المرجع فضل الله.. عالم دين استثنائيّ

المرجع فضل الله.. عالم دين استثنائيّ

معرفتي الشخصية بسماحة السيّد، هي معرفة في الأساس لفكره. في بداية شبابنا، كنا نتابع إصداراته الثقافيّة والفكريّة والدينيّة، وكنّا في سنّ متحفّزة، وهي مرحلة بداية نهوض الحركة الإسلاميّة في لبنان واندفاعتها الأولى. طبعاً، كنا نواكب ونتابع هذا النتاج المعرفي والفكري لأعلام ومفكّرين ودعاة مثل سماحة السيّد.

وأنا أتذكّر أنّ أوّل كتاب قرأته له كان "خطوات على طريق الإسلام". كنت لازلت صغيراً، وكان الكتاب صادراً حديثاً. فيما بعد، حينما انخرطت في الدراسة الدينية، انتسبت إلى المعهد الشرعي الإسلامي في الثّمانينات، وصرنا نتردَّد على سماحة السيد تردّد طلبة على المرشد الموجِّه لمسيرة المدرسة التي ننتمي إليها، وهو كان يرعى هذه المؤسّسة رعاية شبه كاملة.

دراستي في هذه المرحلة كانت ما يسمّى بالسطوح، فقد كنت قبل ذلك قد حصّلت مرحلة المقدِّمات، والتحقت بالمعهد الشرعي الإسلامي لدراسة مرحلة السّطوح، وبالتالي، فإنَّ من الطّبيعيّ لطالب في هذه المرحلة، أن يتردَّد على عالم كبير مثل سماحة السيّد ليستفيد منه.

العلاقة المباشرة الشخصية التي كانت أرسخ، عندما كنا نحضر درسه الخاصّ الصباحي، وكان سماحته يعطي درساً يوميّاً في السابعة صباحاً، وكنا نتردَّد عليه لحضور الدّرس. وفيما بعد، صرت جزءاً من المركز الإسلامي، الذي تحوَّل لاحقاً إلى مكتبة، والّذي يديره صديقنا العزيز السيّد شفيق الموسوي. والمركز الإسلامي في بدايته، كان يضم مجموعة من الشباب المثقّف والمفكّر، وأنا كنت في هذه المرحلة جزءاً من هذا المركز، وكان عندنا جلسة أسبوعية كلّ يوم إثنين مع سماحة السيد، فكانت هذه فرصة للتقرب من سماحته والتعرف عليه أكثر.

في هذه المرحلة من مراحل الزمن، شاءت الأقدار أن أكتب أبحاث السيّد العالية، أي دروس الخارج في الفقه، في نهاية التسعينات وبداية الألفين. وصار هناك لقاء يوميّ وتواصل يوميّ مع سماحة السيّد، وقدَّر لي كذلك أن أسافر إلى الخارج بتشجيع منه، للقيام ببعض الأعمال الثقافية الفكرية في أميركا وكندا، وكانت هذه فرصة أيضاً للتواصل اليوميّ مع سماحته حتى وأنا في الخارج.

يستطيع الإنسان بهذه العلاقة المباشرة أن يكتشف صفات أكثر بكثير مما يقدر له أن يكتشفه عن بعد.

إحدى الصفات التي أدركتها بسماحته، هي قدرته الهائلة على متابعة النشاطات والقيام بأعماله، والتخطيط لإنجازاته، والمثابرة الدؤوبة على العمل الذي يخطّط لإنجازه، ولم أره مرة واحدة يتكاسل في نشاط أو في تجربة، أو يهمل في مرحلة من مراحل الزمن شيئاً خطّط له طويلاً، أو إذا صحّ التعبير، أن يقلِّص من جهده الذي يمكن أن يقوم به خدمةً لعمل.

وفي المرحلة الأخيرة من عمره، كان لايزال يواصل العمل، حتّى إنّه يصعب أن نجد شخصيّة بهذا العمر وبهذه التجربة الكبيرة والجهد الهائل الّذي بذله، والتعب الذي أنهك جسده وأخذ من طاقته، أن نجد شخصية مثل شخصيّته، بتصميمه على إنجاز أعماله والنّهوض بأعبائها.

حتى عندما كنت في الخارج، يتفاجأ البعض إذا قلت إن سماحة السيد كان يتّصل بي كلّ يوم ليسأل عن تفاصيل الأشياء التي أنجزناها، والأعمال التي قمنا بها، ويكون على اطّلاع شبه تامّ على الأعمال. وهذا شيء استثنائي، يصعب أن نجد شخصاً عنده هذه القدرة على المتابعة، وعنده هذا التصميم على إنجاز طموحاته الفكريّة والدّينيّة، وعنده مثل هذا العزم على إقامة البناء المعرفي والفكري من دون أي تردّد.

ثمّ إنّه تميّز بإيمانه الشديد بما كان يصبو إليه، فالسيّد لم يكن شخصاً عابراً في هذه التجربة، ولا هو ينجز أعماله بالمصادفة والارتجال، كان عنده تصميم وتخطيط وعزم وإيمان راسخ بأنّ ما يصنعه هو ما ينبغي أن يقوم به، وأنّ هذا الشيء ملقى على عاتقه، وأنها مسؤوليّة لا ينبغي أن يتلكّأ فيها في أيّ حال من الأحوال.

سماحة السيّد لم يكن رجل دين تقليديّاً. أقولها دائماً، وحتّى لو أنَّها ممكن أن تستدعي ردود فعل سلبيّة في بعض الأحيان؛ السيد كان رجل دين استثنائيّاً، وعالم دين استثنائيّاً، حاول جاهداً أن يأتي بالإسلام إلى الراهن، أن ينزل فكر الإسلام وفقه الإسلام وشريعة الإسلام إلى الراهن، إلى الواقع. كان عنده إيمان عميق بأنّ على العالم أن يفهم ويستوعب شؤون الحياة كافّة، بمقدار إمكاناته، وأن يستوعب حراك الحياة من حوله، وأن الدّين لا قيمة له إذا لم يكن قادراً على أن يستجيب للمشكلة التي تعصف بالإنسان في كلّ زمن، والتي تحيط بتجربة البشر في كلّ لحظة من لحظات التاريخ. كان عنده إيمان عميق بهذا، ومارسه فعلاً.

وهذه كانت تتطلّب فهماً خاصّاً شديد الدقّة للإسلام، باعتباره ديناً للحياة، وقد عبّر عن هذا الأمر بفكره وخطبه ومحاضراته، وبحواراته ولقاءاته الصحافية والفكريّة، كان يعبّر عن هذا الأمر بوضوح وصراحة، أن الإسلام دين الحياة وليس ديناً للتاريخ، وأنه دين للإنسان إذا صحّ التعبير، أنزله الله لخدمة الإنسان، ولكي يكون وسيلة من أجل إسعاده، ومن أجل أن يبلغ من خلاله أرقى ما يصبو إليه من طموحات. كان فهمه فهماً متحركاً ومتحرّراً، يأخذ بالاعتبار المشكلات قبل أن يأخذ تجربة التّاريخ، يأخذ بالاعتبار الراهن قبل الماضي.

والشّيء الآخر الذي لمسته بسماحة السيّد، هو سعة أفقه وثقافته. وقد كانت لي تجربة شخصيّة في هذا السياق، فقد كان يطلب منّي أحياناً أن ألخّص له كتاباً معيّناً، لأن لا وقت له ليقرأه، وتتفاجأ أنَّ هذا الكتاب ليس من اهتمامات رجل الدّين العادي، ولا هي جزء من اهتمام عالم الدّين المتفرِّغ للتّراث ودراسته وتفحّصه.

هذه الكتب إنما يعتني بها الإنسان الذي يصبو إلى إعادة تصويب مسار الحياة على ضوء الدين، وإعادة فهم تجربة البشر على ضوء مقاصده.. فكتابات مثلاً مثل كتابات أركون، ينفر رجل الدين العادي أن يقرأ هذا النّمط من التفكير التجديدي، بينما كان سماحة السيّد يسعى دائماً للتعرّف إلى هذه التجارب وهذه المناخات، وهذا دليل على عقل منفتح، وقادر على أن ينهل المعرفة من كلّ أبوابها، وأن يطّلع على كلّ مساراتها، وهذا أحد أهمّ أسباب نجاحه حضور سماحة السيّد.

معرفتي الشخصية بسماحة السيّد، هي معرفة في الأساس لفكره. في بداية شبابنا، كنا نتابع إصداراته الثقافيّة والفكريّة والدينيّة، وكنّا في سنّ متحفّزة، وهي مرحلة بداية نهوض الحركة الإسلاميّة في لبنان واندفاعتها الأولى. طبعاً، كنا نواكب ونتابع هذا النتاج المعرفي والفكري لأعلام ومفكّرين ودعاة مثل سماحة السيّد.

وأنا أتذكّر أنّ أوّل كتاب قرأته له كان "خطوات على طريق الإسلام". كنت لازلت صغيراً، وكان الكتاب صادراً حديثاً. فيما بعد، حينما انخرطت في الدراسة الدينية، انتسبت إلى المعهد الشرعي الإسلامي في الثّمانينات، وصرنا نتردَّد على سماحة السيد تردّد طلبة على المرشد الموجِّه لمسيرة المدرسة التي ننتمي إليها، وهو كان يرعى هذه المؤسّسة رعاية شبه كاملة.

دراستي في هذه المرحلة كانت ما يسمّى بالسطوح، فقد كنت قبل ذلك قد حصّلت مرحلة المقدِّمات، والتحقت بالمعهد الشرعي الإسلامي لدراسة مرحلة السّطوح، وبالتالي، فإنَّ من الطّبيعيّ لطالب في هذه المرحلة، أن يتردَّد على عالم كبير مثل سماحة السيّد ليستفيد منه.

العلاقة المباشرة الشخصية التي كانت أرسخ، عندما كنا نحضر درسه الخاصّ الصباحي، وكان سماحته يعطي درساً يوميّاً في السابعة صباحاً، وكنا نتردَّد عليه لحضور الدّرس. وفيما بعد، صرت جزءاً من المركز الإسلامي، الذي تحوَّل لاحقاً إلى مكتبة، والّذي يديره صديقنا العزيز السيّد شفيق الموسوي. والمركز الإسلامي في بدايته، كان يضم مجموعة من الشباب المثقّف والمفكّر، وأنا كنت في هذه المرحلة جزءاً من هذا المركز، وكان عندنا جلسة أسبوعية كلّ يوم إثنين مع سماحة السيد، فكانت هذه فرصة للتقرب من سماحته والتعرف عليه أكثر.

في هذه المرحلة من مراحل الزمن، شاءت الأقدار أن أكتب أبحاث السيّد العالية، أي دروس الخارج في الفقه، في نهاية التسعينات وبداية الألفين. وصار هناك لقاء يوميّ وتواصل يوميّ مع سماحة السيّد، وقدَّر لي كذلك أن أسافر إلى الخارج بتشجيع منه، للقيام ببعض الأعمال الثقافية الفكرية في أميركا وكندا، وكانت هذه فرصة أيضاً للتواصل اليوميّ مع سماحته حتى وأنا في الخارج.

يستطيع الإنسان بهذه العلاقة المباشرة أن يكتشف صفات أكثر بكثير مما يقدر له أن يكتشفه عن بعد.

إحدى الصفات التي أدركتها بسماحته، هي قدرته الهائلة على متابعة النشاطات والقيام بأعماله، والتخطيط لإنجازاته، والمثابرة الدؤوبة على العمل الذي يخطّط لإنجازه، ولم أره مرة واحدة يتكاسل في نشاط أو في تجربة، أو يهمل في مرحلة من مراحل الزمن شيئاً خطّط له طويلاً، أو إذا صحّ التعبير، أن يقلِّص من جهده الذي يمكن أن يقوم به خدمةً لعمل.

وفي المرحلة الأخيرة من عمره، كان لايزال يواصل العمل، حتّى إنّه يصعب أن نجد شخصيّة بهذا العمر وبهذه التجربة الكبيرة والجهد الهائل الّذي بذله، والتعب الذي أنهك جسده وأخذ من طاقته، أن نجد شخصية مثل شخصيّته، بتصميمه على إنجاز أعماله والنّهوض بأعبائها.

حتى عندما كنت في الخارج، يتفاجأ البعض إذا قلت إن سماحة السيد كان يتّصل بي كلّ يوم ليسأل عن تفاصيل الأشياء التي أنجزناها، والأعمال التي قمنا بها، ويكون على اطّلاع شبه تامّ على الأعمال. وهذا شيء استثنائي، يصعب أن نجد شخصاً عنده هذه القدرة على المتابعة، وعنده هذا التصميم على إنجاز طموحاته الفكريّة والدّينيّة، وعنده مثل هذا العزم على إقامة البناء المعرفي والفكري من دون أي تردّد.

ثمّ إنّه تميّز بإيمانه الشديد بما كان يصبو إليه، فالسيّد لم يكن شخصاً عابراً في هذه التجربة، ولا هو ينجز أعماله بالمصادفة والارتجال، كان عنده تصميم وتخطيط وعزم وإيمان راسخ بأنّ ما يصنعه هو ما ينبغي أن يقوم به، وأنّ هذا الشيء ملقى على عاتقه، وأنها مسؤوليّة لا ينبغي أن يتلكّأ فيها في أيّ حال من الأحوال.

سماحة السيّد لم يكن رجل دين تقليديّاً. أقولها دائماً، وحتّى لو أنَّها ممكن أن تستدعي ردود فعل سلبيّة في بعض الأحيان؛ السيد كان رجل دين استثنائيّاً، وعالم دين استثنائيّاً، حاول جاهداً أن يأتي بالإسلام إلى الراهن، أن ينزل فكر الإسلام وفقه الإسلام وشريعة الإسلام إلى الراهن، إلى الواقع. كان عنده إيمان عميق بأنّ على العالم أن يفهم ويستوعب شؤون الحياة كافّة، بمقدار إمكاناته، وأن يستوعب حراك الحياة من حوله، وأن الدّين لا قيمة له إذا لم يكن قادراً على أن يستجيب للمشكلة التي تعصف بالإنسان في كلّ زمن، والتي تحيط بتجربة البشر في كلّ لحظة من لحظات التاريخ. كان عنده إيمان عميق بهذا، ومارسه فعلاً.

وهذه كانت تتطلّب فهماً خاصّاً شديد الدقّة للإسلام، باعتباره ديناً للحياة، وقد عبّر عن هذا الأمر بفكره وخطبه ومحاضراته، وبحواراته ولقاءاته الصحافية والفكريّة، كان يعبّر عن هذا الأمر بوضوح وصراحة، أن الإسلام دين الحياة وليس ديناً للتاريخ، وأنه دين للإنسان إذا صحّ التعبير، أنزله الله لخدمة الإنسان، ولكي يكون وسيلة من أجل إسعاده، ومن أجل أن يبلغ من خلاله أرقى ما يصبو إليه من طموحات. كان فهمه فهماً متحركاً ومتحرّراً، يأخذ بالاعتبار المشكلات قبل أن يأخذ تجربة التّاريخ، يأخذ بالاعتبار الراهن قبل الماضي.

والشّيء الآخر الذي لمسته بسماحة السيّد، هو سعة أفقه وثقافته. وقد كانت لي تجربة شخصيّة في هذا السياق، فقد كان يطلب منّي أحياناً أن ألخّص له كتاباً معيّناً، لأن لا وقت له ليقرأه، وتتفاجأ أنَّ هذا الكتاب ليس من اهتمامات رجل الدّين العادي، ولا هي جزء من اهتمام عالم الدّين المتفرِّغ للتّراث ودراسته وتفحّصه.

هذه الكتب إنما يعتني بها الإنسان الذي يصبو إلى إعادة تصويب مسار الحياة على ضوء الدين، وإعادة فهم تجربة البشر على ضوء مقاصده.. فكتابات مثلاً مثل كتابات أركون، ينفر رجل الدين العادي أن يقرأ هذا النّمط من التفكير التجديدي، بينما كان سماحة السيّد يسعى دائماً للتعرّف إلى هذه التجارب وهذه المناخات، وهذا دليل على عقل منفتح، وقادر على أن ينهل المعرفة من كلّ أبوابها، وأن يطّلع على كلّ مساراتها، وهذا أحد أهمّ أسباب نجاحه حضور سماحة السيّد.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير