يطالعنا في هذا التّركيب، إسناد الشّاعر الخبر "
أطياف" إلى المبتدأ "
كلّ"، ما منح الهموم في هذا الإسناد بعداً غير عاديّ، أخرجها عن نسقها الموضوعيّ، فلم تعد الهموم مآسِي وآلاماً يقاسيها الشّاعر، بل اتّخذت خاصيّةً جديدةً تتراءى للشّاعر أينما قلب طرفه ونظر، يقول:
(وزن الخفيف)
وحياتي شِلْوٌ تناهبَهُ الرّيحُ وألوى بجانبيهِ الذّبولُ
أسند الشّاعر الخبر "
شلوٌ" إلى المبتدأ "
حياتي"، فأحدث فجوةً شعريّةً لدى المتلقّي الّذي لم يتوقّع أن تصير الحياة بكلّ ما فيها من رؤى وأحلام، "
شلواً" تناهبه الرّيح وهو ضعيف هزيل. وبذلك استمدّت الحياة من خلال هذا التّركيب بعداً إيحائيّاً وهويّةً جديدةً أخرجتها عن كليّتها لتخصّص لها الهويّة "
الحيوانيّة"، بما في هذه الهويّة من دلالاتٍ وأبعاد. وإذا ما أراد الشّاعر الحديث عن عظمة الرّسالة، نراه يخاطب الرّسول، فيقول:
(وزن الخفيف)
وتمرُّ السّنونُ ـ بعدكَ ـ والإسلامُ يخطو على هُداكَ الحبيبِ
أسند الشّاعر الفعل يخطو (
الخبر) إلى المبتدأ "الإسلام"، ما جعلنا نرى الإسلام إنساناً يتّخذ من الرّسول قدوةً ومثالاً أعلى، احتذاه، وسار على هداه. وفي هذا الإسناد، تخطّت اللّغة الشعريّة اللّغة العاديّة، من خلال الإيحاء والدّلالات الّتي اكتسبتها الكلمات بالإسناد الجديد.
3 – إسناد الصّفة إلى الموصوف:
يقول السيّد الشّاعر:
(على وزن السّريع)
فجِئْتُ في صوفيَّةٍ حُرَّةٍ تُمِدُّني بالشُّعلةِ الهاديَة
أسند الشّاعر الصّفة "
حرّة" إلى الموصوف "
صوفيّة"، ما يمنح الصوفيّة الرّحابة والاتّساع، لتكون لحظة المناجاة لله خاليةً من قيود النّفس وشوائبها، وخصوصاً حين المثول بين يدي الله. وأسند الصّفة "
الهادية" إلى الموصوف "
الشّعلة"، ما أكسب الشّعلة هويّةً جديدةً أخرجتها عن نسقها الموضوعيّ، كونها ناراً، ومنحتها خاصيّة الهادي الّذي يبدّد ظلمات الطّريق، ويهدي الرّكب، ويحدّد المعالم.
ويقول في موضع آخر:
(وزن السّريع)
أدعُوكَ في شِعْرٍ: يرشُّ النَّدى على رُؤَاهُ الخضرِ... أحلاميَهْ
يطالعنا في هذا التّركيب، إسناد الشّاعر الصّفة "الخضر" إلى الموصوف "رؤى"، حيث أحدث هذا الإسناد فجوةً بين الصّفة والموصوف، فالرّؤى لم تعد مجرّداً، وإنّما اتّخذت بإسناد الصّفة "الخضر" هويّةً نباتيّةً، ما جعل الشّعر حقلاً تتواكب فيه الظّلال والنّدى والأحلام والرّؤى.
ويخاطب الشّاعر الرّسول محمّداً(ص) قائلاً:
(على وزن الخفيف)
أنتَ
روحُ الإسلامِ... أيُّ سلامٍ لمْ يفِضْ وحيُهُ مِنَ الينبُوعِ
من
ربيعِ المشاعرِ البيضِ، في روحِ النبوَّاتِ، من جمالِ الرَّبيعِ
أسند الشّاعر الصّفة "البيض" إلى الموصوف "
المشاعر"، ما أحدث صورةً توحي بالطّهر والجمال والرّوعة، "فالمشاعر" اكتسبت من الصّفة "
البيض" دلالة النّقاء والصّفاء، فالصّفة "
البيض" لم تُبقِ "
المشاعر" مجرّد أحاسيس، وإنّما أضاءت الموصوف، فأبرزت جوانب جديدةً لم نكن نتوقّعها.
4 – المضاف والمضاف إليه:
اتّخذت الكلمات في تراكيب الشَّاعر أبعاداً دلاليّةً مغايرةً للواقع، من خلال الإضافة، والعلاقة بين المضاف والمضاف إليه. يقول الشّاعر:
(وزن الخفيف)
ثمَّ جاءتْ أخرَى... على صهوَةِ العُمْرِ... بزهوٍ مرنَّحٍ مشْغُوفِ
منحت إضافة "صهوة" إلى "
العمر" الكلمة المعبّرة عن مرحلةٍ زمنيّةٍ يعيشها الإنسان، وهجاً وأبعاداً دلاليّةً مغايرة للواقع من خلال الإضافة، والعلاقة بين المضاف والمضاف إليه. يقول الشّاعر:
ضُمَّني في بحيرةِ الحلمِ الورديّ في غفوةِ الرّؤى السَّمحاءِ
لقد اتّخذت "البحيرة" بُعداً جديداً من خلال إضافتها إلى "الحلم الورديّ"، وإضافة "غفوة" إلى "الرّؤى"، فلم تعد البحيرة مكاناً للتّرفيه، أو للسّباحة، بل اتّخذت هويّة الأمل والملتقى بين الله والشّاعر، وأمّا الرّؤى، فقد اتّخذت هويّةً إنسانيّةً حوّلتها إلى معنى مغاير لمعناها المعجميّ.
ويتَّخذ اللّيل بُعداً إنسانيّاً من خلال الإضافة. يقول الشّاعر:
إنَّني هُنا تُمزِّقُ قلْبي في خُطى اللّيلِ وحْشَةُ البَيْداءِ
أضاف الشّاعر "خطى" إلى "
اللّيل"، وهذا الإسناد أفرز لغةً شعريّةً؛ فاللّيل صار إنساناً، وقد اتّخذ هذه الهويّة الإنسانيّة بإسناد الإضافة الّذي أقامه الشّاعر بين "الخطى" و"
اللّيل"، إضافةً إلى إخراج "الوحشة إلى بعدٍ حيوانيّ مفترس".
5 – التّعدية إلى المفعول به.
يقول الشّاعر:
(على وزن الخفيف)
فمضَى يصْهَرُ العذَابَ نشِيداً ويصوغُ الآهاتِ لحْناً شَجِيَّا
اتَّخذ "
العذاب" هويَّة الحديث من خلال الفعل المضارع "
يصهر"، واتّخذت "
الآهات" بُعْد السِّوار من خلال الفعل "
يصوغ"، ليخرج المفعول به عن دلالته الأساسيّة، ويتّخذ بلغة السيّد مفهوماً آخر وهويّةً مغايرةً لحقيقته.
المصدر: كتاب "الاتّجاه الرّوحيّ في شعر السيّد محمّد حسين فضل الله".