في طريقه، واضطروه إلى أن يواجه أكثر من حرب في الواقع الإسلامي، وكان عليّ (ع) يريد أن ينفتح على المسلمين سلماً لا حرباً، كان يريد أن يجعل الإسلام والمسلمين في الخط المستقيم، ولكنهم منعوه من ذلك.

الفوز العظيم

وبقي صامداً، حتى إنه في نهاية المطاف، وبعد أن حاور الذين خاصموه وأقام الحجة عليهم، حتى الخوارج الذين كفّروه، لم يحجب عنهم العطاء، بل كان يحاورهم بالحسنى، لأنه كان لا يستهدف قتل الناس، بل يستهدف هدايتهم وإرشادهم، لأن هؤلاء كان الله قد أعمى عيونهم وقلوبهم، فعبدوا الله من دون علم، لأن أفكارهم كانت مغلقة، كالكثيرين ممن نعايشهم، الذين يعيشون العصبية لأفكارهم، فلم ينفتحوا على حوار أو مناقشة، بل أكثر من ذلك، دفعهم تعصبهم إلى التخطيط لاغتيال عليّ (ع) وهو في المسجد، وجاء اللعين ابن ملجم، فكمن له واغتاله، وكانت كلمة عليّ (ع) كلمة الحق والفرح، السيف يفلق رأسه وهو يقول: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة"..

لقد عبّر عليّ (ع) عن فرحه لأنه درس كل حياته منذ أن ولد في الكعبة ومنذ أن جعل كل مسار حياته مسجداً، وانتهت حياته في المسجد، ولد في بيت الله وفي لطف الله، واستشهد وهو في بيت الله وفي لطفه. ولذلك فإن عليّاً(ع)، هو الإنسان العظيم الذي لا تستطيع من خلال كل هذا النور الذي ينبثق منه؛ نور العقل والروح والعبادة والجهاد والإخلاص لله، إلا أن تعتبره القمة في كل شيء، والعصمة في كل شيء، إن علياً (ع) هو الإنسان الذي لا تجد في كل صحابة رسول الله مثله ـ مع كل احترامنا للصحابة ـ ولذلك كان هو المؤهّل ليكمل الرسالة.

التأسّـي بـه

لقد كان عليّ (ع) الإنسان الذي أعطى كل نفسه لله، وإذا أردنا في يوم ذكرى مصرعه أن نكون معه، فإن عليّاً (ع) يقول: "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ـ ورع عن الحرام واجتهاد في طاعة الله ـ وعفّة وسداد". إنه يدعونا إلى أن نكمل المسيرة التي بدأها مع رسول الله(ص)، لنحفظ الإسلام والمسلمين، ونواجه كل التحديات والمتغيرات. هذا هو ما نقدّمه لعليّ(ع)، إنه لا يريد دموعنا وبكاءنا وكلماتنا، إنه يريدنا أن نكون مع الحق لأنه كان مع الحق كله. فإذا أردتم أن تكونوا مع عليّ(ع)، فإن عليكم أن تكونوا مع الحق، لأن من كان مع الباطل لا يقترب من خط عليّ(ع).

سلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً، ونختم بكلمة ذلك الشاعر المسيحي الذي يشعر بروعة عليّ وعظمته، والذي قال إن الإنسان عندما يذكر علياً فإن الكون كله يصغي لكلمة عليّ:

يا سماء اشهدي ويا أرض قري واخشعي إنني ذكرت عليا

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا الموقف كما واجهه رسول الله (ص) وعليّ (ع) أمام التحديات الكبرى التي كانت تواجه الإسلام والمسلمين من خلال كل أعداء الله ورسوله، وقد قال الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، القتال الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، لأن القضية هي أن يعيش المسلمون روحية الأمة وذهنيتها، أن يكونوا أمة واحدة كالجسد الواحد، فعلينا أن ننطلق جميعاً من أجل أن نتحمل مسؤولية الإسلام والمسلمين كلهم. إننا نواجه التحديات الكبرى التي تماثل في خطورتها ما واجهه النبي (ص)، وعلينا أن نكون في مستوى هذه التحديات، وأن نستعدّ لكل هذه التحديات، ونواجه قضايانا بالحذر والوعي والفهم. فماذا هناك؟

الانتفاضة مستمرة...

الشعب الفلسطيني ماضٍ في صموده وجهاده ووعيه لوحدته، لم يتراجع عن خطة التحرير، ولم يتعب من المقاومة، ولم يتنازل عن انتفاضته، مع عقلانية سياسية تعمل للوحدة في خط الهدف، وتتحرك في خط التنوع الذي يغني الوطن ولا يمزقه. وهذا هو سر استمرار هذا الشعب في عملية صنع التاريخ للأمة كلها، لأن فلسطين تختصر المستقبل السياسي للمنطقة كلها...

أما إسرائيل، فهي ماضية في عملية القتل والتدمير والإبادة، والاجتياحات المتكررة، والتشريد للمدنيين، والحصار المطبق على كل مواردهم ومصادر عيشهم، ومصادرة أراضيهم في مشروع الجدار العنصري العازل...

ولا تزال اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية تركِّز على الجانب الأمني في القضية، بالمطالبة بتفكيك البنى التحتية لفصائل الانتفاضة كشرط لتطبيق خريطة الطريق وللبدء بالمفاوضات، في الوقت الذي نعرف أن هذه الخريطة لا تمثل حلاً بل تمثل مشكلة للفلسطينيين، وخصوصاً بعد التعديلات التي اقترحتها إسرائيل ووافقت عليها أمريكا، وبعد التطورات التي وضعت هذه الخطة في براد الموتى...

قضية فلسطين سياسية

إن أمريكا تعرف جيداً أن مشكلة فلسطين ليست أمنية بل هي سياسية، لأن المطلوب أولاً وأخيراًَ الانسحاب من الأراضي المحتلة، ولكن الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية تقضي بأن يعلن المجاهدون الاستسلام لإسرائيل، وأن يعترفوا بأنهم "إرهابيون" في جهادهم، وأن اليهود هم الضحايا، وهذا ما لن يحصل بحسب معرفتنا بالمجاهدين...

ولذلك، فإن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ تعملان على إبعاد فلسطين الشعب والأرض عن دائرة الضوء، لتبقى المسألة تفصيلاً من تفاصيل الحرب على ما يسمونه الإرهاب الفلسطيني، وليبقى الصهاينة في دور الضحية. وهذا هو ما لاحظه الجميع في خطاب الرئيس الأمريكي، الذي لم يشر إلى الاحتلال في فلسطين من قريب أو من بعيد، لأن كلماته التي تتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية في خطة تغيير المنطقة، لم تكن جادة بقدر ما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني، بينما منحت كل الحقوق لإسرائيل...

وفي ضوء ذلك، لا بد للفلسطينيين من أن يواجهوا المرحلة بدقة وحذر، ولا سيما بعد تشكيل الحكومة الجديدة التي بدأ التحالف الأمريكي ـ الصهيوني يثير أمامها مسألة القضاء على الانتفاضة كبادرة حسن سلوك، بقصد إيجاد حال من الفتنة الداخلية التي تحقق للعدو الانتصار في السلم بما لم يحصل عليه في الحرب.

الاحتلال الأمريكي: التنقل بين الأزمات

أما في العراق، فإن المأزق يتّسع أمام الاحتلال بالمستوى الذي بدأت فيه الحرب المتحركة ضد جنوده وجنود التحالف معه، كما أننا نلاحظ كيف ارتبكت الإدارة الأمريكية في طريقة إدارتها للوضع الأمني والسياسي والاقتصادي في العراق، بين نقد للقائمين على مجلس الحكم الانتقالي تارةً، بعنوان أنهم دون المستوى في الإخلاص لمسؤولياتهم ودعوتهم إلى المزيد من الفاعلية في تنفيذ مهماتهم، واقتراحات جديدة في تحقيق التجربة الأفغانية في العراق، وحديث عن السرعة في تسليم الحكم للعراقيين...

إن الأوضاع الصعبة التي تحيط بجنود الاحتلال، جعلت قيادتهم السياسية والأمنية تنتقل من أزمة إلى أزمة في متاهات الظروف المتعددة الصعبة، في عملية هروب من مواجهة الواقع باتهام الدول المجاورة كسوريا وإيران، ومطالبتها بأن تكون حرساً على حدودها للقوات المحتلة، تحت تأثير التهديد بالعقوبات، كما حدث في قانون محاسبة سوريا الذي بدا كما لو كانت أمريكا تفرض مصالحها على المصالح السورية السياسية والاقتصادية، في دعوة إلى الخضوع المطلق لمساعدة الاحتلال في احتلاله في فلسطين والعراق، وكما حدث في مهاجمة الإدارة الأمريكية لوكالة الطاقة الذرية التي برّأت إيران من تهمة إنتاج السلاح النووي، تماماً كما فعلت في موقفها من تقرير الوكالة قبل الحرب على العراق...

ويبقى للشعب العراقي أن يدرس مرحلته والظروف الصعبة القاسية المحيطة به، والتجربة التي عاش ولا يزال يعيش في داخلها، وأن يؤكد بوعي مشوب بالحذر لقوات الاحتلال، أن النظام الطاغي قد سقط إلى غير رجعة وأصبح من الماضي، والمطلوب هو أن يمارس الشعب في العراق حريته في تقرير مصيره، وإدارة أموره، وتنمية اقتصاده، وتوحيد جهوده، وإعمار بلاده، لا أن تكون هذه الأمور من مسؤولية المحتل الذي لن يعطي العراقيين إلا الفتات والهوامش، لتبقى للشركات الاحتكارية حصة الأسد... إن المرحلة بحاجة إلى المزيد من التدقيق في المتغيرات الداخلية والخارجية بوعي وحذر شديدين.

تفجيرات الرياض جريمة

وفي جانب آخر، فإن التفجيرات التي حدثت في الرياض في السعودية، وحصدت الكثير من الأبرياء من الأطفال والنساء من المدنيين الذين سافروا إلى تلك البلاد للبحث عن فرص العيش الكريم... إننا نعتبر هذه التفجيرات في مستوى الجريمة الكبرى التي يرفضها العقل والدين والحضارة، كما أن ذلك لا يحقق أي هدف وطني أو إسلامي، بل يبقى في دائرة تشويه صورة الأمة في دينها وامتداداتها الإنسانية.

ملف الأسرى: مراوغات صهيونية

وتبقى مسألة الأسرى في العملية التبادلية تتحرك في خطة المراوغة والمناورة اللاإنسانية الصهيونية، من خلال محاولة تحقيق أكثر من مكسب سياسي داخلي أو خارجي بحجة رفض إطلاق الأسرى الذين قتلوا إسرائيليين.. ولكننا ـ أمام هذا المنطق ـ نسأل اليهود: كيف يطالبون بإطلاق الطيار الإسرائيلي الذي أُسر في لبنان وقد كان يرمي القذائف القاتلة على المدنيين الأبرياء، فهل يقبلون من اللبنانيين أن يرفضوا إطلاقه ـ في حال كان موجوداً في قبضتهم ـ لأن يديه ملطختان بدماء أبنائهم، أم أن الدم اللبناني والفلسطيني والعربي لا قيمة له أمام الدم الصهيوني؟!

إن الموقف بحاجة إلى صبر وصمود، لأن القضية لا تخلو من التعقيد في الدائرة الصهيونية، كما هي في الدائرة اللبنانية، ولكن لا بد من أن تكون النتائج الإيجابية لصالح إطلاق الأسرى، فما ضاع حق وراءه مطالب.

لبنان: غرق في الحسابات الشخصية

أما في الداخل اللبناني، فهناك الغرق والاستغراق في الحسابات الشخصية التي قد تأخذ بعض العناوين الوطنية، كما تتحرك الاتهامات من موقع مسؤول إلى موقع مسؤول آخر بما قد يصل إلى مستوى التخوين، ولا سيما عندما يتحدث الجميع عن الهدر والفساد الإداري والاقتصادي الناتج من الفساد السياسي... وتأتي التسويات فتغلق كلّ الملفات، في حديث تبريري تفسيري للقانون بأن القضاء لا صلاحية له في ذلك، وأن المسألة ـ وخصوصاً في محاكمة الرؤساء والوزراء ـ بحاجة إلى دراسة عميقة وجولات سياسية لدى النواب والوزراء، واستهلاك للكلمات الضائعة التي يطلقها كل فريق سلباً أو إيجاباً لمصلحة فريقه...

كل ذلك والشعب يجوع ويظمأ ويدخل مرحلة الضياع، في حاضر لا يرى فيه ملامح المستقبل الجديد الواعد، والمنطقة تنتقل من ضغوط إلى ضغوط ومن اهتزاز إلى اهتزاز، والأمريكيون يدخلون على خط لبنان في محاسبة سوريا، واللبنانيون مشغولون بتسجيل النقاط السياسية والمالية، ولا وقت لديهم لمتابعة نذر الخطر في قضايا المصير.

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين(ع): لنكن السائرين على نهجه في الوحدة والورع والاجتهاد


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

علي(ع) صورة عن رسول الله(ص)

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد}، {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. ذلك هو عليّ (ع)، هذا الإنسان الذي شرى نفسه وباعها لله، فكان كله لله، كان عقله عقل الإنسان الذي ينفتح على الله من خلال انفتاحه على الحق، وكان قلبه هو القلب الذي يتسع للناس جميعاً بعدما اتسع لله سبحانه، وكانت طاقاته هي للحق كله. كان سرّ عليّ أنه لم يفكر في نفسه، وإنما فكر في الله، ولذلك، فقد كان عندما يتحدث مع الناس عن الفرق بينه وبينهم يقول: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم".

كان عليّ (ع) صورةً عن رسول الله (ص)، احتضنه الرسول منذ طفولته الأولى، وأعطاه من نوره نوراً، فكان من رسول الله كالضوء من الضوء، وأعطاه من شخصيته شخصية، فكان كالصنو من الصنو، كان عقله من عقل رسول الله، لأن النبي احتضن عقله منذ طفولته الأولى، وهو يلقي إليه في كل يوم عقلاً من عقله، وروحاً من روحه.

كان علي(ع) الذي عاش مع رسول الله يتحدث إلى الناس في خلافته، والناس آنذاك مختلفون عليه، كان يقول لهم: "أيتها النفوس المختلفة ـ التي لم تتوحَّد عند القاعدة التي تربطهم بالله وتنفتح بهم على الحق ـ والقلوب المتشتتة ـ فكل قلب يتجه اتجاهاً مختلفاً، فلا وحدة ولا تآلف بين القلوب ـ الشاهدة أبدانهم، والغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحق ـ أدعوكم إلى الحق ـ وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد ـ فعندما ينطلق الحق لتعيشوا في ظله وتسيروا في خطه فإنّكم تنفرون منه، لأن الحق مرٌّ وكريه الطعم ـ هيهات أن أُطلع بكم سرار العدل ـ أنتم لستم المجتمع الذي أستطيع أن أحقق العدل من خلاله ـ أو أقيم اعوجاج الحق". وتلك كانت مأساة عليّ(ع)، التي تتمثل في أنه كان يريد أن يرفع الأمة التي عاشت معه إلى القمة، ولكنها كانت تنحدر إلى الحضيض، لا تستمع إليه ولا تتعلّم منه...

الخلافة لإظهار معالم الدين

ثم يتحدث عليّ (ع) عن دوره في خطِّ الحكم والخلافة، لماذا قبل بها، هل هو كالآخرين الذين يريدون الخلافة أو الإمارة من أجل إرضاء العنفوان الذاتي أو الحصول على مكتسبات؟ كان عليّ (ع) رسالياً، كان كل شيء عنده للرسالة، وهو الذي قال لابن عباس عندما رآه يخصف نعله: "ما قيمة هذا النعل؟" قال: "لا قيمة لها" فقال(ع): "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"، إنني أقبل بالإمرة لا من ناحية ذاتية، ولكن من أجل إقامة الحق الذي أنا مسؤول عنه ومن أجل إزهاق الباطل...

وبعد أن تحدث مع الناس قال (ع): "اللهم إنك تعلم ـ توجه إلى الله ليقدّم حسابه إليه، وهذه هي سيرة الأنبياء والأولياء، أنهم عندما يتحركون في أية مسؤولية من مسؤولياتهم، فإنهم يقدمون حسابهم لله قبل أن يقدموه للأمة. وهذا درس لا بد لنا أن نتعلمه أياً كانت مسؤولياتنا ومواقعنا، أن نقدّم حسابنا لله تعالى قبل أن نقدّمه للناس، أن نعبِّر لله عن كل ما يختفي وراء هذا العمل، هل هو للحق أم للباطل، هل هو للذات أم للرسالة. هكذا كان عليّ (ع) وهو يقدم حسابه لله في عملية اعتراف وخشوع وخضوع له ـ أنه لم يكن الذي كان منا ـ في مسألة الخلافة ـ منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام ـ وليس هذا من أجل أن نحصل على مال أو ما يرغب الناس فيه من الحصول على المكاسب المادية ـ ولكن لنرد المعالم من دينك ـ حتى نحرك معالم الدين في المجتمع ونردها إلى الخط المستقيم، حتى يأخذ الناس بها فتتحرك في حياتهم ـ ونظهر الإصلاح في بلادك ـ فالمسؤولية في الخلافة إنما هي وسيلة من وسائل إظهار الإصلاح ـ فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك. اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله (ص) بالصلاة"، كنت مسلماً مع إسلام رسول الله قبل أن يُبعث بالرسالة، وعشت الإسلام في نفسي قبل أن يُبعث النبي بالرسالة، فكان الإسلام الذي دعاني إليه رسول الله في عقلي وقلبي، لأنني عشته فكراً وروحاً لله تعالى.

الداعية والمجاهد

وعندما عاش علي(ع) الإسلام، امتزجت طفولته بالإسلام وتحرك شبابه به، نذر نفسه لله على أن يكون الداعية إلى الإسلام والمجاهد في سبيل الله تعالى، ورافق النبي (ص) في بيته، وكان يقول علي(ع) "لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وأنا ثالثهما"، وعندما أراد رسول الله منه أن يبيت على فراشه سأله: "أوتسلم يا رسول الله؟" قال (ص): "بلى"، فقال (ع): "إذهب راشداً مهدياً".

وكان عليّ (ع) الإنسان الذي استودعه رسول الله (ص) كل أماناته التي هي للناس وكل ودائعه، ولم يهاجر(ع) حتى أدى ودائع رسول الله وأماناته، كان الأمين على الحق والمال وعلى كل ما يتصل بالإسلام والمسلمين، وكان (ع) الفارس الأول في "بدر"، فقتل نصف قتلى المشركين في المعركة، وشارك المسلمين في النصف الآخر، حتى قيل إن جبرائيل (ع) كان يهتف والملائكة يحيطون بالمسلمين ليرفعوا معنوياتهم: "لا فتى إلا عليّ، لا سيف إلا ذو الفقار"، كانت فتوته فتوة الإسلام في أن يعطيه شبابه ليعيش الإسلام شباب القوة والعزة والكرامة، وكان سيفه هو سيف الإسلام، كان سيفاً لا يظلم، ولكنه سيف يقيم العدل.

وكان(ع) ينتقل من حرب إلى حرب، ولم يكن يحب الحرب لأجل الحرب، ولكنه كان يحارب من أجل أن يدفع الناس الذين يريدون أن يسقطوا الإسلام ويبعدوه عن الحياة، فكان (ع) في "أحد" و"خيبر" و"الأحزاب" و"حنين"...، السيف الذي يدافع عن الإسلام أمام رسول الله (ص). وكان عليّ (ع) الداعية الذي امتلأ عقله بكل علم رسول الله، حتى قال (ص): "أنا مدينة العلم وعلي بابها". ورأينا كيف أن رسول الله (ص) يجد أن عليّاً(ع) يمثل جيشاً بأكمله، وذلك عندما برز عليّ إلى عمر بن عبد ود في معركة الأحزاب، ورسول الله (ص) يقول: "من لعمرٍ وأنا ضامن له على الله الجنة"، والمسلمون لا يجيبون خوفاً من عمرٍ، لأنه كان يمثل القوة في الواقع العربي، وكان (ع) يقول: "أنا له يا رسول الله"، ثلاث مرات، وعندما نزل (ع) إلى المبارزة قال (ص): "ربي لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين".

وفي معركة "خيبر" قال (ص): "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه"، هذا الوسام الذي لم يتحدث به رسول الله عن أحد يدل على أن عليّاً(ع) يجمع في قلبه حبّ الله والرسول، وأن الله والرسول يلتقيان في حبّ علي(ع)... وقال رسول الله (ص) وهو يشير إلى المسلمين بأن هذا الإنسان هو الحق كله، فلا يمكن أن يحيد عن الحق في كل مكان؛ في بيته وحكمه وحربه وسلمه وكل مواقفه: "عليّ مع الحق والحق مع عليّ، اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار".

وعندما جمع رسول الله (ص) المسلمين في يوم الغدير بعد رجوعه من حجة الوداع، بعد أن نزلت الآية: {يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس}، وقف رسول الله (ص) ورفع يد عليّ (ع) حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال (ص): "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: بلى، فقال (ص): "اللهم فاشهد، من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ـ من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه ـ اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار"...

رائد الوحدة الإسلامية

ولكن الأحداث تغيّرت وانحرفت عن خطها، وبقي عليّ مخلصاً للإسلام، وصبر (ع) وفي العين قذى وفي الحلق شجى، ولكنه قال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة". كان همّ عليّ كيف يحفظ المسلمين ويمنع الفتنة والتمزق في داخلهم، كان (ع) يرى أن وحدة المسلمين ـ حتى لو اختلفوا في بعض التفاصيل ـ هي التي تحفظ للمسلمين قوتهم وعزتهم. كان عليّ (ع) رجل الوحدة الإسلامية الذي عاون الذين تقدّموه وأبعدوه، لأن القضية لم تعد مجرد قضية شخصية، ولكنها كانت قضية الرسالة.

وعندما انطلق بالخلاقة، زرعوا الألغام في طريقه، واضطروه إلى أن يواجه أكثر من حرب في الواقع الإسلامي، وكان عليّ (ع) يريد أن ينفتح على المسلمين سلماً لا حرباً، كان يريد أن يجعل الإسلام والمسلمين في الخط المستقيم، ولكنهم منعوه من ذلك.

الفوز العظيم

وبقي صامداً، حتى إنه في نهاية المطاف، وبعد أن حاور الذين خاصموه وأقام الحجة عليهم، حتى الخوارج الذين كفّروه، لم يحجب عنهم العطاء، بل كان يحاورهم بالحسنى، لأنه كان لا يستهدف قتل الناس، بل يستهدف هدايتهم وإرشادهم، لأن هؤلاء كان الله قد أعمى عيونهم وقلوبهم، فعبدوا الله من دون علم، لأن أفكارهم كانت مغلقة، كالكثيرين ممن نعايشهم، الذين يعيشون العصبية لأفكارهم، فلم ينفتحوا على حوار أو مناقشة، بل أكثر من ذلك، دفعهم تعصبهم إلى التخطيط لاغتيال عليّ (ع) وهو في المسجد، وجاء اللعين ابن ملجم، فكمن له واغتاله، وكانت كلمة عليّ (ع) كلمة الحق والفرح، السيف يفلق رأسه وهو يقول: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربّ الكعبة"..

لقد عبّر عليّ (ع) عن فرحه لأنه درس كل حياته منذ أن ولد في الكعبة ومنذ أن جعل كل مسار حياته مسجداً، وانتهت حياته في المسجد، ولد في بيت الله وفي لطف الله، واستشهد وهو في بيت الله وفي لطفه. ولذلك فإن عليّاً(ع)، هو الإنسان العظيم الذي لا تستطيع من خلال كل هذا النور الذي ينبثق منه؛ نور العقل والروح والعبادة والجهاد والإخلاص لله، إلا أن تعتبره القمة في كل شيء، والعصمة في كل شيء، إن علياً (ع) هو الإنسان الذي لا تجد في كل صحابة رسول الله مثله ـ مع كل احترامنا للصحابة ـ ولذلك كان هو المؤهّل ليكمل الرسالة.

التأسّـي بـه

لقد كان عليّ (ع) الإنسان الذي أعطى كل نفسه لله، وإذا أردنا في يوم ذكرى مصرعه أن نكون معه، فإن عليّاً (ع) يقول: "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ـ ورع عن الحرام واجتهاد في طاعة الله ـ وعفّة وسداد". إنه يدعونا إلى أن نكمل المسيرة التي بدأها مع رسول الله(ص)، لنحفظ الإسلام والمسلمين، ونواجه كل التحديات والمتغيرات. هذا هو ما نقدّمه لعليّ(ع)، إنه لا يريد دموعنا وبكاءنا وكلماتنا، إنه يريدنا أن نكون مع الحق لأنه كان مع الحق كله. فإذا أردتم أن تكونوا مع عليّ(ع)، فإن عليكم أن تكونوا مع الحق، لأن من كان مع الباطل لا يقترب من خط عليّ(ع).

سلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً، ونختم بكلمة ذلك الشاعر المسيحي الذي يشعر بروعة عليّ وعظمته، والذي قال إن الإنسان عندما يذكر علياً فإن الكون كله يصغي لكلمة عليّ:

يا سماء اشهدي ويا أرض قري واخشعي إنني ذكرت عليا

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا الموقف كما واجهه رسول الله (ص) وعليّ (ع) أمام التحديات الكبرى التي كانت تواجه الإسلام والمسلمين من خلال كل أعداء الله ورسوله، وقد قال الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، القتال الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، لأن القضية هي أن يعيش المسلمون روحية الأمة وذهنيتها، أن يكونوا أمة واحدة كالجسد الواحد، فعلينا أن ننطلق جميعاً من أجل أن نتحمل مسؤولية الإسلام والمسلمين كلهم. إننا نواجه التحديات الكبرى التي تماثل في خطورتها ما واجهه النبي (ص)، وعلينا أن نكون في مستوى هذه التحديات، وأن نستعدّ لكل هذه التحديات، ونواجه قضايانا بالحذر والوعي والفهم. فماذا هناك؟

الانتفاضة مستمرة...

الشعب الفلسطيني ماضٍ في صموده وجهاده ووعيه لوحدته، لم يتراجع عن خطة التحرير، ولم يتعب من المقاومة، ولم يتنازل عن انتفاضته، مع عقلانية سياسية تعمل للوحدة في خط الهدف، وتتحرك في خط التنوع الذي يغني الوطن ولا يمزقه. وهذا هو سر استمرار هذا الشعب في عملية صنع التاريخ للأمة كلها، لأن فلسطين تختصر المستقبل السياسي للمنطقة كلها...

أما إسرائيل، فهي ماضية في عملية القتل والتدمير والإبادة، والاجتياحات المتكررة، والتشريد للمدنيين، والحصار المطبق على كل مواردهم ومصادر عيشهم، ومصادرة أراضيهم في مشروع الجدار العنصري العازل...

ولا تزال اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية تركِّز على الجانب الأمني في القضية، بالمطالبة بتفكيك البنى التحتية لفصائل الانتفاضة كشرط لتطبيق خريطة الطريق وللبدء بالمفاوضات، في الوقت الذي نعرف أن هذه الخريطة لا تمثل حلاً بل تمثل مشكلة للفلسطينيين، وخصوصاً بعد التعديلات التي اقترحتها إسرائيل ووافقت عليها أمريكا، وبعد التطورات التي وضعت هذه الخطة في براد الموتى...

قضية فلسطين سياسية

إن أمريكا تعرف جيداً أن مشكلة فلسطين ليست أمنية بل هي سياسية، لأن المطلوب أولاً وأخيراًَ الانسحاب من الأراضي المحتلة، ولكن الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية تقضي بأن يعلن المجاهدون الاستسلام لإسرائيل، وأن يعترفوا بأنهم "إرهابيون" في جهادهم، وأن اليهود هم الضحايا، وهذا ما لن يحصل بحسب معرفتنا بالمجاهدين...

ولذلك، فإن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ تعملان على إبعاد فلسطين الشعب والأرض عن دائرة الضوء، لتبقى المسألة تفصيلاً من تفاصيل الحرب على ما يسمونه الإرهاب الفلسطيني، وليبقى الصهاينة في دور الضحية. وهذا هو ما لاحظه الجميع في خطاب الرئيس الأمريكي، الذي لم يشر إلى الاحتلال في فلسطين من قريب أو من بعيد، لأن كلماته التي تتحدث عن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية في خطة تغيير المنطقة، لم تكن جادة بقدر ما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني، بينما منحت كل الحقوق لإسرائيل...

وفي ضوء ذلك، لا بد للفلسطينيين من أن يواجهوا المرحلة بدقة وحذر، ولا سيما بعد تشكيل الحكومة الجديدة التي بدأ التحالف الأمريكي ـ الصهيوني يثير أمامها مسألة القضاء على الانتفاضة كبادرة حسن سلوك، بقصد إيجاد حال من الفتنة الداخلية التي تحقق للعدو الانتصار في السلم بما لم يحصل عليه في الحرب.

الاحتلال الأمريكي: التنقل بين الأزمات

أما في العراق، فإن المأزق يتّسع أمام الاحتلال بالمستوى الذي بدأت فيه الحرب المتحركة ضد جنوده وجنود التحالف معه، كما أننا نلاحظ كيف ارتبكت الإدارة الأمريكية في طريقة إدارتها للوضع الأمني والسياسي والاقتصادي في العراق، بين نقد للقائمين على مجلس الحكم الانتقالي تارةً، بعنوان أنهم دون المستوى في الإخلاص لمسؤولياتهم ودعوتهم إلى المزيد من الفاعلية في تنفيذ مهماتهم، واقتراحات جديدة في تحقيق التجربة الأفغانية في العراق، وحديث عن السرعة في تسليم الحكم للعراقيين...

إن الأوضاع الصعبة التي تحيط بجنود الاحتلال، جعلت قيادتهم السياسية والأمنية تنتقل من أزمة إلى أزمة في متاهات الظروف المتعددة الصعبة، في عملية هروب من مواجهة الواقع باتهام الدول المجاورة كسوريا وإيران، ومطالبتها بأن تكون حرساً على حدودها للقوات المحتلة، تحت تأثير التهديد بالعقوبات، كما حدث في قانون محاسبة سوريا الذي بدا كما لو كانت أمريكا تفرض مصالحها على المصالح السورية السياسية والاقتصادية، في دعوة إلى الخضوع المطلق لمساعدة الاحتلال في احتلاله في فلسطين والعراق، وكما حدث في مهاجمة الإدارة الأمريكية لوكالة الطاقة الذرية التي برّأت إيران من تهمة إنتاج السلاح النووي، تماماً كما فعلت في موقفها من تقرير الوكالة قبل الحرب على العراق...

ويبقى للشعب العراقي أن يدرس مرحلته والظروف الصعبة القاسية المحيطة به، والتجربة التي عاش ولا يزال يعيش في داخلها، وأن يؤكد بوعي مشوب بالحذر لقوات الاحتلال، أن النظام الطاغي قد سقط إلى غير رجعة وأصبح من الماضي، والمطلوب هو أن يمارس الشعب في العراق حريته في تقرير مصيره، وإدارة أموره، وتنمية اقتصاده، وتوحيد جهوده، وإعمار بلاده، لا أن تكون هذه الأمور من مسؤولية المحتل الذي لن يعطي العراقيين إلا الفتات والهوامش، لتبقى للشركات الاحتكارية حصة الأسد... إن المرحلة بحاجة إلى المزيد من التدقيق في المتغيرات الداخلية والخارجية بوعي وحذر شديدين.

تفجيرات الرياض جريمة

وفي جانب آخر، فإن التفجيرات التي حدثت في الرياض في السعودية، وحصدت الكثير من الأبرياء من الأطفال والنساء من المدنيين الذين سافروا إلى تلك البلاد للبحث عن فرص العيش الكريم... إننا نعتبر هذه التفجيرات في مستوى الجريمة الكبرى التي يرفضها العقل والدين والحضارة، كما أن ذلك لا يحقق أي هدف وطني أو إسلامي، بل يبقى في دائرة تشويه صورة الأمة في دينها وامتداداتها الإنسانية.

ملف الأسرى: مراوغات صهيونية

وتبقى مسألة الأسرى في العملية التبادلية تتحرك في خطة المراوغة والمناورة اللاإنسانية الصهيونية، من خلال محاولة تحقيق أكثر من مكسب سياسي داخلي أو خارجي بحجة رفض إطلاق الأسرى الذين قتلوا إسرائيليين.. ولكننا ـ أمام هذا المنطق ـ نسأل اليهود: كيف يطالبون بإطلاق الطيار الإسرائيلي الذي أُسر في لبنان وقد كان يرمي القذائف القاتلة على المدنيين الأبرياء، فهل يقبلون من اللبنانيين أن يرفضوا إطلاقه ـ في حال كان موجوداً في قبضتهم ـ لأن يديه ملطختان بدماء أبنائهم، أم أن الدم اللبناني والفلسطيني والعربي لا قيمة له أمام الدم الصهيوني؟!

إن الموقف بحاجة إلى صبر وصمود، لأن القضية لا تخلو من التعقيد في الدائرة الصهيونية، كما هي في الدائرة اللبنانية، ولكن لا بد من أن تكون النتائج الإيجابية لصالح إطلاق الأسرى، فما ضاع حق وراءه مطالب.

لبنان: غرق في الحسابات الشخصية

أما في الداخل اللبناني، فهناك الغرق والاستغراق في الحسابات الشخصية التي قد تأخذ بعض العناوين الوطنية، كما تتحرك الاتهامات من موقع مسؤول إلى موقع مسؤول آخر بما قد يصل إلى مستوى التخوين، ولا سيما عندما يتحدث الجميع عن الهدر والفساد الإداري والاقتصادي الناتج من الفساد السياسي... وتأتي التسويات فتغلق كلّ الملفات، في حديث تبريري تفسيري للقانون بأن القضاء لا صلاحية له في ذلك، وأن المسألة ـ وخصوصاً في محاكمة الرؤساء والوزراء ـ بحاجة إلى دراسة عميقة وجولات سياسية لدى النواب والوزراء، واستهلاك للكلمات الضائعة التي يطلقها كل فريق سلباً أو إيجاباً لمصلحة فريقه...

كل ذلك والشعب يجوع ويظمأ ويدخل مرحلة الضياع، في حاضر لا يرى فيه ملامح المستقبل الجديد الواعد، والمنطقة تنتقل من ضغوط إلى ضغوط ومن اهتزاز إلى اهتزاز، والأمريكيون يدخلون على خط لبنان في محاسبة سوريا، واللبنانيون مشغولون بتسجيل النقاط السياسية والمالية، ولا وقت لديهم لمتابعة نذر الخطر في قضايا المصير.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير