في رحاب شهر الرحمة: لنقوي إيماننا والتزامنا وعملنا وإنسانيتنا

1 رمضان 1425هـ
 لنقوي إيماننا والتزامنا وعملنا وإنسانيتنا
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الشهور تتصل بالنظام الكوني

في هذا اليوم، يوم الجمعة، نلتقي بشهر رمضان المبارك، وإذا كان الفقهاء في العالم الإسلامي ـ من السنّة والشيعة ـ يختلفون حول بداية الشهر، فإن ذلك ينطلق من خلال خطين اجتهاديين في مسألة بدايات الشهور ونهاياتها، فالخط الاجتهادي المعروف بين المسلمين في معرفة بداية الشهر هو الرؤية، حتى إن بعض الفقهاء يقولون إنه لا بد من الرؤية البصرية المجرّدة، فلو رآه الناس بواسطة المناظير المكبّرة كـ"التليسكوب" أو ما شابهها، فلا اعتبار في ذلك، وهذا رأي موجود متحرك لدى كثير من الاجتهادات الإسلامية ـ السنّية والشيعية معاً ـ ولهذا تختلف الرؤية في مختلف البلدان، كما إن هناك اختلافاً في الوثاقة وعدم الوثاقة، فمثلاً أمس، كان هناك دعوى رؤية في البحرين من حوالي خمسة وعشرين شخصاً، وهناك دعوى رؤية في السعودية من حوالي عشرين شخصاً، وكذلك في لبنان، ولكن بعض المراجع لم يقتنع بذلك، ولذا أعلنوا أن أول أيام شهر رمضان هو السبت.

أما رأْينا الذي أعلنّاه منذ أكثر من عشر سنوات، فهو اعتبار مسألة الشهر مسألة تتصل بالنظام الكوني الذي وضعه الله تعالى للزمن، فكما قضية طلوع الشمس وغروبها خاضعة لنظام الزمن، رآها الناس أو لم يروها، كذلك بالنسبة للقمر، فإن الشهر القمري ينتهي عندما يدخل القمر في المحاق ـ في دائرة الظلام ـ وهي مرحلة الاقتران، بحيث يكون بمستوى واحد مع الشمس ومع الأرض فلا يُرى، فإذا خرج من فترة المحاق وبدأ يختزن الضوء، عند ذلك يبدأ الشهر، وهذا النظام كان موجوداً قبل وجود الإنسان، يقول تعالى: {إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض}. والمعروف أن الفلك أصبح علماً لا يخطئ، بحيث يخضع لقواعد معينة يستطيع من خلالها العلماء المتخصصون تحديد أوائل الشهور إلى ما بعد خمسين سنة، وهذا ما تلاحظونه في الكسوف، بحيث يحدّدون الكسوف حتى ما بعد مائة سنة، وهو ما رأيناه في الكسوف الأخير الذي كانوا يتحدثون عنه منذ مطلع القرن.

وقضية الرؤية هي قضية مرتبطة بكونها وسيلة من وسائل المعرفة، ولذلك، إذا أخبرنا علماء الفلك المتخصصون بأن القمر قد خرج من المحاق وبدأ يختزن الضوء، فإن الشهر يكون قد بدأ. وقد دعَوْنا علماء المسلمين في العالم الإسلامي إلى الأخذ بالحسابات الفلكية الدقيقة التي لا يختلف علماء الفلك فيها، ونحن نتصل بمختلف علماء الفلك في العالم ونطَّلع على بعض الآراء من خلال الإنترنت، وعلى هذا الأساس نحكم بالموضوع قبل أن يأتي شهر رمضان أو شوّال، حتى يستعد الناس، وإن كان البعض لا يعجبهم ذلك.

ولست في مقام الجدل حول أي من الخطين أفضل، ولكن هذا الخط هو الذي يمكن أن يوحِّد المسلمين في العالم، ومن المفارقات أن بداية شهر شعبان اختلف الناس فيه بين الأربعاء والخميس والجمعة، واعتماد الآراء المتعددة في هذا المجال يوقع الناس في كثير من المشاكل. وهناك كثير من الناس يتّخذون من الاختلاف في أوائل الشهور أو نهاياتها طريقاً إلى العصبيات، ويبدأون بتوجيه الاتهامات، وهذا نوع من التخلّف، فإذا كنا واعين وكنا في موقع التقدّم، فلا ينبغي أن يكون هذا الاختلاف سبباً للعصبية والخلاف.

تحسين الخُلُق

ونبقى مع خطبة النبي(ص) التي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان. في هذه الخطبة، تحدَّث النبي(ص) ـ كما ذكرنا في الأسبوع الماضي ـ عن الجوانب الروحية والعبادية وبعض الجوانب الاجتماعية، وفي بقية هذه الخطبة، يتحدَّث النبي(ص) عن الجانب الإنساني في علاقة الإنسان بالناس الآخرين في هذا الشهر، كأنه(ص) يقول: إن عليك أن تكون إنساناًَ تحترم إنسانية الآخر، فتتعامل معه ـ سواء كان الآخر عائلتك أو جارك، أو عاملاً أو موظفاً عندك وما إلى ذلك ـ في هذا الشهر تعاملاً إنسانياً، بحيث تحترم إنسانيته، فلا تحاول أن تقسو عليه أو تعنف معه أو تقهره أو تقوم بإذلاله، بأن تثقل عليه المسؤوليات التي تحمّله إياها، بل حاول أن تتعامل معه بالخلق الحسن، وفي هذا يرفع الله تعالى موقعك فيكتب لك النجاة في المصير يوم القيامة.

يقول(ص): "أيها الناس، من حسّن في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزلُّ فيه الأقدام"، والصراط هو الطريق التي يعبرها الناس إلى ساحة القيامة، وكثير من الناس لا يستطيعون أن يجتازوه، فإذا أراد الإنسان أن يجتاز الصراط ويتحرك عليه بكل حرية من دون أن يقع أو يتأخر، فعليه أن يحسّن خلقه في هذا الشهر، لأن جائزة حسن الخلق هو هذا الجواز الذي يمنحه الله للإنسان، وهذا كناية عن النجاة من غضب الله وسخطه. وهذا يعطينا فكرة كم لحسن الخلق من قيمة أخلاقية وروحية في الإسلام، حتى إنه ورد في بعض الأحاديث: "إن الخلق الحسن يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيّىء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل"، وأن الإنسان قد يكون له خلق حسن ولكن عمله قليل "فيبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، فالله تعالى يهتم بأن يعيش الإنسان مع الناس بالأخلاق الحسنة، سواء في بيته الأبوي أو في بيته العائلي، أو مع الناس الذين يتعامل معهم في كل مواقع العمل في الحياة، وقد جعل الرسول(ص) القاعدة للخلق الحسن وربطها بالإيمان في قوله (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها"، وقد ورد عن عليّ (ع): "يا بني، إجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها".

كفّ الشر عن الآخرين

ويكمل النبي (ص): "ومن خفّف فيه عما ملكت يمينه، خفف الله حسابه ـ أن يخفِّف عليه دوام عمله مثلاً، لأن ثقل الصوم على الإنسان، ربما يمنعه من الاستمرار في العمل بالمستوى نفسه الذي كان عليه قبل شهر رمضان، وملك اليمين كان سائداً في السابق، وهو غير موجود اليوم، أما اليوم، فهو ممّن تملك عمله وواقع تحت مسؤوليتك، كالموظف أو العامل، فعليك أن تخفِّف عنه هذه المسؤوليات بمقدارٍ يجعله يرتاح في صيامه، وجائزة ذلك أن الله تعالى يخفف عنك الحساب يوم يقوم الناس لربّ العالمين ـ ومن كفّ فيه شره كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه ـ فعلى الإنسان في شهر رمضان، أن يكون الناس في سلام معه، فتكون علاقته معهم هي علاقة السلام، فلا يصدر منه أي كلام أو عمل يسيء إليهم، وأول من يجب أن يكفّ الإنسان عنه شره عياله، خلافاً لبعض الناس الذي يدخل إلى البيت وقت الظهر ويبدأ بالصياح والضرب بحجة أنه صائم!! فعندما يفجّر الإنسان غضبه بالناس الآخرين، عليه أن يتذكّر غضب الله، لأن الله ينتصر للمظلوم في الدنيا والآخرة.

صلة الرّحم وإكرام اليتيم

ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه ـ فالله تعالى أراد للأرحام أن تتواصل، والمطلوب من الإنسان، مهما أمكنه، أن يصل حتى الرحم القاطع، وقد جاء شخص إلى الإمام الصادق(ع) يشكو بني عمه الذين أبوا إلا القطيعة لرحمه، ويسأله هل يقطعهم، فقال(ع): "إن قطعتهم قطعكم الله، وإن وصلتهم وصلكم الله". وأي جائزة أعظم من أن يعطيك الله ثواب ذلك رحمته يوم القيامة وأنت بحاجة إلى رحمته.

ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه"، ورعاية الأيتام تكون بمختلف أنواع الرعاية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال المبرات التي تكفل الأيتام وترعاهم وتعلّمهم، والثواب على ذلك هو أن الله سوف يكرمك يوم القيامة جزاءً لإكرامك هذا اليتيم.

ثم يأتي النبي(ص) إلى الجانب العبادي، ففي هذا الشهر، لا بدّ للإنسان أن يقوّي عنصر العبادة فيه، لأن ذلك هو الذي يقرّبه إلى الله ويفتح له أبواب الخير، يقول(ص): "ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن كثّر فيه من الصلاة ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين ـ وفي رواية أنه من كثّر فيه من الصلاة على النبي (ص)، وهناك رواية تتحدث عن الصلاة المستحبّة والنوافل ـ ومن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور ـ والقراءة لا بد أن تكون قراءة وعي وتدبّر ـ. ألا إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم ـ بمعاصيكم ـ وأبواب النيران مغلّقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلّطها عليكم".

إن شهر رمضان هو شهر المغفرة والرحمة والبركة، والشقي من حُرم غفران الله فيه، وعلينا أن ننتهز هذه الفرصة لنقوّي إيماننا والتزامنا وعملنا وإنسانيتنا، لأن الله تعالى أراد شهر رمضان شهراً يُكسبنا التقوى في كل الشهور.
الخطبة الثانية
 
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا مسؤوليّاتكم بالانفتاح على طاعة الله في كل ما أمركم به وفي كل ما نهاكم عنه، مما يتّصل بحياتكم الفردية أو العائلية أو الاجتماعية أو الإسلامية في كلِّ مواقع المسلمين في العالم، ليكون المسلمون أمة واحدةً تقاتل في سبيل الله قتالاً سياسياً وأمنياً وثقافياً وعسكرياً كالبنيان المرصوص، ولنواجه كلَّ التحديات التي تصيب المسلمين أمام المستكبرين. وهذا ما نواجهه، حيث نجد أنه في كل صباح ومساء يُقتل أطفال المسلمين ورجالهم ونساؤهم وشيوخهم، والعالم ـ حتى العالم الإسلامي ـ يتفرّج. لذلك، علينا أن لا نعيش الأنانيات الشخصية والعشائرية والقومية، لأن الله أراد لنا أن نكون كالجسد الواحد، فتعالوا نعرف ماذا هناك في الواقع الإسلامي العام:

فلسطين: جرائم صهيونية وحشية

أيّ جيش هو هذا الجيش الصهيوني الذي يقتل جندي فيه بشكل متعمّد الطفلة ذات التسع سنوات، ثم يأتي ضابطه المسؤول ليفرغ في جسدها الطريّ عشرين رصاصة بعد موتها، ثم يتقدّم جندي آخر ليطلق الرصاص بشكل مباشر على مدرسة الأونروا التابعة للأمم المتحدة، فيقتل طفلة العشر سنوات وهي على مقاعد الدراسة، ويجرح أطفالاً آخرين!!

ويتابع هذا الجيش عملية الإبادة التي أدّت إلى قتل حوالي 110 من الفلسطينيين ـ في الأسبوعين الماضيين ـ وجرح المئات منهم، وتدمير البيوت وتشريد أهلها، حتى إن بعض ضباط هذا الجيش طلبوا التوقّف عن ذلك، نظراً للوحشية التي يمثلها جنودهم بأمر الجزّار شارون.. ولكن أمريكا تعتبر ذلك دفاعاً عن النفس، تماماً كما هو أسلوبها في قتل المدنيين ـ بما فيهم الأطفال ـ في العراق بحجة محاربة الإرهاب...

أما العالم، والعالم العربي والإسلامي بالذات، فإنه يتفرّج على المذبحة في جباليا وفي بقية المناطق ولا يفعل شيئاً، تماماً كما لو كان قد اعتاد على هذا المشهد الوحشي، فلا يتحرك فيه أيّ شيء، بل إنه لا يريد أن يتحمّل أية مسؤولية قد تغضب منها أمريكا وإسرائيل..

إن ما يجري في فلسطين هو جريمة إنسانية كبرى تشترك فيها كلُّ الدول الصامتة والمشجِّعة، بما فيها الدول العربية والإسلامية الخائفة من الهراوة السياسية الأمريكية التي ترفع شعار "الحرب ضد الإرهاب"، لتتهم كل دولة معارضة بالإرهاب أو بدعمه أو بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ولو تجرّأت الدول في مجلس الأمن على إدانة إسرائيل، فإنها ترفع عليها سيف الفيتو، كما فعلت في آخر قرار للمجلس يدعو إسرائيل للانسحاب من شمالي غزة، والامتناع عن القتل الوحشي..

مجلس الأمن: التباس في مفهوم الإرهاب

ومن اللافت أن مجلس الأمن أصدر القرار 1566 بشأن التعاون في مكافحة الإرهاب بتصويت إجماعي، وضرورة التصدي للإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره بجميع الوسائل، ولكنه أغفل أمرين حيويين إنسانيين على مستوى قضايا الحرية والاستقلال وحقوق الإنسان، وهما:

أولاً: عدم تحديد مفهوم الإرهاب للتفرقة بين العنف الذي يمارسه الإرهابيون ضد المدنيين والمؤسسات الإنسانية والمدنية، وبين المقاومة التي تتحرك من أجل الدفاع عن أرضها واستقلالها وحريتها، كما يحدث في فلسطين وفي كلِّ بلد محتل، الأمر الذي أدّى إلى إصدار أمريكا، ومعها الاتحاد الأوروبي، قراراً باعتبار حركة حماس من المنظمات الإرهابية، في الوقت الذي يعرف الجميع أن مقاومة حماس والفصائل الفلسطينية المجاهدة الأخرى كانت ردّ فعل للاحتلال، كما أن لجوءها إلى بعض الأساليب في مقاومتها كان بفعل الاضطرار لمواجهة كل الأسلحة الأمريكية الموجَّهة ضد الشعب الفلسطيني كله، في عملية الإبادة للبشر والبيوت والمزارع، إضافةً إلى الحصار الاقتصادي الخانق، مما لا يملكون لـه دفعاً أو ضغطاً إلا بهذه الطريقة..

ثانياً: إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل وأمريكا في المناطق المحتلة، إضافة إلى الأنظمة الدكتاتورية المدعومة من أمريكا..

إن المشكلة هي أن مجلس الأمن الدولي تحوّل إلى موقع للضغط على شعوب العالم الثالث، بفعل السيطرة الأمريكية المطلقة عليه، وهيمنة حق الفيتو للدول الدائمة العضوية فيه في مواجهة أيّ قرار للانتصار لحقوق الشعوب، ولم يعد ـ بفعل هذه الضغوط ـ موقعاً لحماية الشعوب، بل تحوّل إلى حائط مبكى لاستنزاف الشكاوى واستدرار الدموع.

العراق في قلب الدوّامة الأمريكية

أما العراق، فلا يزال يعيش في قلب الدوامة الأمنية الأمريكية، بفعل الاحتلال الذي يقتل المدنيين بما فيهم الأطفال، باسم الاستخبارات التي تكشف الإرهاب، في الوقت الذي يشهد شهود العيان بأن الأماكن المقصوفة هي لمدنيين، الأمر الذي جعل من الاحتلال مشكلة للعراقيين لا حلاً لهم، ولذا لم يستطع منع الاغتيالات المتحركة تحت عناوين طائفية أو شخصية، كما لم يتمكّن من منع عمليات الخطف والذبح للمخطوفين تحت عناوين مختلفة، وأصبحت القضية عنده كيف يدافع عن جنوده لا عن العراقيين..

إننا نتألّم للواقع العراقي الجريح، ونريد لهذا الشعب المظلوم أن يواجه الموقف بوعي وصمود ووحدة وإخلاص، وأن يقلّع شوكه بيديه.. وحذار من الفكرة الخاطئة بأن الاحتلال هو الذي يحرر البلد، وينشر فيه العدالة، ويؤكد حقوق الإنسان، وأن انسحابه سوف يحوّل العراق إلى ساحة للحرب الأهلية بفعل الفوضى الدينية والعرقية والمذهبية!!

إن على العراقيين أن يثقوا بأنفسهم وبتاريخهم وامتدادهم الحضاري، وقدرتهم على إدارة بلادهم بأنفسهم بكفاءة وتركيز، بفعل القدرات العلمية والإدارية التي يملكونها.. وليكن شعار الوحدة الإسلامية والوطنية هو شعار العراقيين للحاضر والمستقبل، فإنها قاعدة الخلاص للشعب كله.. وإذا كانت أمريكا تتحدث عن محاربة الإرهاب في العراق، فإن رئيس المفتشين الدوليين صرّح بأن الاحتلال الأمريكي للعراق بفعل الكذبة الكبرى حول أسلحة الدمار الشامل، هو الذي أعطى الإرهاب امتداده في العالم من جديد.

باكستان: نستنكر العقلية التكفيرية

ومن جهة أخرى، فقد تجدّدت في باكستان ـ في مدينة لاهور ـ المجزرة الوحشية ضد المصلّين في مسجد للمسلمين الشيعة أثناء صلاة العشاء، ولولا لطف الله وتضحية الحارسَين اللذين استشهدا في مقاومتهما للمهاجم الانتحاري، لكانت هناك مجزرة كبرى..

إننا نستنكر بشدة هذه العقلية التكفيرية المتعصّبة الجاهلة المتخلّفة في فهم الإسلام، وندعو علماء المسلمين في العالم إلى استنكار ذلك، لما لـه من تأثير سلبي على وحدة المسلمين في مرحلة مواجهتهم للاستكبار العالمي، عدوّ الإسلام والمسلمين.. ونريد للقائمين على الحكم في باكستان مواجهة هذه الأمور بالطريقة الحاسمة التي تمنع ذلك..

ونؤكد في الوقت نفسه الامتناع عن القيام بأيّ ردِّ فعل يجعل هذا الواقع المأساوي يتواصل في مسلسل إجرامي متحرك، وخصوصاً أن باكستان ـ الشعب والدولة ـ تتعرّض لأكثر من هجمة سياسية وأمنية من الداخل والخارج.

لبنان: الحاجة إلى خطة إنقاذية

أما في لبنان الذي يتحدث فيه أكثر من مسؤول في دائرة الكهرباء عن أن الأزمة سوف تتفاقم، وأن لا حلّ لها حتى لو كانت الجباية كاملة، فإنه لا يزال يتحرك في دائرة النقاش حول الحكومة القادمة ومناخاتها وتشكيلها ومن يتمثّل فيها..

إن ما يريده اللبنانيون هو قيام حكومة قادرة على حل المعضلة الاقتصادية، وأن تكون على مستوى التحدي الداخلي والخارجي في ظل التهديدات الأمريكية والإسرائيلية المتصاعدة ضد لبنان وسوريا، وأن تتحرك سريعاً لوضع برنامج إنقاذي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لا أن يستمرّ الجدل حول الأسماء والأحزاب من دون أن يتركّز على تغيير الذهنية..

ربما نحتاج إلى طرح فكرة حيوية، وهي أن البلد قد جرّب في تاريخه الحكومات السياسية التي فشلت في إنقاذه، بل إنها ـ بسبب وبآخر ـ أدخلته في مشاكل معقّدة من الناحية الاقتصادية والسياسية والأمنية، فلماذا لا نجرّب حكومة الاختصاصيين الذين يملكون نظافة الكف ـ بحسب التجربة ـ وعمق الخبرة، واستقامة العمل، فلعلّهم يمنحون البلد حلولاً واقعية جديدة لمشاكله التاريخية المعقّدة المستعصية..

إن البلد بحاجة إلى خطة إنقاذية كبرى على المستويين الاقتصادي والسياسي، إضافةً إلى تحصينه على المستوى الأمني، فهل مَن يتحرّك للإنقاذ، أم أن الدولة تظل تراوح مكانها، على طريقة قول الشاعر:

كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الشهور تتصل بالنظام الكوني

في هذا اليوم، يوم الجمعة، نلتقي بشهر رمضان المبارك، وإذا كان الفقهاء في العالم الإسلامي ـ من السنّة والشيعة ـ يختلفون حول بداية الشهر، فإن ذلك ينطلق من خلال خطين اجتهاديين في مسألة بدايات الشهور ونهاياتها، فالخط الاجتهادي المعروف بين المسلمين في معرفة بداية الشهر هو الرؤية، حتى إن بعض الفقهاء يقولون إنه لا بد من الرؤية البصرية المجرّدة، فلو رآه الناس بواسطة المناظير المكبّرة كـ"التليسكوب" أو ما شابهها، فلا اعتبار في ذلك، وهذا رأي موجود متحرك لدى كثير من الاجتهادات الإسلامية ـ السنّية والشيعية معاً ـ ولهذا تختلف الرؤية في مختلف البلدان، كما إن هناك اختلافاً في الوثاقة وعدم الوثاقة، فمثلاً أمس، كان هناك دعوى رؤية في البحرين من حوالي خمسة وعشرين شخصاً، وهناك دعوى رؤية في السعودية من حوالي عشرين شخصاً، وكذلك في لبنان، ولكن بعض المراجع لم يقتنع بذلك، ولذا أعلنوا أن أول أيام شهر رمضان هو السبت.

أما رأْينا الذي أعلنّاه منذ أكثر من عشر سنوات، فهو اعتبار مسألة الشهر مسألة تتصل بالنظام الكوني الذي وضعه الله تعالى للزمن، فكما قضية طلوع الشمس وغروبها خاضعة لنظام الزمن، رآها الناس أو لم يروها، كذلك بالنسبة للقمر، فإن الشهر القمري ينتهي عندما يدخل القمر في المحاق ـ في دائرة الظلام ـ وهي مرحلة الاقتران، بحيث يكون بمستوى واحد مع الشمس ومع الأرض فلا يُرى، فإذا خرج من فترة المحاق وبدأ يختزن الضوء، عند ذلك يبدأ الشهر، وهذا النظام كان موجوداً قبل وجود الإنسان، يقول تعالى: {إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض}. والمعروف أن الفلك أصبح علماً لا يخطئ، بحيث يخضع لقواعد معينة يستطيع من خلالها العلماء المتخصصون تحديد أوائل الشهور إلى ما بعد خمسين سنة، وهذا ما تلاحظونه في الكسوف، بحيث يحدّدون الكسوف حتى ما بعد مائة سنة، وهو ما رأيناه في الكسوف الأخير الذي كانوا يتحدثون عنه منذ مطلع القرن.

وقضية الرؤية هي قضية مرتبطة بكونها وسيلة من وسائل المعرفة، ولذلك، إذا أخبرنا علماء الفلك المتخصصون بأن القمر قد خرج من المحاق وبدأ يختزن الضوء، فإن الشهر يكون قد بدأ. وقد دعَوْنا علماء المسلمين في العالم الإسلامي إلى الأخذ بالحسابات الفلكية الدقيقة التي لا يختلف علماء الفلك فيها، ونحن نتصل بمختلف علماء الفلك في العالم ونطَّلع على بعض الآراء من خلال الإنترنت، وعلى هذا الأساس نحكم بالموضوع قبل أن يأتي شهر رمضان أو شوّال، حتى يستعد الناس، وإن كان البعض لا يعجبهم ذلك.

ولست في مقام الجدل حول أي من الخطين أفضل، ولكن هذا الخط هو الذي يمكن أن يوحِّد المسلمين في العالم، ومن المفارقات أن بداية شهر شعبان اختلف الناس فيه بين الأربعاء والخميس والجمعة، واعتماد الآراء المتعددة في هذا المجال يوقع الناس في كثير من المشاكل. وهناك كثير من الناس يتّخذون من الاختلاف في أوائل الشهور أو نهاياتها طريقاً إلى العصبيات، ويبدأون بتوجيه الاتهامات، وهذا نوع من التخلّف، فإذا كنا واعين وكنا في موقع التقدّم، فلا ينبغي أن يكون هذا الاختلاف سبباً للعصبية والخلاف.

تحسين الخُلُق

ونبقى مع خطبة النبي(ص) التي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان. في هذه الخطبة، تحدَّث النبي(ص) ـ كما ذكرنا في الأسبوع الماضي ـ عن الجوانب الروحية والعبادية وبعض الجوانب الاجتماعية، وفي بقية هذه الخطبة، يتحدَّث النبي(ص) عن الجانب الإنساني في علاقة الإنسان بالناس الآخرين في هذا الشهر، كأنه(ص) يقول: إن عليك أن تكون إنساناًَ تحترم إنسانية الآخر، فتتعامل معه ـ سواء كان الآخر عائلتك أو جارك، أو عاملاً أو موظفاً عندك وما إلى ذلك ـ في هذا الشهر تعاملاً إنسانياً، بحيث تحترم إنسانيته، فلا تحاول أن تقسو عليه أو تعنف معه أو تقهره أو تقوم بإذلاله، بأن تثقل عليه المسؤوليات التي تحمّله إياها، بل حاول أن تتعامل معه بالخلق الحسن، وفي هذا يرفع الله تعالى موقعك فيكتب لك النجاة في المصير يوم القيامة.

يقول(ص): "أيها الناس، من حسّن في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزلُّ فيه الأقدام"، والصراط هو الطريق التي يعبرها الناس إلى ساحة القيامة، وكثير من الناس لا يستطيعون أن يجتازوه، فإذا أراد الإنسان أن يجتاز الصراط ويتحرك عليه بكل حرية من دون أن يقع أو يتأخر، فعليه أن يحسّن خلقه في هذا الشهر، لأن جائزة حسن الخلق هو هذا الجواز الذي يمنحه الله للإنسان، وهذا كناية عن النجاة من غضب الله وسخطه. وهذا يعطينا فكرة كم لحسن الخلق من قيمة أخلاقية وروحية في الإسلام، حتى إنه ورد في بعض الأحاديث: "إن الخلق الحسن يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيّىء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل"، وأن الإنسان قد يكون له خلق حسن ولكن عمله قليل "فيبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، فالله تعالى يهتم بأن يعيش الإنسان مع الناس بالأخلاق الحسنة، سواء في بيته الأبوي أو في بيته العائلي، أو مع الناس الذين يتعامل معهم في كل مواقع العمل في الحياة، وقد جعل الرسول(ص) القاعدة للخلق الحسن وربطها بالإيمان في قوله (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها"، وقد ورد عن عليّ (ع): "يا بني، إجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها".

كفّ الشر عن الآخرين

ويكمل النبي (ص): "ومن خفّف فيه عما ملكت يمينه، خفف الله حسابه ـ أن يخفِّف عليه دوام عمله مثلاً، لأن ثقل الصوم على الإنسان، ربما يمنعه من الاستمرار في العمل بالمستوى نفسه الذي كان عليه قبل شهر رمضان، وملك اليمين كان سائداً في السابق، وهو غير موجود اليوم، أما اليوم، فهو ممّن تملك عمله وواقع تحت مسؤوليتك، كالموظف أو العامل، فعليك أن تخفِّف عنه هذه المسؤوليات بمقدارٍ يجعله يرتاح في صيامه، وجائزة ذلك أن الله تعالى يخفف عنك الحساب يوم يقوم الناس لربّ العالمين ـ ومن كفّ فيه شره كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه ـ فعلى الإنسان في شهر رمضان، أن يكون الناس في سلام معه، فتكون علاقته معهم هي علاقة السلام، فلا يصدر منه أي كلام أو عمل يسيء إليهم، وأول من يجب أن يكفّ الإنسان عنه شره عياله، خلافاً لبعض الناس الذي يدخل إلى البيت وقت الظهر ويبدأ بالصياح والضرب بحجة أنه صائم!! فعندما يفجّر الإنسان غضبه بالناس الآخرين، عليه أن يتذكّر غضب الله، لأن الله ينتصر للمظلوم في الدنيا والآخرة.

صلة الرّحم وإكرام اليتيم

ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه ـ فالله تعالى أراد للأرحام أن تتواصل، والمطلوب من الإنسان، مهما أمكنه، أن يصل حتى الرحم القاطع، وقد جاء شخص إلى الإمام الصادق(ع) يشكو بني عمه الذين أبوا إلا القطيعة لرحمه، ويسأله هل يقطعهم، فقال(ع): "إن قطعتهم قطعكم الله، وإن وصلتهم وصلكم الله". وأي جائزة أعظم من أن يعطيك الله ثواب ذلك رحمته يوم القيامة وأنت بحاجة إلى رحمته.

ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه"، ورعاية الأيتام تكون بمختلف أنواع الرعاية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال المبرات التي تكفل الأيتام وترعاهم وتعلّمهم، والثواب على ذلك هو أن الله سوف يكرمك يوم القيامة جزاءً لإكرامك هذا اليتيم.

ثم يأتي النبي(ص) إلى الجانب العبادي، ففي هذا الشهر، لا بدّ للإنسان أن يقوّي عنصر العبادة فيه، لأن ذلك هو الذي يقرّبه إلى الله ويفتح له أبواب الخير، يقول(ص): "ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن كثّر فيه من الصلاة ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين ـ وفي رواية أنه من كثّر فيه من الصلاة على النبي (ص)، وهناك رواية تتحدث عن الصلاة المستحبّة والنوافل ـ ومن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور ـ والقراءة لا بد أن تكون قراءة وعي وتدبّر ـ. ألا إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم ـ بمعاصيكم ـ وأبواب النيران مغلّقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلّطها عليكم".

إن شهر رمضان هو شهر المغفرة والرحمة والبركة، والشقي من حُرم غفران الله فيه، وعلينا أن ننتهز هذه الفرصة لنقوّي إيماننا والتزامنا وعملنا وإنسانيتنا، لأن الله تعالى أراد شهر رمضان شهراً يُكسبنا التقوى في كل الشهور.
الخطبة الثانية
 
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا مسؤوليّاتكم بالانفتاح على طاعة الله في كل ما أمركم به وفي كل ما نهاكم عنه، مما يتّصل بحياتكم الفردية أو العائلية أو الاجتماعية أو الإسلامية في كلِّ مواقع المسلمين في العالم، ليكون المسلمون أمة واحدةً تقاتل في سبيل الله قتالاً سياسياً وأمنياً وثقافياً وعسكرياً كالبنيان المرصوص، ولنواجه كلَّ التحديات التي تصيب المسلمين أمام المستكبرين. وهذا ما نواجهه، حيث نجد أنه في كل صباح ومساء يُقتل أطفال المسلمين ورجالهم ونساؤهم وشيوخهم، والعالم ـ حتى العالم الإسلامي ـ يتفرّج. لذلك، علينا أن لا نعيش الأنانيات الشخصية والعشائرية والقومية، لأن الله أراد لنا أن نكون كالجسد الواحد، فتعالوا نعرف ماذا هناك في الواقع الإسلامي العام:

فلسطين: جرائم صهيونية وحشية

أيّ جيش هو هذا الجيش الصهيوني الذي يقتل جندي فيه بشكل متعمّد الطفلة ذات التسع سنوات، ثم يأتي ضابطه المسؤول ليفرغ في جسدها الطريّ عشرين رصاصة بعد موتها، ثم يتقدّم جندي آخر ليطلق الرصاص بشكل مباشر على مدرسة الأونروا التابعة للأمم المتحدة، فيقتل طفلة العشر سنوات وهي على مقاعد الدراسة، ويجرح أطفالاً آخرين!!

ويتابع هذا الجيش عملية الإبادة التي أدّت إلى قتل حوالي 110 من الفلسطينيين ـ في الأسبوعين الماضيين ـ وجرح المئات منهم، وتدمير البيوت وتشريد أهلها، حتى إن بعض ضباط هذا الجيش طلبوا التوقّف عن ذلك، نظراً للوحشية التي يمثلها جنودهم بأمر الجزّار شارون.. ولكن أمريكا تعتبر ذلك دفاعاً عن النفس، تماماً كما هو أسلوبها في قتل المدنيين ـ بما فيهم الأطفال ـ في العراق بحجة محاربة الإرهاب...

أما العالم، والعالم العربي والإسلامي بالذات، فإنه يتفرّج على المذبحة في جباليا وفي بقية المناطق ولا يفعل شيئاً، تماماً كما لو كان قد اعتاد على هذا المشهد الوحشي، فلا يتحرك فيه أيّ شيء، بل إنه لا يريد أن يتحمّل أية مسؤولية قد تغضب منها أمريكا وإسرائيل..

إن ما يجري في فلسطين هو جريمة إنسانية كبرى تشترك فيها كلُّ الدول الصامتة والمشجِّعة، بما فيها الدول العربية والإسلامية الخائفة من الهراوة السياسية الأمريكية التي ترفع شعار "الحرب ضد الإرهاب"، لتتهم كل دولة معارضة بالإرهاب أو بدعمه أو بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ولو تجرّأت الدول في مجلس الأمن على إدانة إسرائيل، فإنها ترفع عليها سيف الفيتو، كما فعلت في آخر قرار للمجلس يدعو إسرائيل للانسحاب من شمالي غزة، والامتناع عن القتل الوحشي..

مجلس الأمن: التباس في مفهوم الإرهاب

ومن اللافت أن مجلس الأمن أصدر القرار 1566 بشأن التعاون في مكافحة الإرهاب بتصويت إجماعي، وضرورة التصدي للإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره بجميع الوسائل، ولكنه أغفل أمرين حيويين إنسانيين على مستوى قضايا الحرية والاستقلال وحقوق الإنسان، وهما:

أولاً: عدم تحديد مفهوم الإرهاب للتفرقة بين العنف الذي يمارسه الإرهابيون ضد المدنيين والمؤسسات الإنسانية والمدنية، وبين المقاومة التي تتحرك من أجل الدفاع عن أرضها واستقلالها وحريتها، كما يحدث في فلسطين وفي كلِّ بلد محتل، الأمر الذي أدّى إلى إصدار أمريكا، ومعها الاتحاد الأوروبي، قراراً باعتبار حركة حماس من المنظمات الإرهابية، في الوقت الذي يعرف الجميع أن مقاومة حماس والفصائل الفلسطينية المجاهدة الأخرى كانت ردّ فعل للاحتلال، كما أن لجوءها إلى بعض الأساليب في مقاومتها كان بفعل الاضطرار لمواجهة كل الأسلحة الأمريكية الموجَّهة ضد الشعب الفلسطيني كله، في عملية الإبادة للبشر والبيوت والمزارع، إضافةً إلى الحصار الاقتصادي الخانق، مما لا يملكون لـه دفعاً أو ضغطاً إلا بهذه الطريقة..

ثانياً: إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل وأمريكا في المناطق المحتلة، إضافة إلى الأنظمة الدكتاتورية المدعومة من أمريكا..

إن المشكلة هي أن مجلس الأمن الدولي تحوّل إلى موقع للضغط على شعوب العالم الثالث، بفعل السيطرة الأمريكية المطلقة عليه، وهيمنة حق الفيتو للدول الدائمة العضوية فيه في مواجهة أيّ قرار للانتصار لحقوق الشعوب، ولم يعد ـ بفعل هذه الضغوط ـ موقعاً لحماية الشعوب، بل تحوّل إلى حائط مبكى لاستنزاف الشكاوى واستدرار الدموع.

العراق في قلب الدوّامة الأمريكية

أما العراق، فلا يزال يعيش في قلب الدوامة الأمنية الأمريكية، بفعل الاحتلال الذي يقتل المدنيين بما فيهم الأطفال، باسم الاستخبارات التي تكشف الإرهاب، في الوقت الذي يشهد شهود العيان بأن الأماكن المقصوفة هي لمدنيين، الأمر الذي جعل من الاحتلال مشكلة للعراقيين لا حلاً لهم، ولذا لم يستطع منع الاغتيالات المتحركة تحت عناوين طائفية أو شخصية، كما لم يتمكّن من منع عمليات الخطف والذبح للمخطوفين تحت عناوين مختلفة، وأصبحت القضية عنده كيف يدافع عن جنوده لا عن العراقيين..

إننا نتألّم للواقع العراقي الجريح، ونريد لهذا الشعب المظلوم أن يواجه الموقف بوعي وصمود ووحدة وإخلاص، وأن يقلّع شوكه بيديه.. وحذار من الفكرة الخاطئة بأن الاحتلال هو الذي يحرر البلد، وينشر فيه العدالة، ويؤكد حقوق الإنسان، وأن انسحابه سوف يحوّل العراق إلى ساحة للحرب الأهلية بفعل الفوضى الدينية والعرقية والمذهبية!!

إن على العراقيين أن يثقوا بأنفسهم وبتاريخهم وامتدادهم الحضاري، وقدرتهم على إدارة بلادهم بأنفسهم بكفاءة وتركيز، بفعل القدرات العلمية والإدارية التي يملكونها.. وليكن شعار الوحدة الإسلامية والوطنية هو شعار العراقيين للحاضر والمستقبل، فإنها قاعدة الخلاص للشعب كله.. وإذا كانت أمريكا تتحدث عن محاربة الإرهاب في العراق، فإن رئيس المفتشين الدوليين صرّح بأن الاحتلال الأمريكي للعراق بفعل الكذبة الكبرى حول أسلحة الدمار الشامل، هو الذي أعطى الإرهاب امتداده في العالم من جديد.

باكستان: نستنكر العقلية التكفيرية

ومن جهة أخرى، فقد تجدّدت في باكستان ـ في مدينة لاهور ـ المجزرة الوحشية ضد المصلّين في مسجد للمسلمين الشيعة أثناء صلاة العشاء، ولولا لطف الله وتضحية الحارسَين اللذين استشهدا في مقاومتهما للمهاجم الانتحاري، لكانت هناك مجزرة كبرى..

إننا نستنكر بشدة هذه العقلية التكفيرية المتعصّبة الجاهلة المتخلّفة في فهم الإسلام، وندعو علماء المسلمين في العالم إلى استنكار ذلك، لما لـه من تأثير سلبي على وحدة المسلمين في مرحلة مواجهتهم للاستكبار العالمي، عدوّ الإسلام والمسلمين.. ونريد للقائمين على الحكم في باكستان مواجهة هذه الأمور بالطريقة الحاسمة التي تمنع ذلك..

ونؤكد في الوقت نفسه الامتناع عن القيام بأيّ ردِّ فعل يجعل هذا الواقع المأساوي يتواصل في مسلسل إجرامي متحرك، وخصوصاً أن باكستان ـ الشعب والدولة ـ تتعرّض لأكثر من هجمة سياسية وأمنية من الداخل والخارج.

لبنان: الحاجة إلى خطة إنقاذية

أما في لبنان الذي يتحدث فيه أكثر من مسؤول في دائرة الكهرباء عن أن الأزمة سوف تتفاقم، وأن لا حلّ لها حتى لو كانت الجباية كاملة، فإنه لا يزال يتحرك في دائرة النقاش حول الحكومة القادمة ومناخاتها وتشكيلها ومن يتمثّل فيها..

إن ما يريده اللبنانيون هو قيام حكومة قادرة على حل المعضلة الاقتصادية، وأن تكون على مستوى التحدي الداخلي والخارجي في ظل التهديدات الأمريكية والإسرائيلية المتصاعدة ضد لبنان وسوريا، وأن تتحرك سريعاً لوضع برنامج إنقاذي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لا أن يستمرّ الجدل حول الأسماء والأحزاب من دون أن يتركّز على تغيير الذهنية..

ربما نحتاج إلى طرح فكرة حيوية، وهي أن البلد قد جرّب في تاريخه الحكومات السياسية التي فشلت في إنقاذه، بل إنها ـ بسبب وبآخر ـ أدخلته في مشاكل معقّدة من الناحية الاقتصادية والسياسية والأمنية، فلماذا لا نجرّب حكومة الاختصاصيين الذين يملكون نظافة الكف ـ بحسب التجربة ـ وعمق الخبرة، واستقامة العمل، فلعلّهم يمنحون البلد حلولاً واقعية جديدة لمشاكله التاريخية المعقّدة المستعصية..

إن البلد بحاجة إلى خطة إنقاذية كبرى على المستويين الاقتصادي والسياسي، إضافةً إلى تحصينه على المستوى الأمني، فهل مَن يتحرّك للإنقاذ، أم أن الدولة تظل تراوح مكانها، على طريقة قول الشاعر:

كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء.
اقرأ المزيد
- خطبة الجمعة بالصوت
نسخ النص نُسِخ!
تفسير