رسالةُ الإمامِ الحسنِ إلى معاوية: إثباتُ الحقِّ وإلقاءُ الحجَّة

رسالةُ الإمامِ الحسنِ إلى معاوية: إثباتُ الحقِّ وإلقاءُ الحجَّة

هذا هو نصّ الرسالة التي أرسلها الإمام الحسن (ع) إلى معاوية مع رجلين من أهل الكوفة:

"من الحسن بن عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. سلامٌ عليك، فإنّي أحمد إليك الله الَّذي لا إله إلّا هو".

وأحبُّ أن أقف هنا عند قوله (ع): "سلام عليك"، لأقول إنَّ أسلوب الأئمّة من أهل البيت (ع) هو أسلوب الإسلام، هو أنّك عندما تلتقي مع مسلم، حتى لو كان في أعلى درجات الانحراف، أو تكتب إليه، فإنَّ عليك أن لا تترك التحية (السّلام)، لأنّ قصة السلام ليست قصَّة من تسلّم عليه، وإنّما هي قصّتك أنت الَّذي تعيش روحية السلام مع المسلمين حتى المنحرفين منهم، لأنّك عندما تعطيهم كلمة السلام، فقد تترك هذه الكلمة تأثيرها الإيجابي في وعي هذا الإنسان، فيهتدي بك عندما تفتح الكلمة قلبه فينفتح بها عقله...

ويمضي الإمام الحسن (ع) في رسالته قائلاً: "أمّا بعد، فإنّ الله جلّ جلاله". وهنا أراد أن يربطه بالرسالة وبامتدادها في أهل البيت (ع) ليقيم عليه الحجّة في ذلك، "بعث محمَّداً رحمة للعالمين"، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}[الأنبياء: 107]، "ومنّة للمؤمنين" {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولً}[آل عمران: 164]، "وكافّة للناس أجمعين"، لأنّ الله سبحانه وتعالى قال لرسوله (ص): قلْ للناس {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف: 158].

"لينذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين، فبلّغ رسالات الله، وقام بأمر الله، حتى توفَّاه الله غير مقصِّر ولا وان". فلقد أعطى نفسه كلّها، ومبادراته كلّها، من أجل الرسالة التي تستحقّ ذلك كلّه. "وبعد أن أظهر الله به الحقّ، ومحق به الشِّرك، وخصّ قريشاً به خاصّة، فقال له: وإنّه لذكر لك ولقومك. فلمَّا توفي، تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقّه"، وهذا ما حدث عندما قال المهاجرون والأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، واحتجّوا على أنَّ الخلافة في قريش، "فرأت العرب أنّ القول ما قالت قريش، وأنَّ الحجَّة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمَّد، فأنعمت لهم وسلّمت إليهم، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب"، لأنّهم قالوا بأنّ الخلافة في قريش، وقد قال عليّ (ع): "احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثَّمرة"... "فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها". فالعرب قبلوا منها حجّتها، ولم تقبل قريش منّا حجّتنا. "إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما صرنا آل بيت محمَّد وأولياءه إلى محاجّتهم وطلب النصف منهم"، بأن ينصفونا بما هو الحقّ لنا، "باعدونا، واستولوا بالاجتماع على الخلافة على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الوليّ النصير".

ولا بدّ من الالتفات إلى أنَّ الإمام الحسن (ع) لا يتحدث هنا عن حقّ في الخلافة من خلال القرابة، بل من خلال الشرعية الإسلامية بالنصّ من خلال النبيّ محمّد (ص) المرتكز على أمر الله، وعلى أساس الكفاءة الشاملة التي لا يملكها أحد غير عليّ (ع).

"ولقد كنّا تعجَّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا وسلطان نبيِّنا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام". لكنّ هذا لا يمنع من أنّهم لم يأخذوا بالحقّ، فلقد سبقوا إلى الإسلام، وربّما كانوا قد جاهدوا مع النبيّ (ص)، ولكن الأمور بخواتيمها، والقضيَّة هي قضيَّة العاقبة، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعطي الناس النتائج الحاسمة في البدايات، ولكنّه يعطيها عندما تلتقي النهايات بالبدايات، فالإسلام ليس شيئاً تجزيئياً يمكن أن تأخذ شيئاً منه وتترك شيئاً آخر، ولا سيما إذا كان هذا الشيء مما ترتكز عليه سلامة الإسلام وامتداده في خطّ الاستقامة.

ونلاحظ هنا أنّ الإمام الحسن (ع) لا يترك الجانب الإيجابي لخصومه، في حين أننا عندما نذكر شخصاً نعيش العقدة إزاءه، فلسنا مستعدين أن نستمع إلى أيّ خصلة حسنة تذكر له...

"وأمسكنا عن منازعتهم". وهذا المقطع يجيب عن سؤال: لماذا لم يندفع عليّ (ع) ليقتحم السَّاحة، وقد جاءه أبو سفيان ليقول له في مبايعته أثناء اجتماع القوم على مبايعة غيره: "فلأملأنّها عليهم خيلاً ورجلاً"، ولكنّ عليّاً (ع) كان المسؤول عن الإسلام خارج الخلافة، كما كان مسؤولاً عنها في موقع الخلافة، لأنّه هو خليفة رسول الله (ص) في تأكيد الإسلام ونشره وامتداده وتأصيله، كما هو خليفته في إدارته، لذلك كان عليّ (ع) يمارس المسؤوليَّة الإسلاميَّة مع خصومه، كما كان يمارسها عندما كان في الخلافة، لأنّنا ذكرنا مراراً أنّ عليَّاً(ع) وحده المؤهَّل لأنّ يكون خليفة الرسول (ص)، لسبب واحد، وهو أنّ خلافة رسول الله (ص) ليست خلافة الإدارة فقط، بل هي خلافة الرسالة، وليس في المسلمين من عاش الرسالة في عقله كلّه وقلبه كلّه وشعوره وجهاده كما عاشها عليّ (ع).

"وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدّين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده"، وفي ذلك يقول عليّ (ع): "فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا"1. ويقول: "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم"2.

"فاليوم فليتعجَّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر من لست من أهله"، أي كيف توثّبت على عليّ (ع)؟! فمتى أسلمت يا معاوية؟ ومتى أسلم أبوك؟ فالإمام يطلقها هنا في صرخة التعجّب، "لا بفضل في الدّين معروف"، أي ما هي سابقتك في الإسلام؟ وما هو جهادك؟ وما هي ثقافتك الإسلاميَّة؟ "ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب" الَّتي كانت تحارب رسول الله (ص). فلم يقل له يا بن أبي سفيان، لأنّ هذا كان يمثّل قيادة الحزب القرشي الذي عطّل مشروع رسول الله (ص) وأشغله بحروب دامية، ومعاوية ابن هذا الحزب الَّذي تربّى على أخلاقه، "وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ولكتابه، والله حسيبك، فسترد" غداً على الله "فتعلم لمن عقبى الدار"، فنحن الآن نكلّمك وتكلّمنا، وتحاول أن تأتي بالكلام من هنا وهناك، لكنّ غداً هو يوم الفصل. "وبالله لتلقينّ عن قليل ربّك، ثم ليجزينّك بما قدَّمت يداك". لأنّك عطّلت مشروع عليّ بن أبي طالب (ع) الذي لو أنّه انطلق به وأكمله، لانفتح الإسلام على العالم وعياً وفكراً وجهاداً وحركة "وما الله بظلّام للعبيد".

"إنَّ عليّاً لما مضى لسبيله – رحمة الله عليه – يوم قبض، ويوم منّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً، ولَّاني المسلمون الأمر من بعده"، فإذا كان الكلام في الشورى، فإنّ الشورى قد اجتمع رأيها عليّ، فأنا الخليفة الشرعي.

"فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا في الآخرة بما عنده من كرامة". وهذا هو تواضع الأئمّة (ع) لله سبحانه وتعالى.

"وإنَّ ما حملني على الكتابة إليك، الإعذار فيما بيني وبين الله عزّ وجلَّ في أمرك". فحتى يعذرني الله في إقامة الحجَّة عليك، بيّنت لك من الحقائق، ودعوتك إلى الصراط المستقيم. "ولك في ذلك إن فعلته الحظّ الجسيم والصَّلاح للمسلمين"، أي فيما إذا دخلت فيما دخل فيه المسلمون، وسرت معي في الخطّ الذي يمثّل الشرعيَّة الإسلامية، "فدع التمادي في الباطل" بادّعاء الخلافة لنفسك، "وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله"، لأنّ رسول الله (ص) قال: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"3، "الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا"4.

"وعند كلِّ أواب" إلى الله "حفيظ" على العهد والإيمان "ومن له قلب منيب" راجع إلى الله، "واتَّق الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، وادخل في السِّلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين"، لأنّ الأساس في إصلاح ذات البين هو أن يعطي الناس الشرعيَّة لمن له الشرعيَّة الحقيقيَّة، لا أن يكونوا في خطِّ الانحراف "وإن أنت أبيت إلَّا التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك" على أساس الواقع الميداني، وأن أواجهك بالمسلمين "حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين"5.

هذه هي الرسالة التي بعثها الإمام الحسن (ع) إلى معاوية، وهي كلّها رسالة، وكلّها حجّة ونصيحة للمسلمين، ورغبة في أن يصلح الله أمرهم ويحقن دماءهم، لأنّ الأئمَّة من أهل البيت (ع)، ولا سيما سيدهم عليّ (ع)، لم يطلبوا الخلافة لطموح شخصي أو لطمع ذاتيّ أو لأيّ شيء مما يدخل في حاجات النفس الأمّارة بالسوء. وقد عبّر عن ذلك عليّ (ع) ليقدّم حسابه لله: "اللّهم انّك تعلم"...

* من كتاب النّدوة، ج9.

[1]نهج البلاغة، ج1، ص 31.

[2]نهج البلاغة، ج3، ص 119.

[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 43، ص 263.

[4]بحار الأنوار، ج 44، ص 2.

[5]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج44، ص 41.

هذا هو نصّ الرسالة التي أرسلها الإمام الحسن (ع) إلى معاوية مع رجلين من أهل الكوفة:

"من الحسن بن عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان. سلامٌ عليك، فإنّي أحمد إليك الله الَّذي لا إله إلّا هو".

وأحبُّ أن أقف هنا عند قوله (ع): "سلام عليك"، لأقول إنَّ أسلوب الأئمّة من أهل البيت (ع) هو أسلوب الإسلام، هو أنّك عندما تلتقي مع مسلم، حتى لو كان في أعلى درجات الانحراف، أو تكتب إليه، فإنَّ عليك أن لا تترك التحية (السّلام)، لأنّ قصة السلام ليست قصَّة من تسلّم عليه، وإنّما هي قصّتك أنت الَّذي تعيش روحية السلام مع المسلمين حتى المنحرفين منهم، لأنّك عندما تعطيهم كلمة السلام، فقد تترك هذه الكلمة تأثيرها الإيجابي في وعي هذا الإنسان، فيهتدي بك عندما تفتح الكلمة قلبه فينفتح بها عقله...

ويمضي الإمام الحسن (ع) في رسالته قائلاً: "أمّا بعد، فإنّ الله جلّ جلاله". وهنا أراد أن يربطه بالرسالة وبامتدادها في أهل البيت (ع) ليقيم عليه الحجّة في ذلك، "بعث محمَّداً رحمة للعالمين"، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}[الأنبياء: 107]، "ومنّة للمؤمنين" {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولً}[آل عمران: 164]، "وكافّة للناس أجمعين"، لأنّ الله سبحانه وتعالى قال لرسوله (ص): قلْ للناس {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف: 158].

"لينذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين، فبلّغ رسالات الله، وقام بأمر الله، حتى توفَّاه الله غير مقصِّر ولا وان". فلقد أعطى نفسه كلّها، ومبادراته كلّها، من أجل الرسالة التي تستحقّ ذلك كلّه. "وبعد أن أظهر الله به الحقّ، ومحق به الشِّرك، وخصّ قريشاً به خاصّة، فقال له: وإنّه لذكر لك ولقومك. فلمَّا توفي، تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقّه"، وهذا ما حدث عندما قال المهاجرون والأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، واحتجّوا على أنَّ الخلافة في قريش، "فرأت العرب أنّ القول ما قالت قريش، وأنَّ الحجَّة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمَّد، فأنعمت لهم وسلّمت إليهم، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب"، لأنّهم قالوا بأنّ الخلافة في قريش، وقد قال عليّ (ع): "احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثَّمرة"... "فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها". فالعرب قبلوا منها حجّتها، ولم تقبل قريش منّا حجّتنا. "إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما صرنا آل بيت محمَّد وأولياءه إلى محاجّتهم وطلب النصف منهم"، بأن ينصفونا بما هو الحقّ لنا، "باعدونا، واستولوا بالاجتماع على الخلافة على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الوليّ النصير".

ولا بدّ من الالتفات إلى أنَّ الإمام الحسن (ع) لا يتحدث هنا عن حقّ في الخلافة من خلال القرابة، بل من خلال الشرعية الإسلامية بالنصّ من خلال النبيّ محمّد (ص) المرتكز على أمر الله، وعلى أساس الكفاءة الشاملة التي لا يملكها أحد غير عليّ (ع).

"ولقد كنّا تعجَّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا وسلطان نبيِّنا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام". لكنّ هذا لا يمنع من أنّهم لم يأخذوا بالحقّ، فلقد سبقوا إلى الإسلام، وربّما كانوا قد جاهدوا مع النبيّ (ص)، ولكن الأمور بخواتيمها، والقضيَّة هي قضيَّة العاقبة، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعطي الناس النتائج الحاسمة في البدايات، ولكنّه يعطيها عندما تلتقي النهايات بالبدايات، فالإسلام ليس شيئاً تجزيئياً يمكن أن تأخذ شيئاً منه وتترك شيئاً آخر، ولا سيما إذا كان هذا الشيء مما ترتكز عليه سلامة الإسلام وامتداده في خطّ الاستقامة.

ونلاحظ هنا أنّ الإمام الحسن (ع) لا يترك الجانب الإيجابي لخصومه، في حين أننا عندما نذكر شخصاً نعيش العقدة إزاءه، فلسنا مستعدين أن نستمع إلى أيّ خصلة حسنة تذكر له...

"وأمسكنا عن منازعتهم". وهذا المقطع يجيب عن سؤال: لماذا لم يندفع عليّ (ع) ليقتحم السَّاحة، وقد جاءه أبو سفيان ليقول له في مبايعته أثناء اجتماع القوم على مبايعة غيره: "فلأملأنّها عليهم خيلاً ورجلاً"، ولكنّ عليّاً (ع) كان المسؤول عن الإسلام خارج الخلافة، كما كان مسؤولاً عنها في موقع الخلافة، لأنّه هو خليفة رسول الله (ص) في تأكيد الإسلام ونشره وامتداده وتأصيله، كما هو خليفته في إدارته، لذلك كان عليّ (ع) يمارس المسؤوليَّة الإسلاميَّة مع خصومه، كما كان يمارسها عندما كان في الخلافة، لأنّنا ذكرنا مراراً أنّ عليَّاً(ع) وحده المؤهَّل لأنّ يكون خليفة الرسول (ص)، لسبب واحد، وهو أنّ خلافة رسول الله (ص) ليست خلافة الإدارة فقط، بل هي خلافة الرسالة، وليس في المسلمين من عاش الرسالة في عقله كلّه وقلبه كلّه وشعوره وجهاده كما عاشها عليّ (ع).

"وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدّين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده"، وفي ذلك يقول عليّ (ع): "فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا"1. ويقول: "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم"2.

"فاليوم فليتعجَّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر من لست من أهله"، أي كيف توثّبت على عليّ (ع)؟! فمتى أسلمت يا معاوية؟ ومتى أسلم أبوك؟ فالإمام يطلقها هنا في صرخة التعجّب، "لا بفضل في الدّين معروف"، أي ما هي سابقتك في الإسلام؟ وما هو جهادك؟ وما هي ثقافتك الإسلاميَّة؟ "ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب" الَّتي كانت تحارب رسول الله (ص). فلم يقل له يا بن أبي سفيان، لأنّ هذا كان يمثّل قيادة الحزب القرشي الذي عطّل مشروع رسول الله (ص) وأشغله بحروب دامية، ومعاوية ابن هذا الحزب الَّذي تربّى على أخلاقه، "وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ولكتابه، والله حسيبك، فسترد" غداً على الله "فتعلم لمن عقبى الدار"، فنحن الآن نكلّمك وتكلّمنا، وتحاول أن تأتي بالكلام من هنا وهناك، لكنّ غداً هو يوم الفصل. "وبالله لتلقينّ عن قليل ربّك، ثم ليجزينّك بما قدَّمت يداك". لأنّك عطّلت مشروع عليّ بن أبي طالب (ع) الذي لو أنّه انطلق به وأكمله، لانفتح الإسلام على العالم وعياً وفكراً وجهاداً وحركة "وما الله بظلّام للعبيد".

"إنَّ عليّاً لما مضى لسبيله – رحمة الله عليه – يوم قبض، ويوم منّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً، ولَّاني المسلمون الأمر من بعده"، فإذا كان الكلام في الشورى، فإنّ الشورى قد اجتمع رأيها عليّ، فأنا الخليفة الشرعي.

"فأسأل الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا في الآخرة بما عنده من كرامة". وهذا هو تواضع الأئمّة (ع) لله سبحانه وتعالى.

"وإنَّ ما حملني على الكتابة إليك، الإعذار فيما بيني وبين الله عزّ وجلَّ في أمرك". فحتى يعذرني الله في إقامة الحجَّة عليك، بيّنت لك من الحقائق، ودعوتك إلى الصراط المستقيم. "ولك في ذلك إن فعلته الحظّ الجسيم والصَّلاح للمسلمين"، أي فيما إذا دخلت فيما دخل فيه المسلمون، وسرت معي في الخطّ الذي يمثّل الشرعيَّة الإسلامية، "فدع التمادي في الباطل" بادّعاء الخلافة لنفسك، "وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله"، لأنّ رسول الله (ص) قال: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"3، "الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا"4.

"وعند كلِّ أواب" إلى الله "حفيظ" على العهد والإيمان "ومن له قلب منيب" راجع إلى الله، "واتَّق الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، وادخل في السِّلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين"، لأنّ الأساس في إصلاح ذات البين هو أن يعطي الناس الشرعيَّة لمن له الشرعيَّة الحقيقيَّة، لا أن يكونوا في خطِّ الانحراف "وإن أنت أبيت إلَّا التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك" على أساس الواقع الميداني، وأن أواجهك بالمسلمين "حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين"5.

هذه هي الرسالة التي بعثها الإمام الحسن (ع) إلى معاوية، وهي كلّها رسالة، وكلّها حجّة ونصيحة للمسلمين، ورغبة في أن يصلح الله أمرهم ويحقن دماءهم، لأنّ الأئمَّة من أهل البيت (ع)، ولا سيما سيدهم عليّ (ع)، لم يطلبوا الخلافة لطموح شخصي أو لطمع ذاتيّ أو لأيّ شيء مما يدخل في حاجات النفس الأمّارة بالسوء. وقد عبّر عن ذلك عليّ (ع) ليقدّم حسابه لله: "اللّهم انّك تعلم"...

* من كتاب النّدوة، ج9.

[1]نهج البلاغة، ج1، ص 31.

[2]نهج البلاغة، ج3، ص 119.

[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 43، ص 263.

[4]بحار الأنوار، ج 44، ص 2.

[5]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج44، ص 41.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير