مقابلات
17/07/2019

آذرشب : السيِّد فضل الله صاحب مشروعٍ حضاريٍّ إحيائيٍّ ويجب استكماله

الدكتور محمد علي آذرشب

على هامش الذّكرى السنويّة التّاسعة لرحيل العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض)، استضافت قناة الإيمان الفضائيّة، الباحث والمفكّر الإسلامي، وأستاذ الأدب العربي في جامعة طهران، الدكتور محمد علي آذرشب، في حوارٍ مع الإعلامي الأستاذ غانم اللولاسي، تناول مشروع سماحة المرجع فضل الله ومرتكزاته وأهدافه، وكيفيّة المحافظة عليه والاستمرار فيه، إضافةً إلى عناوين أخرى.


 من عناوين الحوار : مدرسة ومشروع - نظريّة الإحياء الحضاريّ- الوحدة والمؤتمرات! - السيّد الدّاعية - السيّد الأديب والشّاعر - عوامل تسند الوحدة - مفردة الحبّ!- بالحبّ ننفتح على الآخر - كيف نحافظ على المشروع؟! - استلهام واقتداء - حرب بين التخلّف والوعي:

- مدرسة ومشروع

س: حضرتم للمشاركة في الذكرى السنوية التاسعة لرحيل العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، فلسفة هذه الذّكرى هي إحياء لمنظومة القيم، إحياء لنهج الإسلام السّمح، إحياء لإسلام متنوّر خال من التعصّب والطّائفيّة والحقد..

بدايةً، كيف يمكن الحفاظ على هذه المكتسبات في واقعنا اليوم، واقع الأمَّة إذا صحَّ التَّعبير؟

ج: أشكركم على هذه الدَّعوة والاستضافة، وأقول: أوّلاً، إنّ شخصيّة مثل السيد محمد حسين فضل الله ليست فرداً، وإنما هي مدرسة.

هذه المدرسة ينبغي أن تبقى وتتبلور وتنتشر.

كثير من الشَّخصيَّات الّتي ظهرت في تاريخنا القديم والمعاصر، يجب أن يتواصل مشروعها على مرِّ الأيَّام، إذا كانت صاحبة مشروع وصاحبة فكر جديد، ومن المؤكَّد أنَّ السيِّد فضل الله صاحب مشروع وصاحب فكر جديد، وهذا يجب أن يتواصل عبر الأجيال، لأنّنا بعد سقوط العالم الإسلاميّ، أصبحنا نعيش في تخلّف حضاريّ، وهذه مسألة يجب أن يأخذها كلّ المهتمّين بشؤون العالم الإسلامي بعين الاعتبار.

في القرن الخامس الهجري، كان هناك شخص في الأندلس اسمه القاضي صاعد، كتب كتاباً اسمه "طبقات الأمم"، فيه فصل "لماذا تقدّم المسلمون وتخلّف الفرنجة؟"، ويقصد الأوروبّيين، يعني كان أمام ظاهرة عجيبة، وهي أنّ المسلمين متقدّمون والفرنجة متخلّفون، فأصبح يفكّر ما هو السّبب؟

وفي القرن العشرين، يكتب شكيب أرسلان كتاباً: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدّم غيرهم؟ وهذا يدلّ على أنّنا دخلنا في عصر انحدار في الحضارة الإسلاميَّة. في ذلك الوقت، كان العالم الإسلاميّ مرجعاً في العلوم الإنسانيَّة والماديَّة والطبّية والهندسيّة والدينيّة، ولكن اليوم، تقدّم الغرب، وصار الغرب هو المرجع، وصرنا نحن متخلّفين!

هذه حقيقة يجب أن نعترف بها. وكيف يمكن أن نتجاوز هذا التخلّف؟ هناك مفكّرون اهتمّوا بهذه المسألة، ومنهم سماحة السيّد (رض)، فقد اهتمّ كثيراً بمسألة التخلّف الموجود في العالم الإسلامي، وطبعاً هناك الكثير من الأفراد الذين فكّروا في هذه المسألة، وقدَّموا مشاريعهم، مثل عبد الرحمن الكواكبي، صاحب مشروع الفتور، فهو يعتقد أن كلّ مشاكل العالم الإسلامي ناتجة من حالة الفتور في الشعور وفي الروحيّة، ولذلك يدعو إلى نهضة روحيّة جديدة...

وحتى مثلاً شخص مثل أبي القاسم الشّابي، الشّاعر الذي فارق الحياة وهو في السادسة والعشرين من عمره، كان صاحب مشروع حضاريّ، فكّر لماذا تخلّف المسلمون، وبيّن أسباب التخلّف، ودعا إلى يقظة الإحساس. وهكذا كلّ المفكّرين في العالم الإسلامي، سواء في الشّرق أو الغرب.

س: وطبعاً هناك الكواكبي وجمال الدين الأفغاني والشّيخ محمد عبده... وكلّهم كانوا يطرحون شعار الإصلاح وشعار التغيير والتّنوير...

وهكذا عندنا الشَّهيد مطهَّري، والإمام الخميني، وأيضاً السيّد الخامنئي، هؤلاء أصحاب مشاريع، وإن كان الإمام الخميني والسيّد الخامنئي قد دخلا في المشروع العملي لهذا الموضوع، ولكن هم أصحاب فكر وأصحاب نظريّة في هذه المسألة.

هؤلاء أصحاب المشاريع عندما يغادرون السَّاحة، يجب أن لا تغادر مدرستهم السَّاحة أيضاً. يجب على كلّ الذين يهتموّن في مستقبل العالم الإسلامي، أن يبيّنوا مشاريع هؤلاء، ويقدِّموها إلى الأجيال القادمة، لكي تكون زاداً لمسيرتهم المستقبليّة، وإلا فقدنا أكبر تجربة في حياتنا الإسلاميَّة.

- نظريّة الإحياء الحضاريّ

س: ومن هذا المنطلق، تحدَّث سماحة المرجع فضل الله عن مأسسة العالم الإسلاميّ، باعتبار أنّ المؤسّسة لا تموت بموت فرد، حتى وإن مات الفرد، فالمسيرة تستمرّ، والعطاء يستمرّ!

ج: هو هذا، ولذلك ينبغي أن تكون كلّ عمليّة إحياء لذكرى سماحة السيّد، عمليّةَ إحياء لمشروعه الحضاريّ الّذي قدَّمه بشكل واسع وتفصيليّ، وسخّر كلّ حياته في كلّ كلماته له.

وهو صاحب نظريّة مهمّة جداً في مسألة الإحياء، فقد نظر إلى القرآن نظرة إحيائيّة، وكتب تفسيره بنظرة إحيائيّة حضاريّة، نظر إلى وضع العالم الإسلامي نظرة إحيائيّة حضاريّة، وركَّز على مسألة مهمَّة، وهي أنّ مسألة تفرّق المسلمين اليوم وتشرذمهم، إنما هو ناتج من التخلّف الحضاريّ، فلا يمكن أن نتجاوز حالة التّشرذم وحالة التمزّق الموجودة في العالم الإسلامي، إلا باستنهاض الأمَّة حضاريّاً، فإذا عادت إلى الحياة، وعادت إلى مسيرتها الحضاريَّة، فإنَّها تحيا، والجسم الحيّ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمّى، أمَّا إذا مات الجسد، فيتفكّك عضويّاً، ولا يمكن أن يفكّر كلّ عضو في العضو الآخر. من هنا، فإنّ مشروع السيّد هو مشروع حضاريّ، يعني لا يمكن أن نفكّر في وحدة إلّا أن نفكّر في الإحياء أوّلاً، والسيّد كان يكرّر هذه المسألة.

نحن في حالة تخلّفنا الحضاريّ، لا توجد عندنا مدارس مذهبيّة فكريّة وعلميّة، عندنا عشائر؛ عشيرة السنّة، وعشيرة الشيعة، وهذه الحالة العشائريّة هي إفراز لحالة التخلّف الحضاري الموجودة.

من هنا، فإنّه اهتمّ بالجانب الثقافي. يعني أنا بالنّسبة إليّ حصلت على هذه التجربة من السيّد... أنا كنت أكتب في مجلّة "رسالة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة"، وطبعاً هي مجلّة علميّة تنشر البحوث العلميّة الفكريّة في الفقه والكلام والفلسفة... إلخ، وقد وجدت من خلال مدرسة السيّد، أن المشكلة ليست مشكلة علمية، وليست مشكلة فقهيّة ولا كلاميّة، ولكن المشكلة مشكلة ثقافية. من هنا، فإنني غيّرت رأيي في هذا الطريق، وأصدرت نشرة شهريّة اسمها "ثقافة التقريب"، ركَّزت فيها على المفاهيم التي تستطيع أن تستنهض الشّعور، وتؤكِّد ضرورة الوحدة من منطلق شعوريّ، ومن منطلق عاطفيّ إنسانيّ، لا من منطلق الفكر وحده.

- الوحدة والمؤتمرات!

س: دكتورنا العزيز، إنّ سماحة السيّد (رض) كان يؤكّد على مسألة الوحدة الإسلاميّة، فدائماً في خطاباته، وفي ندواته العلميّة، كان يقول بالوحدة الإسلاميّة كمشروع جامع للأمّة الإسلاميّة، ولكن في واقعنا الرّاهن، قد نرى أنّ بعض مؤتمرات التقريب ومؤتمرات الوحدة لا تفي بالغرض المطلوب، ولا تصل إلى الكلمة الجامعة، حتّى إنّنا نجد أنّ الكثيرين بعد المؤتمرات، يعودون إلى غريزتهم وإلى التعصّب الطائفي. ما الخلل هنا؟

ج: أعتقد أنّ السيّد وضع يده على الجرح حينما قال إنَّ المشكلة مشكلة ثقافيّة لا مشكلة مؤتمرات، وإنّ هذه المسألة لا تحلّ بالمؤتمرات والنّدوات فقط.

يجب أن يكون هناك عمل ثقافيّ في تغيير المحتوى الفكري للنّاس، في تغيير المحتوى الشّعوري للناس. أنا أضرب لك مثالاً؛ السيّد محمّد باقر الصّدر (رض)، حينما كتب كتابي "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، قام بعمل وحدويّ في العالم الإسلامي أكبر من كلّ المؤسَّسات التي تعمل من أجل التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة، وهو لم يتحدَّث عن التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، ولم يتحدّث عن الوحدة الإسلاميّة، بل تحدّث عن المشروع الإسلاميّ العام، حينما يطرح المشروع الإسلاميّ العام بشكله الّذي يجعل الإنسان يعتزّ بإسلامه ودينه، ويرى أنّه لا يعيش الفراغ، وإنما يعيش في متطلّبات الساحة، ويعيش الأصالة والمعاصرة معاً، حينها تتحقَّق الوحدة.

وأنا من خلال تجاربي، ذهبت إلى شمال أفريقيا كثيراً، فوجدت أنّ كتابَيْ "اقتصادنا" و"فلسفتنا" قد انتشرا في تلك المناطق انتشاراً كبيراً، ولا ينظر النّاس إلى السيّد محمد باقر الصّدر كونه شيعيّاً أو سنيّاً، بل ينظرون إليه باعتباره صاحب مشروع إنسانيّ كبير، وهكذا السيّد فضل الله (رض)، صاحب مشروع كبير عنوانه الوحدة الإسلاميَّة.

الثّورة الإسلاميّة في إيران، ما إن انتصرت، حتى أسَّست لوحدة إسلاميّة شاملة بين فصائل الأمَّة، ولكنَّ أعداءها، طبعاً، تجهّزوا من أجل الانقضاض عليها، ومن أجل مصادرة هذه الوحدة الّتي حدثت بين فصائل الأمّة، ولكنّها أثرت تأثيراً كبيراً في كلّ المسلمين في العالم، بغضّ النظر عن اتجاههم المذهبيّ. لماذا؟ لأنها قدَّمت المشروع الإسلاميّ الكبير الّذي يجعل الإنسان المسلم يعتزّ بدينه ويعتزّ بإسلامه.

- السيّد الدّاعية

س: إذاً الخلل دكتور في بعض المؤتمرات الّتي لا تؤتي أكلها فيما يتعلّق بالوحدة الإسلاميَّة، ويمكن أن يكون هناك خلل ثقافي، وقد لا تعدو أن تكون هذه المؤتمرات للمجاملة السياسيّة فقط؟

ج: هذه هي المشكلة، أنّنا في المؤتمرات التي تعقد، غالباً ما تكون مؤتمرات مجاملة، وليست مؤتمرات من أجل استنهاض الرّوح، من أجل استنهاض الشّعور، من أجل جمع القلوب على صعيد واحد، ولذلك، فإنَّ السيّد (رض) أكّد أنَّ مقدّمة الوحدة الإسلاميّة يجب أن تكون في استنهاض الشعور، وفي الحضارة الإسلاميَّة الحديثة.

بالمناسبة، هناك مسألة مهمَّة أيضاً كانت في شخصيَّة السيِّد، وهي أنّه عندما كان يدعو للوحدة، كان قد خرج من ذاتيَّته وأنانيَّته، أي أنّه لم يتَّخذ الوحدة دكّاناً لعمله، وإنما اتخذها مثلاً أعلى لمشروعه، وكلّما كان العالم أو الدّاعية أقرب إلى أن يكون بعيداً من مصالحه الذاتيّة، يكون التّأثير أكبر.

مشكلتنا اليوم في العالم الإسلاميّ، أنَّ غالب المسلمين ينظرون إلى الدّعاة بعين الشَّكّ؛ أنّه هل هذا يتحدَّث من أجل مصلحته الذاتيَّة، من أجل أن يحصل على المال وعلى السّمعة وعلى المكانة، أو أنّه يخلص حقيقةً في عمله وفي دعوته؟! حينما يجدون الإخلاص، يلتفّون حوله...

إنَّ النّظرة الواسعة لا تأتي إلا من تجاوز الذاتيّة والأنانيّة، وإلا من خلال أن يكون الإنسان قادراً على الاستماع إلى الآخر.

الذاتيّة والأنانيّة صنم أيّما صنم، وهما طاغوت، وأكبر طاغوت يصاب به الإنسان هو طاغوت الذاتيّة، وحينما يصاب بطاغوت الذّاتيّة، تسدّ أذنه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.

فإذاً الاستماع والانفتاح على الآخر يرتبطان بتجاوز طاغوت الذّات الّذي يجعل الإنسان محصوراً في ذاته وفي شخصيّته، والآية الكريمة تؤكِّد هذه المسألة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً}. طبعاً الحديث عن يوم القيامة، ولكن هذه قاعدة عامّة.

الأغلال هي التي تحول دون الأخوّة. فالأخوَّة تتحقّق عندما تتحطّم أغلال الذاتيّة والأنانيّة والفرديّة والقوميّة والطائفيّة والحزبيّة، عندما تتحطّم هذه الأغلال، تتحقَّق الأخوّة.

س: جميلٌ هذا الموضوع، وله علاقة بتذكية النّفس أيضاً... وسماحة السيِّد (رض) لا يشكّ في ورعه وتقواه والابتعاد عن الحساسيّات في خطابه!

ج: أنا وقفت عند كتابه "عرفان القرآن"، وهو يركّز على هذه المسألة بشكل عجيب وبشكل مكثّف جداً، لأنّ الإنسان لا يمكن على الإطلاق أن يتجاوز الأنانيَّة وصنم الذّات، إلا عندما يتخلَّص من كلِّ ما يعيقه في طريقه...

- السيّد الأديب والشّاعر

س: سماحة السيّد كان يتحدَّث في محاضراته وكتاباته دائماً عن موضوع صنميّة الذّات، وكان يحارب هذه الفكرة، وكان لديه شعار "خطّ البطل لا بطل الخطّ"، لكي تستمرّ المسيرة بعد موت الجسد، هناك مواضيع كثيرة ومعاني كثيرة في مدرسة العلامة السيّد فضل الله (رض)، بينها أنّه كان يوصي بمسائل ومواضيع الأدب العربي والشّعر، وقد لا نجد هذه المواضيع حاضرة عند بعض الفقهاء، لأنّ الكثير من الفقهاء يشتغلون في مواضيع الفقه والأصول والعقيدة والأخلاق وما شابه ذلك، ولكنَّ البعض يقول إنّ الفقيه لا يتعاطى مع الأدب والشّعر، لأنها مسائل ترفيهيَّة، وليست من صنعة الفقيه. إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار هذا الكلام معقولاً؟

ج: في الحقيقة، الرّجل الفقيه يحتاج إلى الأدب العربي لسببين؛ سبب لغويّ، وسبب شعوريّ، الأدب لا يهذّب فقط اللّغة، وإنما يهذّب الشعور.

الإنسان الذي يعيش الأدب، يعيش لغة الشعور، ويجيد لغة الشعور، لأن الأدب من الشعور، والأدب أيضاً كلّه ناتج من ثورة الشّعور فيؤثّر في الشّعور، ولذلك، كلّ الفقهاء العظام، سواء القدامى أو المعاصرين، لهم اهتمام بالأدب. سماحة السيّد (رض) يقول إنّه وجد في الشّعر ما يساعده على تفهّم مشروع الإسلام في الحياة من منظور اجتهاديّ، يقول عن عمّه وأستاذه السيّد محمد سعيد فضل الله، "عندما ذهبت إليه لأعرف نصيحته لي بالاستمرار في نظم الشّعر أو تركه، شجّعني على الاستمرار في ذلك، وقال لي إنَّ الاجتهاد يحتاج إلى ذوق سليم صاف في فهم اللّغة، وإنَّ الأدب يعين على صفاء الفهم الواعي والذّوق السّليم، لأنَّ الاجتهاد ينطلق من فهم الكتاب والسنّة، ومن ثقافة أدبيّة تستطيع أن تتفهّم إيحاءات الكلام إلى جانب مضمونه". هذا ينقله عن السيّد محمد سعيد فضل الله.

وأنا أعتقد أنَّ سماحة السيّد ركّز هنا على الجانب اللّغوي، على العطاء اللّغوي بالنّسبة إلى الفقيه، وأنا أيضاً أؤكّد عطاءً آخر، وهو العطاء الشعوريّ، يعني مثلاً السيّد فضل الله (رض) كان منفتحاً، ليس على الأدب العربي فقط، وإنما على الأدب الروسي وعلى الأدب الفرنسي المترجم، وعلى الآداب المترجمة إلى اللّغة العربيّة، طبعاً هذه لا تساعده لغويّاً، ولكن تساعده شعورياً.

وكلّما كان شعورُ الفقيه، شعورُ المفكّر، ناضجاً ومتفتّحاً ومتوهّجاً، كانت قدرته على الإبداع والابتكار أفضل وأكثر.

من هنا، كان الرّجل يرى في الأدب خير معين على هذا الأمر. لاحظ ماذا يقول عن الشّعر:

إنما الشّعرُ دفقةٌ من شعاعٍ تنفثُ الوعيَ في لهيبِ قوانا

ونداءٌ من الحياةِ.. يمورُ الفكرُ في أفقِهِ طليقاً مُصانا

فإذاً الأدب أو الشّعر إنما هو يثير دفقة حياة في الإنسان، ويحرّك الفكر في أفقه ليكون طليقاً غير محدود بزمان ومكان.

وهو يرفع الإنسان من حدوده المنظورة، يرفعه إلى أفق واسع. وبالمناسبة، قد يقال إنّ الشّعر خيال، ولا ينبغي للفقيه أو المفكّر أن يعيش في الخيال! هذه نظرة خاطئة، لأنّ الخيال ليس وهماً. هناك فرق بين الخيال والوهم. الوهم خلاف الحقيقة، ولكنّ الخيال هو عبارة عن معرفة فوق معرفة الظّاهر، لأنَّ الإنسان حينما يحلّق في خياله، يرى أشياء لا يراها الإنسان العاديّ، ويفكّر في أفقٍ لا يفكّر فيه الإنسان العادي، ومن هنا ظهر الخيال العلميّ، ظهر التلفزيون والموبايل والطّائرة قبل أن تُخترَع...

س: حتى في المسائل الدينيّة، بعض الفقهاء قد يمدحون بعض المجتهدين، فيقول له مخيّلة واسعة في مجال الفقه...

ج: حتى حينما ينظر إلى مستقبل الإسلام، وإلى مستقبل المجتمعات الإسلاميّة، لا بدَّ أن ينظر إليها بقوَّة تفوق قوَّة الواقع الموجود، وإذا بقي قابعاً في الواقع الموجود، فلا يغيّر ولا يتغيّر، وهذه مسألة مهمَّة. يعني دور الأدب في الحياة هو دور استنهاض الشّعور، من أجل أن يرتفع الإنسان في فكره وخياله وعاطفته، ليغيّر وليرى المستقبل.

  

- عوامل تسند الوحدة

س: ... بالعودة إلى موضوع الوحدة الإسلاميّة، ما هي العوامل والقيم المساعدة التي تسند مبدأ الوحدة الإسلاميّة، في رأيكم؟

ج: العوامل التي تسند يذكرها سماحة السيّد. يقول أوّلاً: "التأسيس للقواعد المشتركة قبل التحرّك لمعالجة قضايا الاختلاف". فالإنسان صاحب الفكرة الواسعة، ينظر دائماً إلى المشتركات قبل أن ينظر إلى الاختلافات، والمشتركات بين المسلمين تكاد تكون 99 %، و1% هي في الاختلافات، فلماذا يكون التّركيز على الاختلافات، بينما القرآن يدعو إلى مشترك بيننا وبين الآخر غير المسلم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}.

بعد ذلك، يقول السيّد إنّ من القيم التي يجب أن نركّز عليها "الجدال بالتي هي أحسن"، والّتي تفسَّر بالتي هي أفضل، وأنا في اعتقادي تفسيرها هو التي هي أجمل، لأنّ الحسن هو الجمال، والأحسن هو الأجمل، يعني ينبغي أن يكون عندنا أجمل الطّرق للارتباط مع الآخر. وطبعاً اليوم أصبحت وسائل الإنترنت والتّواصل الاجتماعي متطوّرة جداً، ويجب أن نتَّبع أفضل الطرق في التَّواصل مع الآخر، وهذه مسألة مهمَّة.

والحمل على الأحسن في فهم الآخر، يعني أحياناً سوء الفهم يؤدِّي إلى القطيعة بينك وبين الآخر، فيجب أن يكون هناك حسن ظنٍّ بالآخر، وحسن فهمٍ للآخر، حتى تستطيع أن تتواصل معه.

هناك نقطة أخرى يركّز عليها السيّد، وهي "التعامل من موقع المصلحة الإسلاميّة العليا" عند التعاطي مع المستجدّات الخلافيّة، وفق القاعدة التي أكّدها الإمام عليّ (ع): "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين...".

ولذلك، فإنّ المصلحة الإسلامية العليا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في نظر الكثيرين، في نظر كثير من الطائفيّين والمتعصّبين الّذين لا ينظرون إلى المصلحة الإسلاميّة العليا.

اليوم الإسلام في خطر؛ فهناك خطر تهديد الدول الكبرى، وخطر الصهاينة، وخطر التّمييع الخلقيّ... هذه كلّها أخطار موجَّهة إلى الشّباب والعالم الإسلامي، والسبب غياب المصلحة الإسلاميّة العليا عنّا.

من الأشياء التي يركّز عليها السيّد، "عدم اتباع أساليب السباب والشّتائم واللّعن"، وهذا ما تقوم به بعض الفضائيات المرتبطة بالإنكليز...

فهناك فضائيّة تلعن هذه الطائفة، وفضائيّة تلعن طائفة أخرى، وكلاهما في لندن.

بعد ذلك، يركّز السيّد على مسؤوليّة قوى الاحتلال في التفرقة المذهبيّة، وقد كانت بريطانيا في مقدَّم من يثيرون الخلافات في العالم الإسلاميّ من قبل، ولكن اليوم إسرائيل هي من تقوم بهذا العمل عبر جواسيسها وفضائياتها وعملائها، الذين يعملون بشكل واسع للتّفرقة بين المسلمين...

ولذلك، هناك منظومة فكريّة عامّة يؤكّدها السيّد، من أجل الحذر من الوقوع في الفتنة.

هذا مجمل ما استخلصته من فكر السيّد (رض).

- مفردة الحبّ!

س: هذه ضوابط قيّمة لا بدَّ أن يتحلَّى بها كلّ داعية يريد الوحدة بموضوعها الحقيقيّ وبطريقها الحقيقيّ ، إذا أردنا أن نتحدّث عن ملامح مشروع سماحة السيّد، أنا أتذكّر الكثير من المفردات، من قبيل مفردة الحبّ والمحبّة، فسماحة السيّد (رض) في أغلب ندواته ومحاضراته ومنابره، وخصوصاً في خطبة الجمعة، كان يتحدّث عن الحبّ والمحبّة. كيف يمكن تفعيل هذه المفردة وفهم هذه المفردة؟

ج: الحبّ هو نفسه يقابله في الفارسيّة "العشق"، لكن في الأدب العرفاني والأدب الفارسي، كلمة العشق هي الرّائجة.

متى يعشق الإنسان؟ حينما يرى الجمال، إذا رأى الجمال عشق، وإذا عشق تغزّل، ولذلك، فالّذي لا يرى الجمال، هو كالدّودة يعيش في ظلمات الطّين، ويعيش أيضاً في ظلّ غرائزه الهابطة. وإذا قلنا إنّ الإنسان، حسب الرؤية القرآنية، مخلوق من طين ومن نفخة روح ربّ العالمين، فالحبّ هو من نفخة روح ربّ العالمين، يعني منشؤه نفخة روح ربّ العالمين، أمّا الغرائز الهابطة، فهي من الطّين. وهناك خلط كبير بين الحبّ بمعناه السامي الرّاقي الذي يرفع الإنسان ويزكّيه ويسمو به، وبين الوقوع في مستنقع الغريزة، الّذي هو ليس حبّاً، وإنما هو دغدغة غريزة. كلمة الحبّ أسمى وأجلّ من أن نطلقها على هذا النّوع من الغرائز الجنسيّة.

الحبّ كلمة سامية، وأنا باعتقادي أنّ الأدب العربي يجب أن يصفَّى من هذه المسألة. يقال هناك نوعان من الغزل: الغزل العفيف والغزل الماجن. الغزل الماجن ليس بغزل، الغزل الحقيقيّ هو الذي يرفع الإنسان ويزكّيه وينطلق من نفخة روح ربّ العالمين، أمّا الغزل الماجن فينطلق من غريزة، والغرائز هي تكريس للذاتيّة وللوقوع في الظّلمات.

ولذلك، الحبّ مسألة عظيمة جداً، ولا يمكن للإنسان أن يعشق إلا إذا خرج من ذاتيّته. الذّاتي لا يعيش إلا لنفسه، لا يستطيع أن يحبّ الآخرين، ولا يستطيع أن يتواصل مع الآخرين. أمَّا إذا تخلّص من شرنقة ذاتيَّته ورأى النّور ورأى الجمال، يعشق، وإذا عشق تغزّل.

ومن هنا غزليّات الإمام الخميني، وغزليات حافظ الشّيرازي... إلخ.

هذه الغزليّات تعبير عن نفخة روح ربّ العالمين. مثلاً سماحة السيد (رض) يلوم أولئك الذين لا يعرفون معنى العشق، يقول:

أنت لم تعرف الجمال انطلاقاً يتسامى به جلال النبوّة

إنّه دعوة الحياة إلى النّور وأغنية الصّبا والفتوّة

أنا عشت الجمال روحاً وفكراً، وتخطّيت ظلمة اليأس عبره

- في اعتقادي هذا خطأ مطبعي، أظنّ أنه: وتخطّيت ظلمة النّاس عبره.. النّاس الذين يعيشون في الظلمات، تخطّيت ظلمتهم، وتعاليت، ووصلت إلى ذروة رؤية الجمال وعشقته -.

فزَرَعْتُ النُّجومَ حولَ أمانيهِ.. أعبُّ السَّنا.. وأرشفُ عطرَه

فالجمال يتسامى فيه العاشق، ويحيا في أجواء النّور والأنداء.

يقول أيضاً:

وجئت عبر الضّوء فانهالت الأنجم على منكبي

وعشت أحسو خمرتي من رؤى عينيكِ يا للحلم المخصبِ

وأرتوي فيظمأ الملتقى إلى انهلال النّور في ملعبي

ما المقصود بالخمرة؟ الخمرة موجودة في أشعار الإمام الخميني وفي أشعار الشّيرازي...

البعض يفسِّرها تفسيراً لا أستسيغه. الخمرة المسكرة ماذا تفعل؟ تغيِّب الإنسان عن وعيه، بينما هنا المقصود أنَّ الخمرة الرّوحيَّة تغيِّب الإنسان عن ذاتيَّته وعن أنانيَّته، فلذلك الإمام الخميني في أشعاره أيضاً يطلب الخمر لكي يتخلّص من ذاتيّاته وأنانيّته...

- بالحبّ ننفتح على الآخر

س: هناك نقطة مهمّة في هذا السّياق، أنا تأمّلت تاريخيّاً، ووجدت أنّ أغلب العظماء والمفكّرين، ممن كانت مفردة الحبّ حاضرة لديهم، كان هناك انعكاس لها في العلاقة مع الآخر، مع من نختلف معه مذهبيّاً، وقد رأيناها في سماحة السيّد حينما كان يركّز على مفردة الحبّ، وترجم هذه المفردة في الواقع!

ج: طبعاً، فمن أهمّ محاور مشروع السيّد في علاقته مع الآخر، مسألة الحبّ، وهذه منعكسة في أشعاره بشكل واضح وعبَّر عنها.

لاحظ بعض المفردات، أنا ذكرت مفردة الخمرة، وذكرت مفردة الظّمأ: "وأرتوي فيظمأ الملتقى". فالظّمأ مما يدعو إليه العرفاء أيضاً، لأنَّ الظّمأ يبعث بالإنسان على الحركة، وإذا تحرّك، فسوف تنفجر في نفسه المعرفة. لاحظ الرّمز في هاجر (ع)، ظمئت، فسعت بين الصّفا والمروة، بعد سعيها انفجر زمزم الّذي يروي العطاشى على مرّ التاريخ.

وعندنا الشاعر المولوي جلال الدّين الرومي، يقول بما ترجمته:

أقللْ من طلب الماء واطلب العطش.. كي تتفجّر ينابيع المعرفة من كلّ وجودك..

هذه منظومة متكاملة عند سماحة السيِّد (رض).

سماحة السيّد فضل الله في عرفانه، وفي فكره، وفي شعوره، وفي دعوته إلى الوحدة، وفي دعوته إلى الاستئناف الحضاري، وإلى إيقاظ الشعور... هذه كلّها تشكل منظومة حضارية مهمّة يجب أن نقف عندها دائماً، من أجل أن نبلور هذا المشروع في حياتنا وفي مستقبلنا.

- كيف نحافظ على المشروع؟!

س: بعد تسع سنوات من غياب الجسد وحضور الفكر والعقل، وحضور منهج سماحة السيِّد، كيف يمكن أن نقرأ هذه القيم وهذا المشروع مستقبلاً في رأيكم؟ وكيف يمكن الحفاظ على هذا النَّهج، وعلى هذه المفاهيم؟ كيف يمكن بلورتها في الواقع؟

ج: هذه المسألة ترتبط بي وبك، يجب أن نحافظ على هذا المشروع، وأن لا نرى غياب السيّد باعتباره غياب مشروع، أن نبلوره، أن ننشره، أن نوصله ثقافياً، وبالّتي هي أحسن، يعني بالّتي هي أجمل، إلى أفهام النّاس وإلى أفهام الجماهير.

هذا باعتقادي رسالتنا، ورسالة كلّ الذين يقتدون بالسيد فكرياً وعلمياً وثقافياً، وأنا أفخر بأن أكون من تلاميذ هذه المدرسة، وأرجو أن أوفَّق أيضاً بالتعاون معكم في هذا المجال.

- استلهام واقتداء

س: دعنا نتحدَّث عن مشروعكم الإحيائي والوحدوي، فقد قلت منذ قليل إنّك استلهمت الكثير من أفكارك من أفكار سماحة السيّد، ووظّفت هذا المشروع في الكثير من كتاباتك؟

ج: لقد تعلّمت من السيد مسألة العلاقة بين الوحدة الإسلاميّة وبين إيقاظ الشعور والحضارة الإسلاميّة، ولذلك قدَّمت مشروعاً إلى وزارة التّعليم العالي في إيران، مشروع تأسيس مركز دراسات وحدة العالم الإسلامي، والمركز العلمي الذي يأخذ إجازة من وزارة التعليم العالي، يجب أن يكون عنده على الأقلّ فرعان دراسيّان، أنا قدّمت الفرع الأوّل وهو التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، والفرع الثاني استئناف مسيرة الحضارة الإسلاميّة.

قالوا: ما العلاقة بين التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة واستئناف مسيرة الحضارة الإسلاميّة؟ حينما وضَّحت ذلك على ضوء رؤية السيّد، تبيّن لهم أنه لا يمكن أن تكون عندنا وحدة حقيقيّة وتقريب بين المذاهب الإسلاميَّة، إلا إذا أيقظنا شعور الأمَّة، وأعدنا مسيرتها الحضاريّة. عند ذلك، تحيا وتتحقّق مسألة الوحدة الإسلاميّة.

س: كان سماحة المرجع (رض) يقول إنّ ملامح المشروع النهضوي له مفاتيح. تحدّثنا عن الوحدة الإسلاميَّة، تحدّثنا عن مشروع الإحياء، ولكنَّ مشروع العلاقة مع الآخر لم نعطه مجالاً أوسع، كيف يمكن أن تكون العلاقة مع الآخر على ضوء هذا المشروع؟

ج: العلاقة مع الآخر تنطلق من علاقة الإنسان مع نفسه أيضاً، إذا كان الإنسان غارقاً في ذاتيّته وفي أنانيّته وفي شخصيّته، فلا يمكن أن يتواصل مع الآخر، يتواصل مع الآخر حين يكسر هذه الأنانيَّة، هذه القوقعة، حين يكسر صنم الذّاتيّة، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}، هذه الأغلال؛ أغلال الطائفيَّة وأغلال القوميَّة وأغلال الحزبية، هذه يجب أن تكسر حتى تتواصل مع الآخر.

من المؤكَّد أنَّ الإنسان ينتمي إلى إقليم، ينتمي إلى وطن، إلى حزب، إلى مذهب، ولكنّ كلّ ذلك يجب أن لا يتحوَّل إلى غلّ يبعده عن التّواصل مع الآخر...

هذه الأخوَّة تتحقّق حينما تكسر هذه الأغلال.

يجب أن نتعامل أوّلاً مع أنفسنا، ونكسر هذه الأغلال في أنفسنا، لكي نتواصل مع الآخر، أمَّا إذا بقينا حبيسي الطائفيّة والمذهبيّة والإقليميّة والقوميّة، فهذه تبعدنا عن الآخر.

الغريب أنَّ أوروبّا فهمت هذه المسألة، أنت تعرف أنَّ الحرب العالميّة الأولى والثّانية ظهرت بسبب هذه الأطر الضيّقة التي كانت تعيش فيها أغلب الدول الأوروبيّة، فكسروا هذه الأطر حينما رأوا أنّ هناك مصلحة أكبر من هذه المسألة.

طبعاً هؤلاء حقّقوا بينهم وحدةً انطلاقاً من مصلحة مادية فرضت عليهم ذلك، ولكن نحن لنا مصلحة مادية وإنسانية ودينية وإلهيّة... إلخ.. كلّ المصالح تفرض علينا أن نكسر هذه الذاتية، وننطلق من أجل أن نتعامل مع الآخر بالتي هي أحسن.

وهذه فريضة الإسلام، وهذا هو أساس مشروع سماحة السيِّد (رض) الذي ينبغي إحياؤه وإدخاله ثقافيّاً في نفوس الآخرين.

- حرب بين التخلّف والوعي

س: الحمد لله أنَّ المؤسّسة عندنا تعنى بمشروع سماحة السيّد وآثار سماحته، وقد ترجمت إلى عدّة لغات (إندونيسيّة، روسيّة، الإنكليزيّة، الفرنسيّة...)، لأنّ المسلم اليوم في العالم متعطّش، بحاجة إلى فكر تنويريّ، بحاجة إلى منظومة إسلاميّة واعية، بحاجة إلى حوار مع الآخر، بحاجة إلى سلام مع من يختلف معه، وهذه، كما تفضّلت، هي من معالم المشروع الإحيائي والوحدوي للسيّد، ودائماً يبقى حضور سماحته أقوى من الغياب.

ج: يجب أن نسعى أكثر من ذلك، وأن نتّخذ كافّة السبل الناجحة والناجعة في عالمنا المعاصر لإيصال هذا الفكر الواعي. ففي الحقيقة، نحن أمام حرب بين التخلّف وبين الوعي، فهناك حرب المتخلّفين على الواعين وعلى دعاة الوعي، وهذه يجب أن نكسرها بالتي هي أحسن، لا أن نستفزّهم، ولكن لننفذ إلى قلوبهم وإلى قلوب الأمَّة، لتفهم الأمّة أنَّ هناك فريقين؛ فريقاً متخلّفاً، وفريقاً يريد أن يرفع بالأمّة إلى المستوى الّذي أراده الله لها باعتبارها الأمّة الشاهدة الوسط على مرّ التاريخ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا ويعينكم على هذا الطّريق.

على هامش الذّكرى السنويّة التّاسعة لرحيل العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (رض)، استضافت قناة الإيمان الفضائيّة، الباحث والمفكّر الإسلامي، وأستاذ الأدب العربي في جامعة طهران، الدكتور محمد علي آذرشب، في حوارٍ مع الإعلامي الأستاذ غانم اللولاسي، تناول مشروع سماحة المرجع فضل الله ومرتكزاته وأهدافه، وكيفيّة المحافظة عليه والاستمرار فيه، إضافةً إلى عناوين أخرى.


 من عناوين الحوار : مدرسة ومشروع - نظريّة الإحياء الحضاريّ- الوحدة والمؤتمرات! - السيّد الدّاعية - السيّد الأديب والشّاعر - عوامل تسند الوحدة - مفردة الحبّ!- بالحبّ ننفتح على الآخر - كيف نحافظ على المشروع؟! - استلهام واقتداء - حرب بين التخلّف والوعي:

- مدرسة ومشروع

س: حضرتم للمشاركة في الذكرى السنوية التاسعة لرحيل العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، فلسفة هذه الذّكرى هي إحياء لمنظومة القيم، إحياء لنهج الإسلام السّمح، إحياء لإسلام متنوّر خال من التعصّب والطّائفيّة والحقد..

بدايةً، كيف يمكن الحفاظ على هذه المكتسبات في واقعنا اليوم، واقع الأمَّة إذا صحَّ التَّعبير؟

ج: أشكركم على هذه الدَّعوة والاستضافة، وأقول: أوّلاً، إنّ شخصيّة مثل السيد محمد حسين فضل الله ليست فرداً، وإنما هي مدرسة.

هذه المدرسة ينبغي أن تبقى وتتبلور وتنتشر.

كثير من الشَّخصيَّات الّتي ظهرت في تاريخنا القديم والمعاصر، يجب أن يتواصل مشروعها على مرِّ الأيَّام، إذا كانت صاحبة مشروع وصاحبة فكر جديد، ومن المؤكَّد أنَّ السيِّد فضل الله صاحب مشروع وصاحب فكر جديد، وهذا يجب أن يتواصل عبر الأجيال، لأنّنا بعد سقوط العالم الإسلاميّ، أصبحنا نعيش في تخلّف حضاريّ، وهذه مسألة يجب أن يأخذها كلّ المهتمّين بشؤون العالم الإسلامي بعين الاعتبار.

في القرن الخامس الهجري، كان هناك شخص في الأندلس اسمه القاضي صاعد، كتب كتاباً اسمه "طبقات الأمم"، فيه فصل "لماذا تقدّم المسلمون وتخلّف الفرنجة؟"، ويقصد الأوروبّيين، يعني كان أمام ظاهرة عجيبة، وهي أنّ المسلمين متقدّمون والفرنجة متخلّفون، فأصبح يفكّر ما هو السّبب؟

وفي القرن العشرين، يكتب شكيب أرسلان كتاباً: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدّم غيرهم؟ وهذا يدلّ على أنّنا دخلنا في عصر انحدار في الحضارة الإسلاميَّة. في ذلك الوقت، كان العالم الإسلاميّ مرجعاً في العلوم الإنسانيَّة والماديَّة والطبّية والهندسيّة والدينيّة، ولكن اليوم، تقدّم الغرب، وصار الغرب هو المرجع، وصرنا نحن متخلّفين!

هذه حقيقة يجب أن نعترف بها. وكيف يمكن أن نتجاوز هذا التخلّف؟ هناك مفكّرون اهتمّوا بهذه المسألة، ومنهم سماحة السيّد (رض)، فقد اهتمّ كثيراً بمسألة التخلّف الموجود في العالم الإسلامي، وطبعاً هناك الكثير من الأفراد الذين فكّروا في هذه المسألة، وقدَّموا مشاريعهم، مثل عبد الرحمن الكواكبي، صاحب مشروع الفتور، فهو يعتقد أن كلّ مشاكل العالم الإسلامي ناتجة من حالة الفتور في الشعور وفي الروحيّة، ولذلك يدعو إلى نهضة روحيّة جديدة...

وحتى مثلاً شخص مثل أبي القاسم الشّابي، الشّاعر الذي فارق الحياة وهو في السادسة والعشرين من عمره، كان صاحب مشروع حضاريّ، فكّر لماذا تخلّف المسلمون، وبيّن أسباب التخلّف، ودعا إلى يقظة الإحساس. وهكذا كلّ المفكّرين في العالم الإسلامي، سواء في الشّرق أو الغرب.

س: وطبعاً هناك الكواكبي وجمال الدين الأفغاني والشّيخ محمد عبده... وكلّهم كانوا يطرحون شعار الإصلاح وشعار التغيير والتّنوير...

وهكذا عندنا الشَّهيد مطهَّري، والإمام الخميني، وأيضاً السيّد الخامنئي، هؤلاء أصحاب مشاريع، وإن كان الإمام الخميني والسيّد الخامنئي قد دخلا في المشروع العملي لهذا الموضوع، ولكن هم أصحاب فكر وأصحاب نظريّة في هذه المسألة.

هؤلاء أصحاب المشاريع عندما يغادرون السَّاحة، يجب أن لا تغادر مدرستهم السَّاحة أيضاً. يجب على كلّ الذين يهتموّن في مستقبل العالم الإسلامي، أن يبيّنوا مشاريع هؤلاء، ويقدِّموها إلى الأجيال القادمة، لكي تكون زاداً لمسيرتهم المستقبليّة، وإلا فقدنا أكبر تجربة في حياتنا الإسلاميَّة.

- نظريّة الإحياء الحضاريّ

س: ومن هذا المنطلق، تحدَّث سماحة المرجع فضل الله عن مأسسة العالم الإسلاميّ، باعتبار أنّ المؤسّسة لا تموت بموت فرد، حتى وإن مات الفرد، فالمسيرة تستمرّ، والعطاء يستمرّ!

ج: هو هذا، ولذلك ينبغي أن تكون كلّ عمليّة إحياء لذكرى سماحة السيّد، عمليّةَ إحياء لمشروعه الحضاريّ الّذي قدَّمه بشكل واسع وتفصيليّ، وسخّر كلّ حياته في كلّ كلماته له.

وهو صاحب نظريّة مهمّة جداً في مسألة الإحياء، فقد نظر إلى القرآن نظرة إحيائيّة، وكتب تفسيره بنظرة إحيائيّة حضاريّة، نظر إلى وضع العالم الإسلامي نظرة إحيائيّة حضاريّة، وركَّز على مسألة مهمَّة، وهي أنّ مسألة تفرّق المسلمين اليوم وتشرذمهم، إنما هو ناتج من التخلّف الحضاريّ، فلا يمكن أن نتجاوز حالة التّشرذم وحالة التمزّق الموجودة في العالم الإسلامي، إلا باستنهاض الأمَّة حضاريّاً، فإذا عادت إلى الحياة، وعادت إلى مسيرتها الحضاريَّة، فإنَّها تحيا، والجسم الحيّ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمّى، أمَّا إذا مات الجسد، فيتفكّك عضويّاً، ولا يمكن أن يفكّر كلّ عضو في العضو الآخر. من هنا، فإنّ مشروع السيّد هو مشروع حضاريّ، يعني لا يمكن أن نفكّر في وحدة إلّا أن نفكّر في الإحياء أوّلاً، والسيّد كان يكرّر هذه المسألة.

نحن في حالة تخلّفنا الحضاريّ، لا توجد عندنا مدارس مذهبيّة فكريّة وعلميّة، عندنا عشائر؛ عشيرة السنّة، وعشيرة الشيعة، وهذه الحالة العشائريّة هي إفراز لحالة التخلّف الحضاري الموجودة.

من هنا، فإنّه اهتمّ بالجانب الثقافي. يعني أنا بالنّسبة إليّ حصلت على هذه التجربة من السيّد... أنا كنت أكتب في مجلّة "رسالة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة"، وطبعاً هي مجلّة علميّة تنشر البحوث العلميّة الفكريّة في الفقه والكلام والفلسفة... إلخ، وقد وجدت من خلال مدرسة السيّد، أن المشكلة ليست مشكلة علمية، وليست مشكلة فقهيّة ولا كلاميّة، ولكن المشكلة مشكلة ثقافية. من هنا، فإنني غيّرت رأيي في هذا الطريق، وأصدرت نشرة شهريّة اسمها "ثقافة التقريب"، ركَّزت فيها على المفاهيم التي تستطيع أن تستنهض الشّعور، وتؤكِّد ضرورة الوحدة من منطلق شعوريّ، ومن منطلق عاطفيّ إنسانيّ، لا من منطلق الفكر وحده.

- الوحدة والمؤتمرات!

س: دكتورنا العزيز، إنّ سماحة السيّد (رض) كان يؤكّد على مسألة الوحدة الإسلاميّة، فدائماً في خطاباته، وفي ندواته العلميّة، كان يقول بالوحدة الإسلاميّة كمشروع جامع للأمّة الإسلاميّة، ولكن في واقعنا الرّاهن، قد نرى أنّ بعض مؤتمرات التقريب ومؤتمرات الوحدة لا تفي بالغرض المطلوب، ولا تصل إلى الكلمة الجامعة، حتّى إنّنا نجد أنّ الكثيرين بعد المؤتمرات، يعودون إلى غريزتهم وإلى التعصّب الطائفي. ما الخلل هنا؟

ج: أعتقد أنّ السيّد وضع يده على الجرح حينما قال إنَّ المشكلة مشكلة ثقافيّة لا مشكلة مؤتمرات، وإنّ هذه المسألة لا تحلّ بالمؤتمرات والنّدوات فقط.

يجب أن يكون هناك عمل ثقافيّ في تغيير المحتوى الفكري للنّاس، في تغيير المحتوى الشّعوري للناس. أنا أضرب لك مثالاً؛ السيّد محمّد باقر الصّدر (رض)، حينما كتب كتابي "فلسفتنا" و"اقتصادنا"، قام بعمل وحدويّ في العالم الإسلامي أكبر من كلّ المؤسَّسات التي تعمل من أجل التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة، وهو لم يتحدَّث عن التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، ولم يتحدّث عن الوحدة الإسلاميّة، بل تحدّث عن المشروع الإسلاميّ العام، حينما يطرح المشروع الإسلاميّ العام بشكله الّذي يجعل الإنسان يعتزّ بإسلامه ودينه، ويرى أنّه لا يعيش الفراغ، وإنما يعيش في متطلّبات الساحة، ويعيش الأصالة والمعاصرة معاً، حينها تتحقَّق الوحدة.

وأنا من خلال تجاربي، ذهبت إلى شمال أفريقيا كثيراً، فوجدت أنّ كتابَيْ "اقتصادنا" و"فلسفتنا" قد انتشرا في تلك المناطق انتشاراً كبيراً، ولا ينظر النّاس إلى السيّد محمد باقر الصّدر كونه شيعيّاً أو سنيّاً، بل ينظرون إليه باعتباره صاحب مشروع إنسانيّ كبير، وهكذا السيّد فضل الله (رض)، صاحب مشروع كبير عنوانه الوحدة الإسلاميَّة.

الثّورة الإسلاميّة في إيران، ما إن انتصرت، حتى أسَّست لوحدة إسلاميّة شاملة بين فصائل الأمَّة، ولكنَّ أعداءها، طبعاً، تجهّزوا من أجل الانقضاض عليها، ومن أجل مصادرة هذه الوحدة الّتي حدثت بين فصائل الأمّة، ولكنّها أثرت تأثيراً كبيراً في كلّ المسلمين في العالم، بغضّ النظر عن اتجاههم المذهبيّ. لماذا؟ لأنها قدَّمت المشروع الإسلاميّ الكبير الّذي يجعل الإنسان المسلم يعتزّ بدينه ويعتزّ بإسلامه.

- السيّد الدّاعية

س: إذاً الخلل دكتور في بعض المؤتمرات الّتي لا تؤتي أكلها فيما يتعلّق بالوحدة الإسلاميَّة، ويمكن أن يكون هناك خلل ثقافي، وقد لا تعدو أن تكون هذه المؤتمرات للمجاملة السياسيّة فقط؟

ج: هذه هي المشكلة، أنّنا في المؤتمرات التي تعقد، غالباً ما تكون مؤتمرات مجاملة، وليست مؤتمرات من أجل استنهاض الرّوح، من أجل استنهاض الشّعور، من أجل جمع القلوب على صعيد واحد، ولذلك، فإنَّ السيّد (رض) أكّد أنَّ مقدّمة الوحدة الإسلاميّة يجب أن تكون في استنهاض الشعور، وفي الحضارة الإسلاميَّة الحديثة.

بالمناسبة، هناك مسألة مهمَّة أيضاً كانت في شخصيَّة السيِّد، وهي أنّه عندما كان يدعو للوحدة، كان قد خرج من ذاتيَّته وأنانيَّته، أي أنّه لم يتَّخذ الوحدة دكّاناً لعمله، وإنما اتخذها مثلاً أعلى لمشروعه، وكلّما كان العالم أو الدّاعية أقرب إلى أن يكون بعيداً من مصالحه الذاتيّة، يكون التّأثير أكبر.

مشكلتنا اليوم في العالم الإسلاميّ، أنَّ غالب المسلمين ينظرون إلى الدّعاة بعين الشَّكّ؛ أنّه هل هذا يتحدَّث من أجل مصلحته الذاتيَّة، من أجل أن يحصل على المال وعلى السّمعة وعلى المكانة، أو أنّه يخلص حقيقةً في عمله وفي دعوته؟! حينما يجدون الإخلاص، يلتفّون حوله...

إنَّ النّظرة الواسعة لا تأتي إلا من تجاوز الذاتيّة والأنانيّة، وإلا من خلال أن يكون الإنسان قادراً على الاستماع إلى الآخر.

الذاتيّة والأنانيّة صنم أيّما صنم، وهما طاغوت، وأكبر طاغوت يصاب به الإنسان هو طاغوت الذاتيّة، وحينما يصاب بطاغوت الذّاتيّة، تسدّ أذنه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.

فإذاً الاستماع والانفتاح على الآخر يرتبطان بتجاوز طاغوت الذّات الّذي يجعل الإنسان محصوراً في ذاته وفي شخصيّته، والآية الكريمة تؤكِّد هذه المسألة {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً}. طبعاً الحديث عن يوم القيامة، ولكن هذه قاعدة عامّة.

الأغلال هي التي تحول دون الأخوّة. فالأخوَّة تتحقّق عندما تتحطّم أغلال الذاتيّة والأنانيّة والفرديّة والقوميّة والطائفيّة والحزبيّة، عندما تتحطّم هذه الأغلال، تتحقَّق الأخوّة.

س: جميلٌ هذا الموضوع، وله علاقة بتذكية النّفس أيضاً... وسماحة السيِّد (رض) لا يشكّ في ورعه وتقواه والابتعاد عن الحساسيّات في خطابه!

ج: أنا وقفت عند كتابه "عرفان القرآن"، وهو يركّز على هذه المسألة بشكل عجيب وبشكل مكثّف جداً، لأنّ الإنسان لا يمكن على الإطلاق أن يتجاوز الأنانيَّة وصنم الذّات، إلا عندما يتخلَّص من كلِّ ما يعيقه في طريقه...

- السيّد الأديب والشّاعر

س: سماحة السيّد كان يتحدَّث في محاضراته وكتاباته دائماً عن موضوع صنميّة الذّات، وكان يحارب هذه الفكرة، وكان لديه شعار "خطّ البطل لا بطل الخطّ"، لكي تستمرّ المسيرة بعد موت الجسد، هناك مواضيع كثيرة ومعاني كثيرة في مدرسة العلامة السيّد فضل الله (رض)، بينها أنّه كان يوصي بمسائل ومواضيع الأدب العربي والشّعر، وقد لا نجد هذه المواضيع حاضرة عند بعض الفقهاء، لأنّ الكثير من الفقهاء يشتغلون في مواضيع الفقه والأصول والعقيدة والأخلاق وما شابه ذلك، ولكنَّ البعض يقول إنّ الفقيه لا يتعاطى مع الأدب والشّعر، لأنها مسائل ترفيهيَّة، وليست من صنعة الفقيه. إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار هذا الكلام معقولاً؟

ج: في الحقيقة، الرّجل الفقيه يحتاج إلى الأدب العربي لسببين؛ سبب لغويّ، وسبب شعوريّ، الأدب لا يهذّب فقط اللّغة، وإنما يهذّب الشعور.

الإنسان الذي يعيش الأدب، يعيش لغة الشعور، ويجيد لغة الشعور، لأن الأدب من الشعور، والأدب أيضاً كلّه ناتج من ثورة الشّعور فيؤثّر في الشّعور، ولذلك، كلّ الفقهاء العظام، سواء القدامى أو المعاصرين، لهم اهتمام بالأدب. سماحة السيّد (رض) يقول إنّه وجد في الشّعر ما يساعده على تفهّم مشروع الإسلام في الحياة من منظور اجتهاديّ، يقول عن عمّه وأستاذه السيّد محمد سعيد فضل الله، "عندما ذهبت إليه لأعرف نصيحته لي بالاستمرار في نظم الشّعر أو تركه، شجّعني على الاستمرار في ذلك، وقال لي إنَّ الاجتهاد يحتاج إلى ذوق سليم صاف في فهم اللّغة، وإنَّ الأدب يعين على صفاء الفهم الواعي والذّوق السّليم، لأنَّ الاجتهاد ينطلق من فهم الكتاب والسنّة، ومن ثقافة أدبيّة تستطيع أن تتفهّم إيحاءات الكلام إلى جانب مضمونه". هذا ينقله عن السيّد محمد سعيد فضل الله.

وأنا أعتقد أنَّ سماحة السيّد ركّز هنا على الجانب اللّغوي، على العطاء اللّغوي بالنّسبة إلى الفقيه، وأنا أيضاً أؤكّد عطاءً آخر، وهو العطاء الشعوريّ، يعني مثلاً السيّد فضل الله (رض) كان منفتحاً، ليس على الأدب العربي فقط، وإنما على الأدب الروسي وعلى الأدب الفرنسي المترجم، وعلى الآداب المترجمة إلى اللّغة العربيّة، طبعاً هذه لا تساعده لغويّاً، ولكن تساعده شعورياً.

وكلّما كان شعورُ الفقيه، شعورُ المفكّر، ناضجاً ومتفتّحاً ومتوهّجاً، كانت قدرته على الإبداع والابتكار أفضل وأكثر.

من هنا، كان الرّجل يرى في الأدب خير معين على هذا الأمر. لاحظ ماذا يقول عن الشّعر:

إنما الشّعرُ دفقةٌ من شعاعٍ تنفثُ الوعيَ في لهيبِ قوانا

ونداءٌ من الحياةِ.. يمورُ الفكرُ في أفقِهِ طليقاً مُصانا

فإذاً الأدب أو الشّعر إنما هو يثير دفقة حياة في الإنسان، ويحرّك الفكر في أفقه ليكون طليقاً غير محدود بزمان ومكان.

وهو يرفع الإنسان من حدوده المنظورة، يرفعه إلى أفق واسع. وبالمناسبة، قد يقال إنّ الشّعر خيال، ولا ينبغي للفقيه أو المفكّر أن يعيش في الخيال! هذه نظرة خاطئة، لأنّ الخيال ليس وهماً. هناك فرق بين الخيال والوهم. الوهم خلاف الحقيقة، ولكنّ الخيال هو عبارة عن معرفة فوق معرفة الظّاهر، لأنَّ الإنسان حينما يحلّق في خياله، يرى أشياء لا يراها الإنسان العاديّ، ويفكّر في أفقٍ لا يفكّر فيه الإنسان العادي، ومن هنا ظهر الخيال العلميّ، ظهر التلفزيون والموبايل والطّائرة قبل أن تُخترَع...

س: حتى في المسائل الدينيّة، بعض الفقهاء قد يمدحون بعض المجتهدين، فيقول له مخيّلة واسعة في مجال الفقه...

ج: حتى حينما ينظر إلى مستقبل الإسلام، وإلى مستقبل المجتمعات الإسلاميّة، لا بدَّ أن ينظر إليها بقوَّة تفوق قوَّة الواقع الموجود، وإذا بقي قابعاً في الواقع الموجود، فلا يغيّر ولا يتغيّر، وهذه مسألة مهمَّة. يعني دور الأدب في الحياة هو دور استنهاض الشّعور، من أجل أن يرتفع الإنسان في فكره وخياله وعاطفته، ليغيّر وليرى المستقبل.

  

- عوامل تسند الوحدة

س: ... بالعودة إلى موضوع الوحدة الإسلاميّة، ما هي العوامل والقيم المساعدة التي تسند مبدأ الوحدة الإسلاميّة، في رأيكم؟

ج: العوامل التي تسند يذكرها سماحة السيّد. يقول أوّلاً: "التأسيس للقواعد المشتركة قبل التحرّك لمعالجة قضايا الاختلاف". فالإنسان صاحب الفكرة الواسعة، ينظر دائماً إلى المشتركات قبل أن ينظر إلى الاختلافات، والمشتركات بين المسلمين تكاد تكون 99 %، و1% هي في الاختلافات، فلماذا يكون التّركيز على الاختلافات، بينما القرآن يدعو إلى مشترك بيننا وبين الآخر غير المسلم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}.

بعد ذلك، يقول السيّد إنّ من القيم التي يجب أن نركّز عليها "الجدال بالتي هي أحسن"، والّتي تفسَّر بالتي هي أفضل، وأنا في اعتقادي تفسيرها هو التي هي أجمل، لأنّ الحسن هو الجمال، والأحسن هو الأجمل، يعني ينبغي أن يكون عندنا أجمل الطّرق للارتباط مع الآخر. وطبعاً اليوم أصبحت وسائل الإنترنت والتّواصل الاجتماعي متطوّرة جداً، ويجب أن نتَّبع أفضل الطرق في التَّواصل مع الآخر، وهذه مسألة مهمَّة.

والحمل على الأحسن في فهم الآخر، يعني أحياناً سوء الفهم يؤدِّي إلى القطيعة بينك وبين الآخر، فيجب أن يكون هناك حسن ظنٍّ بالآخر، وحسن فهمٍ للآخر، حتى تستطيع أن تتواصل معه.

هناك نقطة أخرى يركّز عليها السيّد، وهي "التعامل من موقع المصلحة الإسلاميّة العليا" عند التعاطي مع المستجدّات الخلافيّة، وفق القاعدة التي أكّدها الإمام عليّ (ع): "لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين...".

ولذلك، فإنّ المصلحة الإسلامية العليا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في نظر الكثيرين، في نظر كثير من الطائفيّين والمتعصّبين الّذين لا ينظرون إلى المصلحة الإسلاميّة العليا.

اليوم الإسلام في خطر؛ فهناك خطر تهديد الدول الكبرى، وخطر الصهاينة، وخطر التّمييع الخلقيّ... هذه كلّها أخطار موجَّهة إلى الشّباب والعالم الإسلامي، والسبب غياب المصلحة الإسلاميّة العليا عنّا.

من الأشياء التي يركّز عليها السيّد، "عدم اتباع أساليب السباب والشّتائم واللّعن"، وهذا ما تقوم به بعض الفضائيات المرتبطة بالإنكليز...

فهناك فضائيّة تلعن هذه الطائفة، وفضائيّة تلعن طائفة أخرى، وكلاهما في لندن.

بعد ذلك، يركّز السيّد على مسؤوليّة قوى الاحتلال في التفرقة المذهبيّة، وقد كانت بريطانيا في مقدَّم من يثيرون الخلافات في العالم الإسلاميّ من قبل، ولكن اليوم إسرائيل هي من تقوم بهذا العمل عبر جواسيسها وفضائياتها وعملائها، الذين يعملون بشكل واسع للتّفرقة بين المسلمين...

ولذلك، هناك منظومة فكريّة عامّة يؤكّدها السيّد، من أجل الحذر من الوقوع في الفتنة.

هذا مجمل ما استخلصته من فكر السيّد (رض).

- مفردة الحبّ!

س: هذه ضوابط قيّمة لا بدَّ أن يتحلَّى بها كلّ داعية يريد الوحدة بموضوعها الحقيقيّ وبطريقها الحقيقيّ ، إذا أردنا أن نتحدّث عن ملامح مشروع سماحة السيّد، أنا أتذكّر الكثير من المفردات، من قبيل مفردة الحبّ والمحبّة، فسماحة السيّد (رض) في أغلب ندواته ومحاضراته ومنابره، وخصوصاً في خطبة الجمعة، كان يتحدّث عن الحبّ والمحبّة. كيف يمكن تفعيل هذه المفردة وفهم هذه المفردة؟

ج: الحبّ هو نفسه يقابله في الفارسيّة "العشق"، لكن في الأدب العرفاني والأدب الفارسي، كلمة العشق هي الرّائجة.

متى يعشق الإنسان؟ حينما يرى الجمال، إذا رأى الجمال عشق، وإذا عشق تغزّل، ولذلك، فالّذي لا يرى الجمال، هو كالدّودة يعيش في ظلمات الطّين، ويعيش أيضاً في ظلّ غرائزه الهابطة. وإذا قلنا إنّ الإنسان، حسب الرؤية القرآنية، مخلوق من طين ومن نفخة روح ربّ العالمين، فالحبّ هو من نفخة روح ربّ العالمين، يعني منشؤه نفخة روح ربّ العالمين، أمّا الغرائز الهابطة، فهي من الطّين. وهناك خلط كبير بين الحبّ بمعناه السامي الرّاقي الذي يرفع الإنسان ويزكّيه ويسمو به، وبين الوقوع في مستنقع الغريزة، الّذي هو ليس حبّاً، وإنما هو دغدغة غريزة. كلمة الحبّ أسمى وأجلّ من أن نطلقها على هذا النّوع من الغرائز الجنسيّة.

الحبّ كلمة سامية، وأنا باعتقادي أنّ الأدب العربي يجب أن يصفَّى من هذه المسألة. يقال هناك نوعان من الغزل: الغزل العفيف والغزل الماجن. الغزل الماجن ليس بغزل، الغزل الحقيقيّ هو الذي يرفع الإنسان ويزكّيه وينطلق من نفخة روح ربّ العالمين، أمّا الغزل الماجن فينطلق من غريزة، والغرائز هي تكريس للذاتيّة وللوقوع في الظّلمات.

ولذلك، الحبّ مسألة عظيمة جداً، ولا يمكن للإنسان أن يعشق إلا إذا خرج من ذاتيّته. الذّاتي لا يعيش إلا لنفسه، لا يستطيع أن يحبّ الآخرين، ولا يستطيع أن يتواصل مع الآخرين. أمَّا إذا تخلّص من شرنقة ذاتيَّته ورأى النّور ورأى الجمال، يعشق، وإذا عشق تغزّل.

ومن هنا غزليّات الإمام الخميني، وغزليات حافظ الشّيرازي... إلخ.

هذه الغزليّات تعبير عن نفخة روح ربّ العالمين. مثلاً سماحة السيد (رض) يلوم أولئك الذين لا يعرفون معنى العشق، يقول:

أنت لم تعرف الجمال انطلاقاً يتسامى به جلال النبوّة

إنّه دعوة الحياة إلى النّور وأغنية الصّبا والفتوّة

أنا عشت الجمال روحاً وفكراً، وتخطّيت ظلمة اليأس عبره

- في اعتقادي هذا خطأ مطبعي، أظنّ أنه: وتخطّيت ظلمة النّاس عبره.. النّاس الذين يعيشون في الظلمات، تخطّيت ظلمتهم، وتعاليت، ووصلت إلى ذروة رؤية الجمال وعشقته -.

فزَرَعْتُ النُّجومَ حولَ أمانيهِ.. أعبُّ السَّنا.. وأرشفُ عطرَه

فالجمال يتسامى فيه العاشق، ويحيا في أجواء النّور والأنداء.

يقول أيضاً:

وجئت عبر الضّوء فانهالت الأنجم على منكبي

وعشت أحسو خمرتي من رؤى عينيكِ يا للحلم المخصبِ

وأرتوي فيظمأ الملتقى إلى انهلال النّور في ملعبي

ما المقصود بالخمرة؟ الخمرة موجودة في أشعار الإمام الخميني وفي أشعار الشّيرازي...

البعض يفسِّرها تفسيراً لا أستسيغه. الخمرة المسكرة ماذا تفعل؟ تغيِّب الإنسان عن وعيه، بينما هنا المقصود أنَّ الخمرة الرّوحيَّة تغيِّب الإنسان عن ذاتيَّته وعن أنانيَّته، فلذلك الإمام الخميني في أشعاره أيضاً يطلب الخمر لكي يتخلّص من ذاتيّاته وأنانيّته...

- بالحبّ ننفتح على الآخر

س: هناك نقطة مهمّة في هذا السّياق، أنا تأمّلت تاريخيّاً، ووجدت أنّ أغلب العظماء والمفكّرين، ممن كانت مفردة الحبّ حاضرة لديهم، كان هناك انعكاس لها في العلاقة مع الآخر، مع من نختلف معه مذهبيّاً، وقد رأيناها في سماحة السيّد حينما كان يركّز على مفردة الحبّ، وترجم هذه المفردة في الواقع!

ج: طبعاً، فمن أهمّ محاور مشروع السيّد في علاقته مع الآخر، مسألة الحبّ، وهذه منعكسة في أشعاره بشكل واضح وعبَّر عنها.

لاحظ بعض المفردات، أنا ذكرت مفردة الخمرة، وذكرت مفردة الظّمأ: "وأرتوي فيظمأ الملتقى". فالظّمأ مما يدعو إليه العرفاء أيضاً، لأنَّ الظّمأ يبعث بالإنسان على الحركة، وإذا تحرّك، فسوف تنفجر في نفسه المعرفة. لاحظ الرّمز في هاجر (ع)، ظمئت، فسعت بين الصّفا والمروة، بعد سعيها انفجر زمزم الّذي يروي العطاشى على مرّ التاريخ.

وعندنا الشاعر المولوي جلال الدّين الرومي، يقول بما ترجمته:

أقللْ من طلب الماء واطلب العطش.. كي تتفجّر ينابيع المعرفة من كلّ وجودك..

هذه منظومة متكاملة عند سماحة السيِّد (رض).

سماحة السيّد فضل الله في عرفانه، وفي فكره، وفي شعوره، وفي دعوته إلى الوحدة، وفي دعوته إلى الاستئناف الحضاري، وإلى إيقاظ الشعور... هذه كلّها تشكل منظومة حضارية مهمّة يجب أن نقف عندها دائماً، من أجل أن نبلور هذا المشروع في حياتنا وفي مستقبلنا.

- كيف نحافظ على المشروع؟!

س: بعد تسع سنوات من غياب الجسد وحضور الفكر والعقل، وحضور منهج سماحة السيِّد، كيف يمكن أن نقرأ هذه القيم وهذا المشروع مستقبلاً في رأيكم؟ وكيف يمكن الحفاظ على هذا النَّهج، وعلى هذه المفاهيم؟ كيف يمكن بلورتها في الواقع؟

ج: هذه المسألة ترتبط بي وبك، يجب أن نحافظ على هذا المشروع، وأن لا نرى غياب السيّد باعتباره غياب مشروع، أن نبلوره، أن ننشره، أن نوصله ثقافياً، وبالّتي هي أحسن، يعني بالّتي هي أجمل، إلى أفهام النّاس وإلى أفهام الجماهير.

هذا باعتقادي رسالتنا، ورسالة كلّ الذين يقتدون بالسيد فكرياً وعلمياً وثقافياً، وأنا أفخر بأن أكون من تلاميذ هذه المدرسة، وأرجو أن أوفَّق أيضاً بالتعاون معكم في هذا المجال.

- استلهام واقتداء

س: دعنا نتحدَّث عن مشروعكم الإحيائي والوحدوي، فقد قلت منذ قليل إنّك استلهمت الكثير من أفكارك من أفكار سماحة السيّد، ووظّفت هذا المشروع في الكثير من كتاباتك؟

ج: لقد تعلّمت من السيد مسألة العلاقة بين الوحدة الإسلاميّة وبين إيقاظ الشعور والحضارة الإسلاميّة، ولذلك قدَّمت مشروعاً إلى وزارة التّعليم العالي في إيران، مشروع تأسيس مركز دراسات وحدة العالم الإسلامي، والمركز العلمي الذي يأخذ إجازة من وزارة التعليم العالي، يجب أن يكون عنده على الأقلّ فرعان دراسيّان، أنا قدّمت الفرع الأوّل وهو التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، والفرع الثاني استئناف مسيرة الحضارة الإسلاميّة.

قالوا: ما العلاقة بين التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة واستئناف مسيرة الحضارة الإسلاميّة؟ حينما وضَّحت ذلك على ضوء رؤية السيّد، تبيّن لهم أنه لا يمكن أن تكون عندنا وحدة حقيقيّة وتقريب بين المذاهب الإسلاميَّة، إلا إذا أيقظنا شعور الأمَّة، وأعدنا مسيرتها الحضاريّة. عند ذلك، تحيا وتتحقّق مسألة الوحدة الإسلاميّة.

س: كان سماحة المرجع (رض) يقول إنّ ملامح المشروع النهضوي له مفاتيح. تحدّثنا عن الوحدة الإسلاميَّة، تحدّثنا عن مشروع الإحياء، ولكنَّ مشروع العلاقة مع الآخر لم نعطه مجالاً أوسع، كيف يمكن أن تكون العلاقة مع الآخر على ضوء هذا المشروع؟

ج: العلاقة مع الآخر تنطلق من علاقة الإنسان مع نفسه أيضاً، إذا كان الإنسان غارقاً في ذاتيّته وفي أنانيّته وفي شخصيّته، فلا يمكن أن يتواصل مع الآخر، يتواصل مع الآخر حين يكسر هذه الأنانيَّة، هذه القوقعة، حين يكسر صنم الذّاتيّة، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}، هذه الأغلال؛ أغلال الطائفيَّة وأغلال القوميَّة وأغلال الحزبية، هذه يجب أن تكسر حتى تتواصل مع الآخر.

من المؤكَّد أنَّ الإنسان ينتمي إلى إقليم، ينتمي إلى وطن، إلى حزب، إلى مذهب، ولكنّ كلّ ذلك يجب أن لا يتحوَّل إلى غلّ يبعده عن التّواصل مع الآخر...

هذه الأخوَّة تتحقّق حينما تكسر هذه الأغلال.

يجب أن نتعامل أوّلاً مع أنفسنا، ونكسر هذه الأغلال في أنفسنا، لكي نتواصل مع الآخر، أمَّا إذا بقينا حبيسي الطائفيّة والمذهبيّة والإقليميّة والقوميّة، فهذه تبعدنا عن الآخر.

الغريب أنَّ أوروبّا فهمت هذه المسألة، أنت تعرف أنَّ الحرب العالميّة الأولى والثّانية ظهرت بسبب هذه الأطر الضيّقة التي كانت تعيش فيها أغلب الدول الأوروبيّة، فكسروا هذه الأطر حينما رأوا أنّ هناك مصلحة أكبر من هذه المسألة.

طبعاً هؤلاء حقّقوا بينهم وحدةً انطلاقاً من مصلحة مادية فرضت عليهم ذلك، ولكن نحن لنا مصلحة مادية وإنسانية ودينية وإلهيّة... إلخ.. كلّ المصالح تفرض علينا أن نكسر هذه الذاتية، وننطلق من أجل أن نتعامل مع الآخر بالتي هي أحسن.

وهذه فريضة الإسلام، وهذا هو أساس مشروع سماحة السيِّد (رض) الذي ينبغي إحياؤه وإدخاله ثقافيّاً في نفوس الآخرين.

- حرب بين التخلّف والوعي

س: الحمد لله أنَّ المؤسّسة عندنا تعنى بمشروع سماحة السيّد وآثار سماحته، وقد ترجمت إلى عدّة لغات (إندونيسيّة، روسيّة، الإنكليزيّة، الفرنسيّة...)، لأنّ المسلم اليوم في العالم متعطّش، بحاجة إلى فكر تنويريّ، بحاجة إلى منظومة إسلاميّة واعية، بحاجة إلى حوار مع الآخر، بحاجة إلى سلام مع من يختلف معه، وهذه، كما تفضّلت، هي من معالم المشروع الإحيائي والوحدوي للسيّد، ودائماً يبقى حضور سماحته أقوى من الغياب.

ج: يجب أن نسعى أكثر من ذلك، وأن نتّخذ كافّة السبل الناجحة والناجعة في عالمنا المعاصر لإيصال هذا الفكر الواعي. ففي الحقيقة، نحن أمام حرب بين التخلّف وبين الوعي، فهناك حرب المتخلّفين على الواعين وعلى دعاة الوعي، وهذه يجب أن نكسرها بالتي هي أحسن، لا أن نستفزّهم، ولكن لننفذ إلى قلوبهم وإلى قلوب الأمَّة، لتفهم الأمّة أنَّ هناك فريقين؛ فريقاً متخلّفاً، وفريقاً يريد أن يرفع بالأمّة إلى المستوى الّذي أراده الله لها باعتبارها الأمّة الشاهدة الوسط على مرّ التاريخ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا ويعينكم على هذا الطّريق.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير