ذكرى ولادةِ النّبيِّ الأعظمِ (ص) وما نستفيدُهُ منْها

ذكرى ولادةِ النّبيِّ الأعظمِ (ص) وما نستفيدُهُ منْها

في ذكرى النبي الأعظم محمّد (ص)، في كلّ ذكرى نستعيدها من حياته، في مولده ومبعثه، في هجرته ووفاته، في كل كلمة قالها، لينير الدرب لنا نحو مستقبل قويّ زاهر، في كلّ خطوة خطاها ليعبّد لنا طريق العزّة والكرامة، في كلّ جهاد خاضه في سبيل تركيز قواعد الإسلام وإعلاء كلمة الله...

في كلّ ذلك وفي غيره مما يتصل بحياته، مجالات واسعة للعبرة والدرس، لو أحسنّا درسها والاعتبار بها .

القيادة الواعية

ومن الواضح أنّ ذكراه (ص) تختلف عن أيّ ذكرى إسلاميّة أخرى، في معطياتها ودروسها وحيويتها؛ لأنها تمثّل الشخصية المقدَّسة للمسلم الأوّل الذي اكتشف القمة وقادنا إليها، ووعى الحقيقة الأولى ودلّنا عليها، وعرف سحر الكلمة الطيّبة الحانية الهادفة لخير الإنسان، فكانت الكلمة رسالة السَّماء الى الأرض، وكان القرآن كلمة الله وكتابه الخالد ودستور البشريّة المعجز .

وفي ذكراه (ص)؛ نعيش التجربة الأساسيّة الأولى للدعوة إلى الله، ونتلمَّس - بوضوح - الأسس التي ارتكزت عليها، والأساليب التي جرت فيها، وكيف كان صمود المسلمين الأوّلين وقوّتهم الروحية، وتضحياتهم في سبيل الله، واستهانتهم بالقوى الباغية الظالمة التي كانت تضطهد عقيدتهم، وارتفاعهم عنها في عظمة وجلال.. وكانت شخصيّة النبيّ (ص) معهم في كلّ ذلك، فهي الروح التي ترفّ على التجربة لئلّا تنحرف عن طريقها الصحيح، والقوّة التي تستند إليها الأسس لئلّا تنهار، والخلق العظيم الذي بعث في الأساليب خفقة قلبه ورقّة روحه، لئلّا تتلوَّن بغير اللّون الذي أراده الله لها .

وهي، بعد ذلك كلّه، القيادة الواعية التي تقود القافلة إلى شاطئ الكرامة والحياة المطمئنّة الرضيّة.

كلّ هذه الصور، وكلّ هذه المشاعر، تمرّ بنا ونحن نعيش ذكرى النبيّ (ص)، ونستروح ظلالها.

مشاكل متنوّعة

واليوم، ونحن نستقبل هذه الذّكرى المقدَّسة لنعيش إيحاءاتها وأهدافها، نواجه كثيراً من الظروف والمشاكل التي رافق كثير منها بدء الدعوة الإسلاميّة، وعاشها المسلمون الأوَّلون، فهناك المشاكل العقائدية، سواء في ذلك التي انطلقت من داخل الحياة الإسلاميّة، فخلَّفت وراءها الكثير من المذاهب والطوائف الإسلاميّة، أو التي انطلقت من واقع الحضارة الغربيّة ومفاهيمها وفلسفتها الروحيّة الأصيلة.

وهناك المشاكل الاجتماعيّة التي غزت حياتنا، فلوَّنت جوانبها بألوان بعيدة كلّ البعد عن تاريخها وعقيدتها. وهنا كانت الانحلاليّة والفوضوية والتهرب من المسؤولية وغيرها، سمة واضحة من سمات كثير من المجتمعات التي تعيش في بلاد الإسلام، ما جعل النظرة العامّة التي تؤخذ عن واقع المسلمين، تمثّل التأخر والانحطاط في المجال الحضاري والاجتماعي .

وهناك - إلى جانب ذلك - المشكلة السياسية التي نشأت عن ضعف المسلمين وتأخرهم وانحطاطهم وضياع الكيان الواحد، الأمر الذي أدَّى الى سيطرة الكافر المستعمر على بلادهم وعلى مقدِّراتها، حتى باتت المشاكل الاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها أمراً طبيعيّاً مألوفاً في هذه البلاد.

تلك هي المشاكل والظروف التي نواجهها ونحن نستقبل هذه الذّكرى، فما الذي نستفيده منها؟

دروسٌ من وحيِ الذّكرى

ربما نستطيع - في جوانب هذا التساؤل - أن نتمثّل بعض الدروس التي تمثَّلت في حياة المسلمين الأوَّلين، فقد كانت تواجههم مشاكل كثيرة في مستوى المشاكل التي نعيشها، وإن اختلفت عنها في اللّون والأسلوب نتيجة اختلاف الزّمن.

أمّا موقفهم منها، فقد كان يتمثّل في الارتفاع إلى مستوى تلك المشاكل ومعالجتها بإيجابيّة بنّاءة، وصراحة قويّة .

أمّا التهرّب من مواجهة المشكلة، أمَّا الاكتفاء بالخروج من العهدة وإسقاط الواجب من دون محاولة الوصول إلى حلّ، أمّا ذلك، فلم نلمح له أثراً في حياتهم النضاليَّة الطّويلة.

وإذا أردنا أن نبحث عن سبب ذلك، نجد أنَّ العقيدة التي يحملونها في أرواحهم، ويعيشونها في وجداناتهم، لم تكن تعني - بالنّسبة إليهم - قضية ذاتية يحيونها في داخل ذواتهم، ويمارسون وظائفها العملية في حياتهم الخارجيّة، ثم ينطلقون بعد ذلك إلى حياتهم العادية يعيشونها في هدوء واطمئنان، من دون أن يخلّفوا وراءهم ما يثقل ضمائرهم أو حياتهم، أو يقدّموا أمامهم ما يحفّزهم للجهاد والعمل.

إنها لم تكن تعني ذلك في حياتهم، وإنما كانت تعني قضيّة رسالة، عاشوا في أعماق أنفسهم حيويتها، وتنفّسوا في آفاقها الروحية روحيتها، ولمسوا بذهنيّتهم الخصبة وتجاربهم السّليمة ما تستطيع أن تقدِّمه إلى العالم من حلول لمشاكله الكثيرة، فآمنوا بها، وحملوها إلى العالم رسالة هدى ونور .

ومتى استطاعت العقيدة أن تتحوّل إلى رسالة في ضمير الإنسان، فمعنى ذلك أنها بدأت تنطلق من النطاق الذاتي الضيّق، إلى النطاق الحياتي الواسع؛ لأنها تتحوّل إلى قوة فاعلة تتحرك في داخل الإنسان، لتحرك الحياة من حوله في عملية تجديد وبناء، وبالتّالي، لتجعل حياة هذا الإنسان تجسيداً حياً للعقيدة، وصورة حية لفاعليتها وإيجابيتها.

وهكذا اكتشف المسلمون الأوّلون في عقيدتهم - التي اعنتقوها بوحي الفطرة الهادية التي أيقظها النبيّ في نفوسهم، فبدَّد عنها ضباب العصور المظلمة - أنها ليست مجرّد عقيدة توحيها الفطرة ويهدي إليها الوجدان، وإنما هي رسالة شاملة تنظّم علاقات الإنسان بالله وبالمجتمع وبالحياة بشكل عامّ .

وهكذا اكتشفوا أنهم أصحاب رسالة، وليسوا مجرَّد أتباع عقيدة، فارتفعوا إلى مستواها، فكانت التّضحية التي لا تقف عند حدّ، وإنما تبذل حتى لا يبقى بعد ذلك مجال للبذل، ولا موضع للفداء، وكان الجهاد الصّامد الذي يندفع لبناء كيان الإنسان الخيّر في الأرض بدلاً من الإنسان الشرير؛ ولذا فهو لا يستهدف قتل الإنسان الكافر، وإنما يحاول تحطيم فكرة الشرّ في نفوسهم.. وكانت الانطلاقة الروحيّة التي تتسامح وتتسامح، حتى لا يبقى هناك منطلق للتسامح ولا مورد للتّساهل، وكانت الروح الكبيرة الواسعة التي تواجه العالم وتتحدّى قسوته وعنفه وظلامه بروحيّة حرة قوية متسامحة، لا تأخذ عليه قسوته عليها، لأنها تدرك جهله لرسالتها، ومدى مسؤوليّتها تجاه إنقاذه من جهله، وتدرك - إلى جانب ذلك - مدى ما يفعله الجهل ويصنعه بأصحابه، ولا تحقد عليه، لأنها تحسّ بعمق الظلمة التي يتخبّط بها .

وهكذا استطاعوا أن يقفوا أمام العالم بقوّة لا حدّ لها، فتحدّوا أصنامه وأعرافه وتقاليده السخيفة، وخرافاته وأساطيره العمياء، وظلماته الروحية والفكرية، بفضل الرّوح الرساليّة الحرّة التي اكتشفوها في أنفسهم .

وبين هذه القوّة التي لا تقف عند حدّ، وبين هذه الصفات التي تشيع في أجواء الصّراع ومجالاته روح الطمأنينة والطّهر والصفاء، برزت رسالة الإسلام - في برهة وجيزة -كأقوى ما تكون الرسالات، حانية كأحنى ما تكون الحياة.

الموقف الإيجابيّ

ذلك هو ما نفهمه الآن من السبب الذي جعل المسلمين الأوّلين يقفون ذلك الموقف ويرتفعون ذلك الارتفاع .

فما هو موقفنا منه؟

إنّه – بالطبع - لن يكون موقف اللامبالاة والسلبيّة العمليّة؛ لأنّ مثل هذا الموقف لا ينطلق من مجتمع يحاول أن يعي قضيّته، ويرسم طريقه على هدى هذا الوعي، ولا يتمثّل في وجدان الأمّة التي تعيش مشاكلها الكثيرة بعمق، وتبحث عن حلولها .

لن يكون الموقف ذلك؛ لأنّنا لا نزال نعيش القلق ونتغذّى به في عملية استثارة وتوعية. والقلق عامل نفسي يترصّد اللّمحة من النور ليختطفها، والهمسة من الحقّ ليلتقطها؛ إنّه يبحث ويفتّش عن الحلّ، ولذا، فهو يستوعب، في ذاته، كلّ محاولة للوصول إليه، ليبدأ بعد ذلك عملية الاختبار والاختيار.

إنّنا لا نزال نعيش القلق؛ القلق من واقعنا ومصيرنا، ومصير الإسلام في هذا العصر الّذي يملك أعداؤنا كلّ مقوّمات القوّة المادّية، بينما تحتشد في كياننا كلّ إمكانيات الضّعف المادّي، إن صحّ أنّ للضّعف إمكانيات. ولكن لن يكون التمزق والتردي في وهدة اليأس والقنوط هو حصيلتنا من هذا القلق، فقد قدَّمنا أنّنا نعيش القلق ونتغذّى به في عملية استثارة وتوعية. وما دام الأمر كذلك، فسيبقى فى محاولة دائمة متّصلة للوصول إلى الحلّ.

وهنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه مع تجربة المسلمين الأوَّلين في دعوتهم إلى الإسلام، فإن القضية هي القضية، وبذلك يكون الموقف هو الموقف. فقد نلاحظ، في ما يبدو لنا، وجود التقاء كبير بين طبيعة الفترة الّتي عاشها المسلمون في بداية الدعوة، وبين طبيعة هذه الفترة التي نعيشها الآن. فقد كان الإنسان يعيش في تيهٍ من العقائد والخرافات والأساطير بالوهم، ومن هنا، كانت الحياة التي يعيشها صورةً لهذا التيه ولهذه الحياة التي يتخبّط فيها، فلا دليل يأخذ بيده إلى الطريق الواضح والصّراط المستقيم، ولا هدى يهتدي به إلى الحقيقة الأصلية العارية، ولا نور يستنير به في هذا التّيه المظلم. وهكذا يعيش الإنسان في عصرنا هذا - مع الاحتفاظ بالفارق بين طبيعة العصرين - يعيش القلق والتمزّق والحيرة والتّيه بين هذا الركام الهائل من اتجاهاته المتضاربة، وتياراته المختلفة، وعقائده المتباينة التي يختلط فيها الحقد بالصّراع، والقوّة بالفكر، فلا يهتدي إلى روحيّة تبعث في نفسه روح الطّمأنينة، ولا يستكين إلى مادية تثير في نفسه عاصفة الرّغبة .

وهكذا، تلتقي الفترتان في حاجتهما إلى الإسلام، وهكذا نلتقي بالمسلمين الأوَّلين في أصالة التّجربة التي عاشوها وعمقها، للوقوف -كما وقفوا - أمام هذه القوى الهائلة التي تواجهنا في طريق الدّعوة، مع ضعف في القوى وقوة في الإيمان.

وعي القضيّة

ولكن، كيف نلتقي بتجربتهم في حياتنا الحاضرة؟

فلم تكن تجربتهم نابعة من خطة خارجية سلكوها في طريق الدعوة، بل كانت نابعة من معاناتهم لعقيدتهم وشعورهم بها كرسالة، لا كقضيّة ذاتيّة، وإيمانهم بضرورة إخضاع الحياة لهذه الرسالة بقوّة ورحمة، كما قدَّمنا في صدر الحديث.

ومن الطبيعيّ أن لا نستطيع تعلّم هذه التجربة أو استعارتها، لأنها تنبع من داخل الإنسان، لتجري في خارج وجوده.

ولكنّنا نستطيع أن نعيشها إذا وعينا قضيّة جيلنا الذي نعاصره ومسؤوليّتنا تجاهه، وقضيّة الإسلام في الحياة، وما يستطيع أن يقدِّمه لهذا الجيل والأجيال الأخرى من حلول عمليّة لمشاكله، وعرفنا كيف نستثير هذا الوعي ونغذّيه .

إنّ تحقّق مثل هذا الوعي للقضيّة، ومثل هذه المعرفة لوسائل إثارتها، يضع أقدامنا على أول طريق النصر، لأنّه يفتح أعيننا على واقع التجربة الرساليّة التي عاشها أولئك المسلمون، وبذلك نستطيع أن نسير في الطّريق التي ساروا عليها، لنحصل على النتيجة الّتي حصلوا عليها بإذن الله.

المستوى المطلوب

تلك هي بعض الدروس التي نستطيع أن نستفيدها من ذكرى النبيّ (ص) لنربط حاضرنا بماضينا، ونحاول أن نصوغ مستقبلنا بوحي من هذا الارتباط، وندخل الحياة بروح إيجابيّة بنّاءة، وندع النظرة السلبيّة الكسلى التي يهمّها أن تلقي العبء عن عاتقها أكثر مما يهمّها أن تصل إلى الهدف المنشود .

وبهذا، يمكننا أن نلحق بالأحداث العالميّة التي سبقتنا، ونعيش في مستواها لنعمل من ذلك المستوى، فإنّ الإنسان الّذي لا يعيش هذه الروح الإيجابيّة التي تحمل عبء الرسالات، لن يستطيع أن يتابع إلى ذلك المستوى بطبيعة الحال.

وهكذا نستطيع أن نستفيد من هذه الذّكرى، ونجعل منها أداةً للنفع والعطاء وإشاعة المعاني الخيرة، بدلاً من أن تكون أداةً للّهو والعبث، وإشاعة المعاني الانهزاميّة الخائرة، فتتحوّل بذلك من مجال الاستغلال البشع من قبل أعداء الإسلام، إلى مجال حيّ نافع للدّعوة الإسلاميّة، والعمل الخيّر في سبيل الله .

والله سبحانه من وراء القصد.

* مقال لسماحته منشور في مجلّة "الأضواء" في النّجف منذ أكثر من خمسين عاماً، تحت عنوان "ذكرى النبيّ الأعظم (ص) وما نستفيد منها".

في ذكرى النبي الأعظم محمّد (ص)، في كلّ ذكرى نستعيدها من حياته، في مولده ومبعثه، في هجرته ووفاته، في كل كلمة قالها، لينير الدرب لنا نحو مستقبل قويّ زاهر، في كلّ خطوة خطاها ليعبّد لنا طريق العزّة والكرامة، في كلّ جهاد خاضه في سبيل تركيز قواعد الإسلام وإعلاء كلمة الله...

في كلّ ذلك وفي غيره مما يتصل بحياته، مجالات واسعة للعبرة والدرس، لو أحسنّا درسها والاعتبار بها .

القيادة الواعية

ومن الواضح أنّ ذكراه (ص) تختلف عن أيّ ذكرى إسلاميّة أخرى، في معطياتها ودروسها وحيويتها؛ لأنها تمثّل الشخصية المقدَّسة للمسلم الأوّل الذي اكتشف القمة وقادنا إليها، ووعى الحقيقة الأولى ودلّنا عليها، وعرف سحر الكلمة الطيّبة الحانية الهادفة لخير الإنسان، فكانت الكلمة رسالة السَّماء الى الأرض، وكان القرآن كلمة الله وكتابه الخالد ودستور البشريّة المعجز .

وفي ذكراه (ص)؛ نعيش التجربة الأساسيّة الأولى للدعوة إلى الله، ونتلمَّس - بوضوح - الأسس التي ارتكزت عليها، والأساليب التي جرت فيها، وكيف كان صمود المسلمين الأوّلين وقوّتهم الروحية، وتضحياتهم في سبيل الله، واستهانتهم بالقوى الباغية الظالمة التي كانت تضطهد عقيدتهم، وارتفاعهم عنها في عظمة وجلال.. وكانت شخصيّة النبيّ (ص) معهم في كلّ ذلك، فهي الروح التي ترفّ على التجربة لئلّا تنحرف عن طريقها الصحيح، والقوّة التي تستند إليها الأسس لئلّا تنهار، والخلق العظيم الذي بعث في الأساليب خفقة قلبه ورقّة روحه، لئلّا تتلوَّن بغير اللّون الذي أراده الله لها .

وهي، بعد ذلك كلّه، القيادة الواعية التي تقود القافلة إلى شاطئ الكرامة والحياة المطمئنّة الرضيّة.

كلّ هذه الصور، وكلّ هذه المشاعر، تمرّ بنا ونحن نعيش ذكرى النبيّ (ص)، ونستروح ظلالها.

مشاكل متنوّعة

واليوم، ونحن نستقبل هذه الذّكرى المقدَّسة لنعيش إيحاءاتها وأهدافها، نواجه كثيراً من الظروف والمشاكل التي رافق كثير منها بدء الدعوة الإسلاميّة، وعاشها المسلمون الأوَّلون، فهناك المشاكل العقائدية، سواء في ذلك التي انطلقت من داخل الحياة الإسلاميّة، فخلَّفت وراءها الكثير من المذاهب والطوائف الإسلاميّة، أو التي انطلقت من واقع الحضارة الغربيّة ومفاهيمها وفلسفتها الروحيّة الأصيلة.

وهناك المشاكل الاجتماعيّة التي غزت حياتنا، فلوَّنت جوانبها بألوان بعيدة كلّ البعد عن تاريخها وعقيدتها. وهنا كانت الانحلاليّة والفوضوية والتهرب من المسؤولية وغيرها، سمة واضحة من سمات كثير من المجتمعات التي تعيش في بلاد الإسلام، ما جعل النظرة العامّة التي تؤخذ عن واقع المسلمين، تمثّل التأخر والانحطاط في المجال الحضاري والاجتماعي .

وهناك - إلى جانب ذلك - المشكلة السياسية التي نشأت عن ضعف المسلمين وتأخرهم وانحطاطهم وضياع الكيان الواحد، الأمر الذي أدَّى الى سيطرة الكافر المستعمر على بلادهم وعلى مقدِّراتها، حتى باتت المشاكل الاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها أمراً طبيعيّاً مألوفاً في هذه البلاد.

تلك هي المشاكل والظروف التي نواجهها ونحن نستقبل هذه الذّكرى، فما الذي نستفيده منها؟

دروسٌ من وحيِ الذّكرى

ربما نستطيع - في جوانب هذا التساؤل - أن نتمثّل بعض الدروس التي تمثَّلت في حياة المسلمين الأوَّلين، فقد كانت تواجههم مشاكل كثيرة في مستوى المشاكل التي نعيشها، وإن اختلفت عنها في اللّون والأسلوب نتيجة اختلاف الزّمن.

أمّا موقفهم منها، فقد كان يتمثّل في الارتفاع إلى مستوى تلك المشاكل ومعالجتها بإيجابيّة بنّاءة، وصراحة قويّة .

أمّا التهرّب من مواجهة المشكلة، أمَّا الاكتفاء بالخروج من العهدة وإسقاط الواجب من دون محاولة الوصول إلى حلّ، أمّا ذلك، فلم نلمح له أثراً في حياتهم النضاليَّة الطّويلة.

وإذا أردنا أن نبحث عن سبب ذلك، نجد أنَّ العقيدة التي يحملونها في أرواحهم، ويعيشونها في وجداناتهم، لم تكن تعني - بالنّسبة إليهم - قضية ذاتية يحيونها في داخل ذواتهم، ويمارسون وظائفها العملية في حياتهم الخارجيّة، ثم ينطلقون بعد ذلك إلى حياتهم العادية يعيشونها في هدوء واطمئنان، من دون أن يخلّفوا وراءهم ما يثقل ضمائرهم أو حياتهم، أو يقدّموا أمامهم ما يحفّزهم للجهاد والعمل.

إنها لم تكن تعني ذلك في حياتهم، وإنما كانت تعني قضيّة رسالة، عاشوا في أعماق أنفسهم حيويتها، وتنفّسوا في آفاقها الروحية روحيتها، ولمسوا بذهنيّتهم الخصبة وتجاربهم السّليمة ما تستطيع أن تقدِّمه إلى العالم من حلول لمشاكله الكثيرة، فآمنوا بها، وحملوها إلى العالم رسالة هدى ونور .

ومتى استطاعت العقيدة أن تتحوّل إلى رسالة في ضمير الإنسان، فمعنى ذلك أنها بدأت تنطلق من النطاق الذاتي الضيّق، إلى النطاق الحياتي الواسع؛ لأنها تتحوّل إلى قوة فاعلة تتحرك في داخل الإنسان، لتحرك الحياة من حوله في عملية تجديد وبناء، وبالتّالي، لتجعل حياة هذا الإنسان تجسيداً حياً للعقيدة، وصورة حية لفاعليتها وإيجابيتها.

وهكذا اكتشف المسلمون الأوّلون في عقيدتهم - التي اعنتقوها بوحي الفطرة الهادية التي أيقظها النبيّ في نفوسهم، فبدَّد عنها ضباب العصور المظلمة - أنها ليست مجرّد عقيدة توحيها الفطرة ويهدي إليها الوجدان، وإنما هي رسالة شاملة تنظّم علاقات الإنسان بالله وبالمجتمع وبالحياة بشكل عامّ .

وهكذا اكتشفوا أنهم أصحاب رسالة، وليسوا مجرَّد أتباع عقيدة، فارتفعوا إلى مستواها، فكانت التّضحية التي لا تقف عند حدّ، وإنما تبذل حتى لا يبقى بعد ذلك مجال للبذل، ولا موضع للفداء، وكان الجهاد الصّامد الذي يندفع لبناء كيان الإنسان الخيّر في الأرض بدلاً من الإنسان الشرير؛ ولذا فهو لا يستهدف قتل الإنسان الكافر، وإنما يحاول تحطيم فكرة الشرّ في نفوسهم.. وكانت الانطلاقة الروحيّة التي تتسامح وتتسامح، حتى لا يبقى هناك منطلق للتسامح ولا مورد للتّساهل، وكانت الروح الكبيرة الواسعة التي تواجه العالم وتتحدّى قسوته وعنفه وظلامه بروحيّة حرة قوية متسامحة، لا تأخذ عليه قسوته عليها، لأنها تدرك جهله لرسالتها، ومدى مسؤوليّتها تجاه إنقاذه من جهله، وتدرك - إلى جانب ذلك - مدى ما يفعله الجهل ويصنعه بأصحابه، ولا تحقد عليه، لأنها تحسّ بعمق الظلمة التي يتخبّط بها .

وهكذا استطاعوا أن يقفوا أمام العالم بقوّة لا حدّ لها، فتحدّوا أصنامه وأعرافه وتقاليده السخيفة، وخرافاته وأساطيره العمياء، وظلماته الروحية والفكرية، بفضل الرّوح الرساليّة الحرّة التي اكتشفوها في أنفسهم .

وبين هذه القوّة التي لا تقف عند حدّ، وبين هذه الصفات التي تشيع في أجواء الصّراع ومجالاته روح الطمأنينة والطّهر والصفاء، برزت رسالة الإسلام - في برهة وجيزة -كأقوى ما تكون الرسالات، حانية كأحنى ما تكون الحياة.

الموقف الإيجابيّ

ذلك هو ما نفهمه الآن من السبب الذي جعل المسلمين الأوّلين يقفون ذلك الموقف ويرتفعون ذلك الارتفاع .

فما هو موقفنا منه؟

إنّه – بالطبع - لن يكون موقف اللامبالاة والسلبيّة العمليّة؛ لأنّ مثل هذا الموقف لا ينطلق من مجتمع يحاول أن يعي قضيّته، ويرسم طريقه على هدى هذا الوعي، ولا يتمثّل في وجدان الأمّة التي تعيش مشاكلها الكثيرة بعمق، وتبحث عن حلولها .

لن يكون الموقف ذلك؛ لأنّنا لا نزال نعيش القلق ونتغذّى به في عملية استثارة وتوعية. والقلق عامل نفسي يترصّد اللّمحة من النور ليختطفها، والهمسة من الحقّ ليلتقطها؛ إنّه يبحث ويفتّش عن الحلّ، ولذا، فهو يستوعب، في ذاته، كلّ محاولة للوصول إليه، ليبدأ بعد ذلك عملية الاختبار والاختيار.

إنّنا لا نزال نعيش القلق؛ القلق من واقعنا ومصيرنا، ومصير الإسلام في هذا العصر الّذي يملك أعداؤنا كلّ مقوّمات القوّة المادّية، بينما تحتشد في كياننا كلّ إمكانيات الضّعف المادّي، إن صحّ أنّ للضّعف إمكانيات. ولكن لن يكون التمزق والتردي في وهدة اليأس والقنوط هو حصيلتنا من هذا القلق، فقد قدَّمنا أنّنا نعيش القلق ونتغذّى به في عملية استثارة وتوعية. وما دام الأمر كذلك، فسيبقى فى محاولة دائمة متّصلة للوصول إلى الحلّ.

وهنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه مع تجربة المسلمين الأوَّلين في دعوتهم إلى الإسلام، فإن القضية هي القضية، وبذلك يكون الموقف هو الموقف. فقد نلاحظ، في ما يبدو لنا، وجود التقاء كبير بين طبيعة الفترة الّتي عاشها المسلمون في بداية الدعوة، وبين طبيعة هذه الفترة التي نعيشها الآن. فقد كان الإنسان يعيش في تيهٍ من العقائد والخرافات والأساطير بالوهم، ومن هنا، كانت الحياة التي يعيشها صورةً لهذا التيه ولهذه الحياة التي يتخبّط فيها، فلا دليل يأخذ بيده إلى الطريق الواضح والصّراط المستقيم، ولا هدى يهتدي به إلى الحقيقة الأصلية العارية، ولا نور يستنير به في هذا التّيه المظلم. وهكذا يعيش الإنسان في عصرنا هذا - مع الاحتفاظ بالفارق بين طبيعة العصرين - يعيش القلق والتمزّق والحيرة والتّيه بين هذا الركام الهائل من اتجاهاته المتضاربة، وتياراته المختلفة، وعقائده المتباينة التي يختلط فيها الحقد بالصّراع، والقوّة بالفكر، فلا يهتدي إلى روحيّة تبعث في نفسه روح الطّمأنينة، ولا يستكين إلى مادية تثير في نفسه عاصفة الرّغبة .

وهكذا، تلتقي الفترتان في حاجتهما إلى الإسلام، وهكذا نلتقي بالمسلمين الأوَّلين في أصالة التّجربة التي عاشوها وعمقها، للوقوف -كما وقفوا - أمام هذه القوى الهائلة التي تواجهنا في طريق الدّعوة، مع ضعف في القوى وقوة في الإيمان.

وعي القضيّة

ولكن، كيف نلتقي بتجربتهم في حياتنا الحاضرة؟

فلم تكن تجربتهم نابعة من خطة خارجية سلكوها في طريق الدعوة، بل كانت نابعة من معاناتهم لعقيدتهم وشعورهم بها كرسالة، لا كقضيّة ذاتيّة، وإيمانهم بضرورة إخضاع الحياة لهذه الرسالة بقوّة ورحمة، كما قدَّمنا في صدر الحديث.

ومن الطبيعيّ أن لا نستطيع تعلّم هذه التجربة أو استعارتها، لأنها تنبع من داخل الإنسان، لتجري في خارج وجوده.

ولكنّنا نستطيع أن نعيشها إذا وعينا قضيّة جيلنا الذي نعاصره ومسؤوليّتنا تجاهه، وقضيّة الإسلام في الحياة، وما يستطيع أن يقدِّمه لهذا الجيل والأجيال الأخرى من حلول عمليّة لمشاكله، وعرفنا كيف نستثير هذا الوعي ونغذّيه .

إنّ تحقّق مثل هذا الوعي للقضيّة، ومثل هذه المعرفة لوسائل إثارتها، يضع أقدامنا على أول طريق النصر، لأنّه يفتح أعيننا على واقع التجربة الرساليّة التي عاشها أولئك المسلمون، وبذلك نستطيع أن نسير في الطّريق التي ساروا عليها، لنحصل على النتيجة الّتي حصلوا عليها بإذن الله.

المستوى المطلوب

تلك هي بعض الدروس التي نستطيع أن نستفيدها من ذكرى النبيّ (ص) لنربط حاضرنا بماضينا، ونحاول أن نصوغ مستقبلنا بوحي من هذا الارتباط، وندخل الحياة بروح إيجابيّة بنّاءة، وندع النظرة السلبيّة الكسلى التي يهمّها أن تلقي العبء عن عاتقها أكثر مما يهمّها أن تصل إلى الهدف المنشود .

وبهذا، يمكننا أن نلحق بالأحداث العالميّة التي سبقتنا، ونعيش في مستواها لنعمل من ذلك المستوى، فإنّ الإنسان الّذي لا يعيش هذه الروح الإيجابيّة التي تحمل عبء الرسالات، لن يستطيع أن يتابع إلى ذلك المستوى بطبيعة الحال.

وهكذا نستطيع أن نستفيد من هذه الذّكرى، ونجعل منها أداةً للنفع والعطاء وإشاعة المعاني الخيرة، بدلاً من أن تكون أداةً للّهو والعبث، وإشاعة المعاني الانهزاميّة الخائرة، فتتحوّل بذلك من مجال الاستغلال البشع من قبل أعداء الإسلام، إلى مجال حيّ نافع للدّعوة الإسلاميّة، والعمل الخيّر في سبيل الله .

والله سبحانه من وراء القصد.

* مقال لسماحته منشور في مجلّة "الأضواء" في النّجف منذ أكثر من خمسين عاماً، تحت عنوان "ذكرى النبيّ الأعظم (ص) وما نستفيد منها".

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير