مسؤوليتنا في غياب المهدي (عج) التزام الكتاب والعترة

مسؤوليتنا في غياب المهدي (عج) التزام الكتاب والعترة



معه ونحن ننتظره لا انتظار الغافلين، ولا انتظار المرتاحين، ولا انتظار المتعبين، بل انتظار الرساليّين، لأنّه في معناه في وجداننا الإسلاميّ، رسالة نعيش روحانيّتها في الحاضر، وننتظر حركيّتها في المستقبل، والسؤال الّذي لا بدّ لنا من أن نطرحه على أنفسنا، هو أننا نزوره، ونتوسّل إلى الله أن يعجّل ظهوره، ونتحدّث إليه بالمحبّة كلّها، وربما يبكي البعض شوقاً إليه، ولكن ليس هذا هو دورنا الحركي، لأن قضية أن تكون مسلماً، وأن تكون ملتزماً بمنهج أهل البيت(ع)، هو أن تبقى تتحرّك في الخطين اللّذين رسمهما رسول الله(ص) للأمّة من بعده، لترتبط الأمّة بهما معاً، لأنهما لن يفترقا في خطّ الرّسالة، فلا بدّ من أن لا يفترقا في وعي الذين يلتزمون الرّسالة: "إني تاركٌ فيكم الثّقلين؛ كتاب الله حبلٌ ممدود من السَّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنَّ اللَّطيف الخبير أخبرني أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا ماذا تخلّفوني فيهما"(1).


وهذا الحديث الشّريف الذي يرويه المسلمون جميعاً باختلاف مذاهبهم، يوحي إلينا أنهما ينطلقان ليكون أحدهما في خطّ الرسالة حبلاً ممدوداً من السماء إلى الأرض، وربما كان هذا كناية عن الامتداد لكتاب الله سبحانه وتعالى في الكون ككلّ، لأنه كلام الله ووحيه، وهو خطّ الرسالة في مضمونها الفكري والشرعي والمنهجي والحركي، أما العترة، فهم الذين يمثلون القيادة، وقد جاء في أكثر من حديث: "بُني الإسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودِيَ بالولاية"(2).


الولاية هي القيادة

والولاية تمثل القيادة التي تعيش رسول الله كلّه في معناه كلّه، كما تعيشه في العلم وفي الحركة وفي العصمة، من خلال الأحاديث التي ذكرها النبي(ص) بحقّ عليّ(ع): "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها"3، "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فانفتح لي من كلّ باب ألف باب"4، "يا عليّ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"5، وقول الله عزّ وجلّ فيهم جميعاً: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(6).


والعترة تمثّل قيادة، والقيادة انطلقت في خطّين: القيادة الحاضرة، وهي قيادة الإمام عليّ(ع) وأولاده من الإمام الحسن(ع) حتى الإمام الحسن العسكري(ع)، والقيادة الغائبة بالنّسبة إلينا والحاضرة في المستقبل، وهي قيادة الإمام الحجّة المهدي(عج)، ولكنّ غيبتها غيبة حضور وليست غيبة غياب كلّي، وإن كنّا لا نعرف معنى هذا الحضور بالحسّ، ولكنّنا نعرفه بالوجدان.


لذلك، عندما يقول رسول الله(ص): "فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، فمعنى ذلك أنهما متلازمان، فلا يمكن لنا أن نأخذ الكتاب وننفصل عن العترة، كما لا يمكن أن نأخذ العترة وننفصل عن الكتاب، فهما يتكاملان في خطّ الرّسالة وخطّ القيادة.. ونحن نعرف أنّ عظمة الرسالة في حركيّتها هي في فاعليّة القيادة وحركيّتها وعناصرها الّتي تميّزها عن الآخرين.

   لذلك، نحن نعيش الآن غيبته، ولكنّنا في الوقت نفسه، نعيش معنى حضوره في معنى الرسالة، ومعنى حضوره في معنى العترة من قبله، وفي معنى العناوين الكبرى التي أراد لها أن تتحقّق بشكل كلّي في عصره المستقبلي، وفي طبيعة المبدأ المستوحى من هذه العناوين.

منهج أهل البيت(ع)

لنقترب من الواقع أكثر، لنرى أنّنا هنا في هذه المرحلة من عصرنا، نلتزم الإسلام في منهج أهل البيت(ع)، ومنهج أهل البيت هو في كتاب الله وسنّة نبيّه، لأنه ليس لأهل البيت(ع) أية خصوصيّة زائدة عن خصوصية الإسلام، فهم ينفتحون على الإسلام كلّه، لا يزيدون فيه ولا ينقصون، لأنّ الإسلام في كتاب الله وسنّة رسوله كلمة الله، ونحن نعرف أنَّ رسول الله(ص) لم ينقص حرفاً ولم يزد حرفاً {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}(7). والنبيّ(ص) لا يفعل ذلك، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يوحي إلى النّاس من خلال ما تحدَّث به عن النبيّ(ص)، أنّ النبيّ، وهو حبيب الله، وهو سيّد خلق الله، لو فعل ذلك، و(لو) حرف امتناع لامتناع، لو فعل ذلك، لما كان هناك هوادة عند الله في أن يفعل به ذلك، فكيف بكم أنتم إذا أنقصتم حرفاً من الإسلام، أو زدتم حرفاً على الإسلام، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(8).


لهذا، لا بدّ لنا ـ أيها الأحبة ـ في التزامنا الإسلامي في منهج أهل البيت(ع)، أن نأخذ الكتاب كلّه، وأن لا ننقص منه حرفاً، وأن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، لنأخذ من الكتاب ما ينسجم مع ما نفكّر فيه ونترك منه ما لا ينسجم، بل لا بدّ لنا من أن نأخذ الكتاب كلّه، وأن نعمل به من خلال ظواهره الّتي أطلقها الله للناس ليفهموه، لأن الكتاب لم يأتِ ليكون كتاباً رمزيّاً، ولم يأتِ ليكون كتاباً لا يفهمه الناس، بل إنّه هو النور {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(9). فالكتاب نور للحقيقة، فلا يحتاج إلى نور ينيره، وإذا رأينا الكثير من الفِرَق الّتي حاولت أن تلقي بظلماتها على الكتاب، فتنحرف به عن ظواهره وعن مدلوله، فإنها لا تستطيع أن تمحو هذا النّور، لأنّ نور الكتاب ينطلق من أجل أن يشقَّ هذه الظّلمات كلّها وهذه الضبابيّة كلّها.

الالتزام بالكتاب والعترة

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ إنّ أول التزام بالإمام(عج)، هو أن نلتزم بالكتاب، وأن يكون القرآن كلّ شيء في حياتنا، أن نعيشه وأن نقرأه وأن نتدبّره وأن نعمل به، وأن نجعله عنواناً لثقافتنا ولسياستنا ولاقتصادنا ولاجتماعنا ولحربنا ولسلمنا، لأنّه يمثل العناوين الكبرى لذلك كله، وأن نلتزم العترة الذين التزموا الكتاب والتزموا النبي(ص)، لأنّ ما عندهم هو ما عند رسول الله(ص)، ولأن حديثهم هو حديث رسول الله، ولأنّ سيرتهم هي سيرة رسول الله..

لذلك، علينا أن ندرس العترة، وأن ندرس التراث الذي تركوه لنا مما صحّ منه، سواء كان تراث الكلمات التي تكلّموها، أو تراث السيرة التي ساروا عليها.. وإنّني أزعم ـ أيها الأحبة ـ أننا حتى ونحن نبكي عليهم في مآسيهم كلّها، ونفرح لهم في أفراحهم كلها، أزعم أننا حتى الآن لم نفم سرّ أهل البيت(ع)، ولم نفهم مناهجهم التربويّة والخطوط السياسية والخطوط الأخلاقية التي انطلقوا بها والقيم التي أثاروها.. إنهم بالنسبة إلينا دمعة نذرفها وفرحة نفرحها، أمّا غير ذلك، فإنّ الاتجاه العام في إثارة ذكرى أهل البيت(ع)، هو اتجاه تجميدهم في عقولنا، بدلاً من أن نحرّكها (أي الذكرى) حركة المسؤوليّة.

   لذلك، لا بدّ لنا من أن نفهم الكتاب والنبوّة وخطّ الإمامة في خطّ العترة، ليتكامل عندنا خطّ النظرية وخطّ التّطبيق، لأنّ النظريّة إذا لم تتصل بالجانب التطبيقي، فإنها تفقد حركتها في الواقع، ولذلك أمرنا الله بالكتاب، وجاء النبيّ ليعلّمنا الكتاب، وهو خطّ النظرية، وأمّا الحكمة، فهي خطّ التّطبيق.

   لذلك، لا بدّ من أن نشغل مرحلتنا بدراسة الكتاب والسنَّة، وبدراسة العترة، وأن نتحرّك في حركتهم، وهذا هو ما ورد عن الإمام الباقر(ع)، عندما أراد أن يتحدث عن خط التشيّع في خطّ الإسلام، فقال: "فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة... ـ إلى أن يقول ـ وصدق الحديث"(10)، "حسب الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولاّه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال إنّي أحبّ رسول الله، فرسول الله خير من عليّ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنَّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً. فاتّقوا الله، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النّار، ولا على الله لأحدٍ من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع"(11).

   الدَّعوة إلى الله

   هذا هو دورنا في هذه المرحلة، وهو أن نعيش ذلك في أنفسنا، لنبني قلوبنا وعقولنا وكياننا وحركتنا على هذا الأساس، ثم لا بدَّ لنا من أن نعمل من أجل أن نكون الدّعاة إلى الله، بأن نفهم الإسلام وندعو له في داخل الحياة الإسلاميَّة، حتى نستطيع أن نحفظ المسلمين من الضّلال ومن كلّ ما يتحرّك من كفرٍ في داخلنا، وفي خارج الحياة الإسلاميَّة، بأن ندعو النّاس إلى الإسلام، لأنَّ الكثيرين من النّاس في هذا العصر يمكن أن يدخلوا في الإسلام إذا أحسنّا عرضه وبيان مفاهيمه ونقاط القوّة فيه، وأحسنّا أن نكون القدوة له، فهذه هي المسألة الّتي أرادنا الله أن ننطلق فيها: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(12).

   إنّ الدّعوة إلى الإسلام في داخل الحياة الإسلاميّة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفي خارج البلاد الإسلاميّة في الدّعوة إلى أن يدخل الناس في الإسلام، مسألة حيوية لكل مسلم ومسلمة، لأن الإسلام هو هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون دين الحياة، وأن يختم به الدّنيا كلّها، فنحن نقرأ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.

   وقد ورد في الحديث: "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة"13، فلا بدّ لنا من أن ننمّي طاقاتنا الثقافيّة والعلميّة، من أجل أن نكون الدعاة إلى الإسلام، لأنّ هذا هو الذي يمثل السير في اتجاهه، لأن السير في اتجاهه ليس سيراً في اتجاه شخص، ولكنه سير في اتجاه رسالة، والإمام لا يبتعد عن الرسالة، بل هو تجسيد الرسالة، لأنّ القرآن هو القرآن الصّامت، والقياديون المعصومون هم القرآن الناطق.

   ثم ننتقل إلى دور آخر، وهو دور حركيتنا في واقع الإنسان، فالعنوان الكبير في حركته(ع)، أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والأحاديث تتحدَّث عن تطبيق أو إيحاءات هذه الآية لتشير إلى حركته المستقبليّة {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(14)، فالحديث هنا عن المستضعفين في زمن موسى(ع)، ولكنّ الله تحدث عن المسألة على أساس أنها سنَّة من سننه، وأنه سبحانه وتعالى لا يرضى للمستكبرين أن يسيطروا على المستضعفين، بل لا بدّ من أن يمنّ على المستضعفين ليجعلهم الوارثين، ومن الطبيعي أنَّ هذه الآية تشبه الأخرى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(15)، في أنها تتحدث عن هذه الحركة المستقبليّة التي قد تتمثّل بشكل جزئيّ في مرحلة معيّنة، وتتمثّل بشكل كلّي في المراحل النهائية للحياة.

   كونوا جنود العدل

   إنّ الله يريد لنا أن نكون جنود العدل، وأن نرفض المستكبرين لصالح المستضعفين، لأنّه سبحانه وتعالى لا يريد للمستضعفين أن يستضعفوا أنفسهم، ولا يريد لنا أن نترك المستضعفين تحت سيطرة المستكبرين. أمّا الجانب الأوّل، فهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا}(16). فالمستضعف الذي يملك أن يخرج عن استضعافه، والمستضعف الآخر الذي يملك أن يحوّل ضعفه إلى قوّة لينطلق في مواجهة المستكبرين من موقع قوّة جديدة، لا يعذره الله إذا انحرف تحت تأثير سيطرة المستكبرين عليه.

   أمّا الآية الثّانية التي تريد لنا أن نقاتل في سبيل المستضعفين، فإنّ الله يحدّثنا عن الذين يقاتلون في سبيل المستضعفين بقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}(17). ونحن نعرف أنّ من أهداف الإسلام هو القتال في سبيل المستضعفين. لهذا، فالله يريدنا أن نقاتل في سبيل المستضعفين، حتى لو كان المستضعفون غير مسلمين في بعض الحالات، فمسألة الاستكبار هي مسألة واحدة يرتبط بعضها ببعض، ذلك أنّ أية قوّة للاستكبار في موقع، تعطيه قوة في المواقع الأخرى، وأي ضعف للمستضعين في أي موقع، يكون ضعفاً للمستضعفين في موقع آخر..

   ومن هنا نعرف لماذا لا يريد الله الظلم كلّه، حتى ظلم المسلمين الكافرين، وقد ورد عندنا في (الكافي) عن أحد أئمة أهل البيت(ع): "إنَّ الله عز وجلَّ أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين، أن ائتِ هذا الجبَّار وقل له إنّي لم أستعملك على سفك الدّماء واتّخاذ الأموال، وإنَّما استعملتك لتكفَّ عني أصوات المظلومين، فإنّي لم أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّاراً"18. فلا يجوز للمسلمين أن يظلموا الكافرين، بمعنى أنّه إذا كان للكافر حقّ عندك، فلا يجوز لك أن تغمطه حقّه، وأن تقاتل الكافر عندما يكون محارباً أو مفسداً في الأرض، فهذا شيء آخر، ولكن في الحياة العامّة، إذا كان للكافر حقّ عندك، فلا يجوز لك أن تمنعه حقّه.

   ونحن ـ أيّها الأحبّة ـ عندما نعيش في واقعنا المعاصر الّذي يسيطر فيه الاستكبار العالمي على مقدّرات المستضعفين في العالم كلّه، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فإنّ علينا أن ندرس المسألة في دائرتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وأن ندرس كيف يمكن أن نقف ضدّ المستكبرين، فالهدف الكبير هو أن نسقط استكبار المستكبرين، بحيث لا تقوم لهم سلطة على المستضعفين في العالم، سواء فيما يتحركون به من مصادرة ثروات الشعوب، أو من مصادرة أمنهم، أو من محاولة مصادرة سياستهم، بحيث تكون سياستنا على هامش سياستهم، وأن لا يكون لنا استقلال في اقتصادنا وفي سياستنا وفي أمننا وفي قضايانا الحيوية، بل لتكون بأجمعها تحت سيطرتهم، وهذا الاستقلال هو هدف إسلاميّ كبير، إذ لا بدّ لنا من أن نقمع استكبار المستكبرين، ليعيش المستضعفون على أساس أن تكون لهم الحريّة في خطّ العدالة.

   ونحن نعرف ـ أيها الأحبة ـ أنّ حجم المشكلة التي نواجهها، ولا سيما في هذه الظروف، هي في مستوى حركة الصّراع في العالم، وأنه لا بدّ من أن يكون المستضعفون وحدة في قضاياهم المصيريّة، أو يكونوا جبهة في قضيّة الصّراع ضدّ الاستكبار، حتى يمكن لنا من هذا التّحالف بين المستضعفين من المسلمين والمستضعفين من غير المسلمين، أن نسقط المستكبرين، ليكون إسقاط المستكبرين في موقع قوّة من أجل إسقاطهم في موقع آخر، وليكون عزل المستكبرين عن موقع قويّ قوّةً لعزلهم في موقع آخر.

   الدّعوة إلى الوحدة

   إنّ علينا أن نفكّر في أن نتحالف أو ننسّق بين المستضعفين في العالم، ولقد كان الإمام الخميني(رض) على درجة كبيرة من الوعي للواقع السياسي في العالم، سواء واقع المسلمين في مقابل غير المسلمين، أو واقع المستضعفين في مقابل واقع المستكبرين، حيث أطلق شعارين في بداية الثّورة، هما: "أيّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا"، ثم أطلق: "يا مستضعفي العالم اتّحدوا"، لأنّه أدرك أنَّ المسلمين لن يكونوا قوّةً في إسلامهم إلا إذا اتحدوا، حتى يمكن أن يواجهوا الكفر والاستكبار من موقع واحد.

   وهكذا، فإنّ المستضعفين لا يملكون الوقوف ضدّ المستكبرين وإسقاطهم، لأنهم يملكون أقوى القوى المادية في الاقتصاد وفي السياسة وفي السلاح، فلا يمكن للمستضعفين أن ينتصروا عليهم إلا من خلال أن يستجمعوا قوّتهم كلها، وإذا اتحدوا في الموقع وفي الموقف، فإنّ من الممكن أن يصلوا إلى النتيجة المنشودة.

   والله حدَّثنا عن سنّة من سننه في الكون، وهي قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(19)، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(20)، فليس هناك قوّة خالدة في واقع الإنسان، وليس هناك ضعف خالد، فالضعيف بالأمس قد يصير قويّاً إذا أخذ باسباب القوّة، والقوي بالأمس قد يصير ضعيفاً إذا تبدّلت ظروف القوة في حياته.

   ونحن نعرف أنّ كثيراً من الشعوب كانت ضعيفة في الماضي وأصبحت تمثل قوة كبرى فيما بعد، وانظروا كيف كان اليهود، وهم أعداؤنا منذ البداية: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ}(21)، كيف كانوا شذّاذ آفاق، حتى كان يكتب على المطاعم والمؤسّسات في أمريكا وفي أوروبا: "ممنوع دخول الكلاب واليهود"، وانظروا أين أصبح اليهود الآن، فلقد أصبحوا قوّة سياسية واقتصادية وإعلامية وأمنية في المنطقة وفي أكثر من مكان في العالم، ثم انظروا كيف كانت بريطانيا في الأربعينيات والثلاثينيات سيّدة البحار، وأين هي بريطانيا اليوم، فهي لم تسقط تماماً، ولكنها أصبحت في الدرجة الرابعة من القوّة.

   لذلك ـ أيها الأحبة ـ علينا أن لا نسقط أمام قوّة الأقوياء، وأن نعمل على أساس أن لا نجترّ ضعفنا لنزداد ضعفاً بعد ضعف، بل علينا ونحن نذكر عليّاً(ع)، ونذكر الذين تحركوا قبل عليّ، وكيف كانت (موقعة خيبر)، عندما أرسل النّبيّ(ص) الرّاية بيد شخص، فرجع يجبّن أصحابه ورجعوا يجبّنونه، وهم يقولون: ليس بإمكاننا فتح القلعة، ولا نستطيع أن نقف أمامهم، وقالها رسول الله(ص): "لأعطينّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"، رجل يعيش الرسالة على مستوى العقيدة وعلى مستوى الحبّ الّذي ليس وراءه أي شيء من حبّ الحياة، رجل أحبّ الله ورسوله حتى باع نفسه لله ولرسوله، فلا مشكلة عنده في أيّة معركة يخوضها، وقد قال أكثر من مرّة إنّه لا يبالي "أدخل إلى الموت أو يخرج الموت إليّ". "ويحبّه الله ورسوله ـ لأنّ الله ورسوله عرفا أنّه عاش الحبّ كله للإسلام، حباً لله ولرسوله ـ كرّاراً غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه"(22). وانتصر الإسلام بعليّ(ع) الذي لم يعرف الضّعف سبيلاً إلى نفسه، فانطلقت قوّته الذاتية وقوته الربّانية التي أودعها الله فيه لينتصر، وقد نقل عنه أنّه قال: "ما خلعت باب خيبر بقوّة جسديّة أو بشريّة، ولكنّني خلعته بقوّة ربانيّة".

   لنعِش مع الله

   لذلك ـ أيها الأحبة ـ عندما نعيش مع الله، فإننا نستطيع أن نستلهم القوّة به: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}، والقوم يقتربون منه، حتى لم يكن بينه وبينهم إلا خطوتان {إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا}(23).

   وهكذا رأينا كيف ارتفع المسلمون الأوّلون مع رسول الله(ص) إلى مواقع القوّة من خلال عمق الإيمان الّذي أعطاهم القوّة كلّها في إيمانهم بالله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا}، من خلال قوّة الإيمان الّتي استمدّوها من إيمانهم بالله {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ}، فلم تجعلهم القوّة يطغون، بل ازدادوا تواضعاً لله {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} الإعلامي والشّيطان السياسي والشيطان الأمني {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(24).

   معه نسير نحوه وننتظره ونحن ندعو إلى الله، وننتظره ونحن نطيع الله، وننتظره ونحن نستمدّ القوّة من الله، ونتحرّك لنحقّق نصراً ولو بمستوى 10% اليوم، ليأتي الجيل من بعدنا ليحقّقوا نصراً آخر ونصراً آخر، لأنّ حركة النصر الكبير لا يمكن أن تنطلق إلا من خلال حركة الأجيال في طريق النّصر، وإذا لم نلتقِ به في معنى الحضور الواقعيّ، فإننا نلتقي به اليوم وغداً وبعد غد في معنى الحضور الرّساليّ، من أجل أن نمهّد له في موقعٍ ننتصر به اليوم، وفي بلد نفتحها غداً.

   أيها الأحبّة، قولوها دائماً، لا في شهر رمضان فحسب: "اللَّهمَّ إنَّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة".

   اللّهمَّ عجّل فرجه، وسهِّل مخرجه، واجعلنا من أنصاره وأتباعه والمستشهدين بين يديه.

   والحمد لله ربِّ العالمين.


فكر وثقافة، ج5، المحاضرة الثّامنة والعشرون: 16 شعبان 1419هـ/ الموافق 5 -  12 – 1998م


الفهرس

(1) البحار، ج:23،  ص:108.

(2) البحار، ج:68، ص:329.

3 وسائل الشّيعة، ج27، ص34.

4 الوافي، الفيض الكاشاني، ج1، ص360.

5 بحار الأنوار، ج5، ص69.

(6) سورة الأحزاب، الآية:33.

(7) سورة الحاقة، الآيات:44-47.

(8) سورة المائدة، الآية:3.

(9) سورة المائدة، الآيتان:15-16.

(10) البحار، ج:67، ص97.

(11) الكافي، ج:2، ص:74.

(12) سورة آل عمران، الآية:104.

13 بحار الأنوار، ج26، ص35.

(14) سورة القصص، الآيتان:5-6.

(15) سورة الأنبياء، الآية:105.

(16) سورة النساء، الآيتات:97- 99.

(17) سورة النساء، الآية:75.

18 الكافي، ج2، ص 333.

(19) سورة آل عمران، الاية:140.

(20) سورة آل عمران، الآية:26.

(21) سورة المائدة، الآية:82.

(22) البحار، ج:21، ص:3.

(23) سورة التوبة، الآية:40.

(24) سورة آل عمران، الآيتان:173- 175.



معه ونحن ننتظره لا انتظار الغافلين، ولا انتظار المرتاحين، ولا انتظار المتعبين، بل انتظار الرساليّين، لأنّه في معناه في وجداننا الإسلاميّ، رسالة نعيش روحانيّتها في الحاضر، وننتظر حركيّتها في المستقبل، والسؤال الّذي لا بدّ لنا من أن نطرحه على أنفسنا، هو أننا نزوره، ونتوسّل إلى الله أن يعجّل ظهوره، ونتحدّث إليه بالمحبّة كلّها، وربما يبكي البعض شوقاً إليه، ولكن ليس هذا هو دورنا الحركي، لأن قضية أن تكون مسلماً، وأن تكون ملتزماً بمنهج أهل البيت(ع)، هو أن تبقى تتحرّك في الخطين اللّذين رسمهما رسول الله(ص) للأمّة من بعده، لترتبط الأمّة بهما معاً، لأنهما لن يفترقا في خطّ الرّسالة، فلا بدّ من أن لا يفترقا في وعي الذين يلتزمون الرّسالة: "إني تاركٌ فيكم الثّقلين؛ كتاب الله حبلٌ ممدود من السَّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنَّ اللَّطيف الخبير أخبرني أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا ماذا تخلّفوني فيهما"(1).


وهذا الحديث الشّريف الذي يرويه المسلمون جميعاً باختلاف مذاهبهم، يوحي إلينا أنهما ينطلقان ليكون أحدهما في خطّ الرسالة حبلاً ممدوداً من السماء إلى الأرض، وربما كان هذا كناية عن الامتداد لكتاب الله سبحانه وتعالى في الكون ككلّ، لأنه كلام الله ووحيه، وهو خطّ الرسالة في مضمونها الفكري والشرعي والمنهجي والحركي، أما العترة، فهم الذين يمثلون القيادة، وقد جاء في أكثر من حديث: "بُني الإسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودِيَ بالولاية"(2).


الولاية هي القيادة

والولاية تمثل القيادة التي تعيش رسول الله كلّه في معناه كلّه، كما تعيشه في العلم وفي الحركة وفي العصمة، من خلال الأحاديث التي ذكرها النبي(ص) بحقّ عليّ(ع): "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها"3، "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فانفتح لي من كلّ باب ألف باب"4، "يا عليّ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي"5، وقول الله عزّ وجلّ فيهم جميعاً: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(6).


والعترة تمثّل قيادة، والقيادة انطلقت في خطّين: القيادة الحاضرة، وهي قيادة الإمام عليّ(ع) وأولاده من الإمام الحسن(ع) حتى الإمام الحسن العسكري(ع)، والقيادة الغائبة بالنّسبة إلينا والحاضرة في المستقبل، وهي قيادة الإمام الحجّة المهدي(عج)، ولكنّ غيبتها غيبة حضور وليست غيبة غياب كلّي، وإن كنّا لا نعرف معنى هذا الحضور بالحسّ، ولكنّنا نعرفه بالوجدان.


لذلك، عندما يقول رسول الله(ص): "فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، فمعنى ذلك أنهما متلازمان، فلا يمكن لنا أن نأخذ الكتاب وننفصل عن العترة، كما لا يمكن أن نأخذ العترة وننفصل عن الكتاب، فهما يتكاملان في خطّ الرّسالة وخطّ القيادة.. ونحن نعرف أنّ عظمة الرسالة في حركيّتها هي في فاعليّة القيادة وحركيّتها وعناصرها الّتي تميّزها عن الآخرين.

   لذلك، نحن نعيش الآن غيبته، ولكنّنا في الوقت نفسه، نعيش معنى حضوره في معنى الرسالة، ومعنى حضوره في معنى العترة من قبله، وفي معنى العناوين الكبرى التي أراد لها أن تتحقّق بشكل كلّي في عصره المستقبلي، وفي طبيعة المبدأ المستوحى من هذه العناوين.

منهج أهل البيت(ع)

لنقترب من الواقع أكثر، لنرى أنّنا هنا في هذه المرحلة من عصرنا، نلتزم الإسلام في منهج أهل البيت(ع)، ومنهج أهل البيت هو في كتاب الله وسنّة نبيّه، لأنه ليس لأهل البيت(ع) أية خصوصيّة زائدة عن خصوصية الإسلام، فهم ينفتحون على الإسلام كلّه، لا يزيدون فيه ولا ينقصون، لأنّ الإسلام في كتاب الله وسنّة رسوله كلمة الله، ونحن نعرف أنَّ رسول الله(ص) لم ينقص حرفاً ولم يزد حرفاً {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}(7). والنبيّ(ص) لا يفعل ذلك، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يوحي إلى النّاس من خلال ما تحدَّث به عن النبيّ(ص)، أنّ النبيّ، وهو حبيب الله، وهو سيّد خلق الله، لو فعل ذلك، و(لو) حرف امتناع لامتناع، لو فعل ذلك، لما كان هناك هوادة عند الله في أن يفعل به ذلك، فكيف بكم أنتم إذا أنقصتم حرفاً من الإسلام، أو زدتم حرفاً على الإسلام، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(8).


لهذا، لا بدّ لنا ـ أيها الأحبة ـ في التزامنا الإسلامي في منهج أهل البيت(ع)، أن نأخذ الكتاب كلّه، وأن لا ننقص منه حرفاً، وأن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، لنأخذ من الكتاب ما ينسجم مع ما نفكّر فيه ونترك منه ما لا ينسجم، بل لا بدّ لنا من أن نأخذ الكتاب كلّه، وأن نعمل به من خلال ظواهره الّتي أطلقها الله للناس ليفهموه، لأن الكتاب لم يأتِ ليكون كتاباً رمزيّاً، ولم يأتِ ليكون كتاباً لا يفهمه الناس، بل إنّه هو النور {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(9). فالكتاب نور للحقيقة، فلا يحتاج إلى نور ينيره، وإذا رأينا الكثير من الفِرَق الّتي حاولت أن تلقي بظلماتها على الكتاب، فتنحرف به عن ظواهره وعن مدلوله، فإنها لا تستطيع أن تمحو هذا النّور، لأنّ نور الكتاب ينطلق من أجل أن يشقَّ هذه الظّلمات كلّها وهذه الضبابيّة كلّها.

الالتزام بالكتاب والعترة

لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ إنّ أول التزام بالإمام(عج)، هو أن نلتزم بالكتاب، وأن يكون القرآن كلّ شيء في حياتنا، أن نعيشه وأن نقرأه وأن نتدبّره وأن نعمل به، وأن نجعله عنواناً لثقافتنا ولسياستنا ولاقتصادنا ولاجتماعنا ولحربنا ولسلمنا، لأنّه يمثل العناوين الكبرى لذلك كله، وأن نلتزم العترة الذين التزموا الكتاب والتزموا النبي(ص)، لأنّ ما عندهم هو ما عند رسول الله(ص)، ولأن حديثهم هو حديث رسول الله، ولأنّ سيرتهم هي سيرة رسول الله..

لذلك، علينا أن ندرس العترة، وأن ندرس التراث الذي تركوه لنا مما صحّ منه، سواء كان تراث الكلمات التي تكلّموها، أو تراث السيرة التي ساروا عليها.. وإنّني أزعم ـ أيها الأحبة ـ أننا حتى ونحن نبكي عليهم في مآسيهم كلّها، ونفرح لهم في أفراحهم كلها، أزعم أننا حتى الآن لم نفم سرّ أهل البيت(ع)، ولم نفهم مناهجهم التربويّة والخطوط السياسية والخطوط الأخلاقية التي انطلقوا بها والقيم التي أثاروها.. إنهم بالنسبة إلينا دمعة نذرفها وفرحة نفرحها، أمّا غير ذلك، فإنّ الاتجاه العام في إثارة ذكرى أهل البيت(ع)، هو اتجاه تجميدهم في عقولنا، بدلاً من أن نحرّكها (أي الذكرى) حركة المسؤوليّة.

   لذلك، لا بدّ لنا من أن نفهم الكتاب والنبوّة وخطّ الإمامة في خطّ العترة، ليتكامل عندنا خطّ النظرية وخطّ التّطبيق، لأنّ النظريّة إذا لم تتصل بالجانب التطبيقي، فإنها تفقد حركتها في الواقع، ولذلك أمرنا الله بالكتاب، وجاء النبيّ ليعلّمنا الكتاب، وهو خطّ النظرية، وأمّا الحكمة، فهي خطّ التّطبيق.

   لذلك، لا بدّ من أن نشغل مرحلتنا بدراسة الكتاب والسنَّة، وبدراسة العترة، وأن نتحرّك في حركتهم، وهذا هو ما ورد عن الإمام الباقر(ع)، عندما أراد أن يتحدث عن خط التشيّع في خطّ الإسلام، فقال: "فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع والأمانة... ـ إلى أن يقول ـ وصدق الحديث"(10)، "حسب الرّجل أن يقول أحبّ عليّاً وأتولاّه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال إنّي أحبّ رسول الله، فرسول الله خير من عليّ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنَّته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً. فاتّقوا الله، واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحدٍ قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النّار، ولا على الله لأحدٍ من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع"(11).

   الدَّعوة إلى الله

   هذا هو دورنا في هذه المرحلة، وهو أن نعيش ذلك في أنفسنا، لنبني قلوبنا وعقولنا وكياننا وحركتنا على هذا الأساس، ثم لا بدَّ لنا من أن نعمل من أجل أن نكون الدّعاة إلى الله، بأن نفهم الإسلام وندعو له في داخل الحياة الإسلاميَّة، حتى نستطيع أن نحفظ المسلمين من الضّلال ومن كلّ ما يتحرّك من كفرٍ في داخلنا، وفي خارج الحياة الإسلاميَّة، بأن ندعو النّاس إلى الإسلام، لأنَّ الكثيرين من النّاس في هذا العصر يمكن أن يدخلوا في الإسلام إذا أحسنّا عرضه وبيان مفاهيمه ونقاط القوّة فيه، وأحسنّا أن نكون القدوة له، فهذه هي المسألة الّتي أرادنا الله أن ننطلق فيها: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(12).

   إنّ الدّعوة إلى الإسلام في داخل الحياة الإسلاميّة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وفي خارج البلاد الإسلاميّة في الدّعوة إلى أن يدخل الناس في الإسلام، مسألة حيوية لكل مسلم ومسلمة، لأن الإسلام هو هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون دين الحياة، وأن يختم به الدّنيا كلّها، فنحن نقرأ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.

   وقد ورد في الحديث: "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة"13، فلا بدّ لنا من أن ننمّي طاقاتنا الثقافيّة والعلميّة، من أجل أن نكون الدعاة إلى الإسلام، لأنّ هذا هو الذي يمثل السير في اتجاهه، لأن السير في اتجاهه ليس سيراً في اتجاه شخص، ولكنه سير في اتجاه رسالة، والإمام لا يبتعد عن الرسالة، بل هو تجسيد الرسالة، لأنّ القرآن هو القرآن الصّامت، والقياديون المعصومون هم القرآن الناطق.

   ثم ننتقل إلى دور آخر، وهو دور حركيتنا في واقع الإنسان، فالعنوان الكبير في حركته(ع)، أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والأحاديث تتحدَّث عن تطبيق أو إيحاءات هذه الآية لتشير إلى حركته المستقبليّة {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(14)، فالحديث هنا عن المستضعفين في زمن موسى(ع)، ولكنّ الله تحدث عن المسألة على أساس أنها سنَّة من سننه، وأنه سبحانه وتعالى لا يرضى للمستكبرين أن يسيطروا على المستضعفين، بل لا بدّ من أن يمنّ على المستضعفين ليجعلهم الوارثين، ومن الطبيعي أنَّ هذه الآية تشبه الأخرى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(15)، في أنها تتحدث عن هذه الحركة المستقبليّة التي قد تتمثّل بشكل جزئيّ في مرحلة معيّنة، وتتمثّل بشكل كلّي في المراحل النهائية للحياة.

   كونوا جنود العدل

   إنّ الله يريد لنا أن نكون جنود العدل، وأن نرفض المستكبرين لصالح المستضعفين، لأنّه سبحانه وتعالى لا يريد للمستضعفين أن يستضعفوا أنفسهم، ولا يريد لنا أن نترك المستضعفين تحت سيطرة المستكبرين. أمّا الجانب الأوّل، فهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا}(16). فالمستضعف الذي يملك أن يخرج عن استضعافه، والمستضعف الآخر الذي يملك أن يحوّل ضعفه إلى قوّة لينطلق في مواجهة المستكبرين من موقع قوّة جديدة، لا يعذره الله إذا انحرف تحت تأثير سيطرة المستكبرين عليه.

   أمّا الآية الثّانية التي تريد لنا أن نقاتل في سبيل المستضعفين، فإنّ الله يحدّثنا عن الذين يقاتلون في سبيل المستضعفين بقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}(17). ونحن نعرف أنّ من أهداف الإسلام هو القتال في سبيل المستضعفين. لهذا، فالله يريدنا أن نقاتل في سبيل المستضعفين، حتى لو كان المستضعفون غير مسلمين في بعض الحالات، فمسألة الاستكبار هي مسألة واحدة يرتبط بعضها ببعض، ذلك أنّ أية قوّة للاستكبار في موقع، تعطيه قوة في المواقع الأخرى، وأي ضعف للمستضعين في أي موقع، يكون ضعفاً للمستضعفين في موقع آخر..

   ومن هنا نعرف لماذا لا يريد الله الظلم كلّه، حتى ظلم المسلمين الكافرين، وقد ورد عندنا في (الكافي) عن أحد أئمة أهل البيت(ع): "إنَّ الله عز وجلَّ أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين، أن ائتِ هذا الجبَّار وقل له إنّي لم أستعملك على سفك الدّماء واتّخاذ الأموال، وإنَّما استعملتك لتكفَّ عني أصوات المظلومين، فإنّي لم أدع ظلامتهم ولو كانوا كفّاراً"18. فلا يجوز للمسلمين أن يظلموا الكافرين، بمعنى أنّه إذا كان للكافر حقّ عندك، فلا يجوز لك أن تغمطه حقّه، وأن تقاتل الكافر عندما يكون محارباً أو مفسداً في الأرض، فهذا شيء آخر، ولكن في الحياة العامّة، إذا كان للكافر حقّ عندك، فلا يجوز لك أن تمنعه حقّه.

   ونحن ـ أيّها الأحبّة ـ عندما نعيش في واقعنا المعاصر الّذي يسيطر فيه الاستكبار العالمي على مقدّرات المستضعفين في العالم كلّه، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فإنّ علينا أن ندرس المسألة في دائرتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وأن ندرس كيف يمكن أن نقف ضدّ المستكبرين، فالهدف الكبير هو أن نسقط استكبار المستكبرين، بحيث لا تقوم لهم سلطة على المستضعفين في العالم، سواء فيما يتحركون به من مصادرة ثروات الشعوب، أو من مصادرة أمنهم، أو من محاولة مصادرة سياستهم، بحيث تكون سياستنا على هامش سياستهم، وأن لا يكون لنا استقلال في اقتصادنا وفي سياستنا وفي أمننا وفي قضايانا الحيوية، بل لتكون بأجمعها تحت سيطرتهم، وهذا الاستقلال هو هدف إسلاميّ كبير، إذ لا بدّ لنا من أن نقمع استكبار المستكبرين، ليعيش المستضعفون على أساس أن تكون لهم الحريّة في خطّ العدالة.

   ونحن نعرف ـ أيها الأحبة ـ أنّ حجم المشكلة التي نواجهها، ولا سيما في هذه الظروف، هي في مستوى حركة الصّراع في العالم، وأنه لا بدّ من أن يكون المستضعفون وحدة في قضاياهم المصيريّة، أو يكونوا جبهة في قضيّة الصّراع ضدّ الاستكبار، حتى يمكن لنا من هذا التّحالف بين المستضعفين من المسلمين والمستضعفين من غير المسلمين، أن نسقط المستكبرين، ليكون إسقاط المستكبرين في موقع قوّة من أجل إسقاطهم في موقع آخر، وليكون عزل المستكبرين عن موقع قويّ قوّةً لعزلهم في موقع آخر.

   الدّعوة إلى الوحدة

   إنّ علينا أن نفكّر في أن نتحالف أو ننسّق بين المستضعفين في العالم، ولقد كان الإمام الخميني(رض) على درجة كبيرة من الوعي للواقع السياسي في العالم، سواء واقع المسلمين في مقابل غير المسلمين، أو واقع المستضعفين في مقابل واقع المستكبرين، حيث أطلق شعارين في بداية الثّورة، هما: "أيّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا"، ثم أطلق: "يا مستضعفي العالم اتّحدوا"، لأنّه أدرك أنَّ المسلمين لن يكونوا قوّةً في إسلامهم إلا إذا اتحدوا، حتى يمكن أن يواجهوا الكفر والاستكبار من موقع واحد.

   وهكذا، فإنّ المستضعفين لا يملكون الوقوف ضدّ المستكبرين وإسقاطهم، لأنهم يملكون أقوى القوى المادية في الاقتصاد وفي السياسة وفي السلاح، فلا يمكن للمستضعفين أن ينتصروا عليهم إلا من خلال أن يستجمعوا قوّتهم كلها، وإذا اتحدوا في الموقع وفي الموقف، فإنّ من الممكن أن يصلوا إلى النتيجة المنشودة.

   والله حدَّثنا عن سنّة من سننه في الكون، وهي قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}(19)، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(20)، فليس هناك قوّة خالدة في واقع الإنسان، وليس هناك ضعف خالد، فالضعيف بالأمس قد يصير قويّاً إذا أخذ باسباب القوّة، والقوي بالأمس قد يصير ضعيفاً إذا تبدّلت ظروف القوة في حياته.

   ونحن نعرف أنّ كثيراً من الشعوب كانت ضعيفة في الماضي وأصبحت تمثل قوة كبرى فيما بعد، وانظروا كيف كان اليهود، وهم أعداؤنا منذ البداية: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ}(21)، كيف كانوا شذّاذ آفاق، حتى كان يكتب على المطاعم والمؤسّسات في أمريكا وفي أوروبا: "ممنوع دخول الكلاب واليهود"، وانظروا أين أصبح اليهود الآن، فلقد أصبحوا قوّة سياسية واقتصادية وإعلامية وأمنية في المنطقة وفي أكثر من مكان في العالم، ثم انظروا كيف كانت بريطانيا في الأربعينيات والثلاثينيات سيّدة البحار، وأين هي بريطانيا اليوم، فهي لم تسقط تماماً، ولكنها أصبحت في الدرجة الرابعة من القوّة.

   لذلك ـ أيها الأحبة ـ علينا أن لا نسقط أمام قوّة الأقوياء، وأن نعمل على أساس أن لا نجترّ ضعفنا لنزداد ضعفاً بعد ضعف، بل علينا ونحن نذكر عليّاً(ع)، ونذكر الذين تحركوا قبل عليّ، وكيف كانت (موقعة خيبر)، عندما أرسل النّبيّ(ص) الرّاية بيد شخص، فرجع يجبّن أصحابه ورجعوا يجبّنونه، وهم يقولون: ليس بإمكاننا فتح القلعة، ولا نستطيع أن نقف أمامهم، وقالها رسول الله(ص): "لأعطينّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"، رجل يعيش الرسالة على مستوى العقيدة وعلى مستوى الحبّ الّذي ليس وراءه أي شيء من حبّ الحياة، رجل أحبّ الله ورسوله حتى باع نفسه لله ولرسوله، فلا مشكلة عنده في أيّة معركة يخوضها، وقد قال أكثر من مرّة إنّه لا يبالي "أدخل إلى الموت أو يخرج الموت إليّ". "ويحبّه الله ورسوله ـ لأنّ الله ورسوله عرفا أنّه عاش الحبّ كله للإسلام، حباً لله ولرسوله ـ كرّاراً غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه"(22). وانتصر الإسلام بعليّ(ع) الذي لم يعرف الضّعف سبيلاً إلى نفسه، فانطلقت قوّته الذاتية وقوته الربّانية التي أودعها الله فيه لينتصر، وقد نقل عنه أنّه قال: "ما خلعت باب خيبر بقوّة جسديّة أو بشريّة، ولكنّني خلعته بقوّة ربانيّة".

   لنعِش مع الله

   لذلك ـ أيها الأحبة ـ عندما نعيش مع الله، فإننا نستطيع أن نستلهم القوّة به: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}، والقوم يقتربون منه، حتى لم يكن بينه وبينهم إلا خطوتان {إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا}(23).

   وهكذا رأينا كيف ارتفع المسلمون الأوّلون مع رسول الله(ص) إلى مواقع القوّة من خلال عمق الإيمان الّذي أعطاهم القوّة كلّها في إيمانهم بالله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا}، من خلال قوّة الإيمان الّتي استمدّوها من إيمانهم بالله {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ}، فلم تجعلهم القوّة يطغون، بل ازدادوا تواضعاً لله {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} الإعلامي والشّيطان السياسي والشيطان الأمني {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(24).

   معه نسير نحوه وننتظره ونحن ندعو إلى الله، وننتظره ونحن نطيع الله، وننتظره ونحن نستمدّ القوّة من الله، ونتحرّك لنحقّق نصراً ولو بمستوى 10% اليوم، ليأتي الجيل من بعدنا ليحقّقوا نصراً آخر ونصراً آخر، لأنّ حركة النصر الكبير لا يمكن أن تنطلق إلا من خلال حركة الأجيال في طريق النّصر، وإذا لم نلتقِ به في معنى الحضور الواقعيّ، فإننا نلتقي به اليوم وغداً وبعد غد في معنى الحضور الرّساليّ، من أجل أن نمهّد له في موقعٍ ننتصر به اليوم، وفي بلد نفتحها غداً.

   أيها الأحبّة، قولوها دائماً، لا في شهر رمضان فحسب: "اللَّهمَّ إنَّا نرغب إليك في دولةٍ كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة".

   اللّهمَّ عجّل فرجه، وسهِّل مخرجه، واجعلنا من أنصاره وأتباعه والمستشهدين بين يديه.

   والحمد لله ربِّ العالمين.


فكر وثقافة، ج5، المحاضرة الثّامنة والعشرون: 16 شعبان 1419هـ/ الموافق 5 -  12 – 1998م


الفهرس

(1) البحار، ج:23،  ص:108.

(2) البحار، ج:68، ص:329.

3 وسائل الشّيعة، ج27، ص34.

4 الوافي، الفيض الكاشاني، ج1، ص360.

5 بحار الأنوار، ج5، ص69.

(6) سورة الأحزاب، الآية:33.

(7) سورة الحاقة، الآيات:44-47.

(8) سورة المائدة، الآية:3.

(9) سورة المائدة، الآيتان:15-16.

(10) البحار، ج:67، ص97.

(11) الكافي، ج:2، ص:74.

(12) سورة آل عمران، الآية:104.

13 بحار الأنوار، ج26، ص35.

(14) سورة القصص، الآيتان:5-6.

(15) سورة الأنبياء، الآية:105.

(16) سورة النساء، الآيتات:97- 99.

(17) سورة النساء، الآية:75.

18 الكافي، ج2، ص 333.

(19) سورة آل عمران، الاية:140.

(20) سورة آل عمران، الآية:26.

(21) سورة المائدة، الآية:82.

(22) البحار، ج:21، ص:3.

(23) سورة التوبة، الآية:40.

(24) سورة آل عمران، الآيتان:173- 175.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير